الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الأرشيف وسؤال المدينة العتيقة المغربية ..

عبد السلام انويكًة
باحث

2022 / 5 / 28
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


ما هو عتيق من مدن المغرب وما هو دفين في زمنها من عقليات وذهنيات وتيمة ثقافة وعلاقات ووعي مجتمع رمزي ومعيش وتعايش، هو بحاجة لعناية أوسع في أفق ما هو كائن من درس وحضن بمؤسسات بحثية علمية انسانية هناك بدول الغرب، ذلك أن هذه المدن في تجلياتها ونسيج زمنها الفسيفسائي رغم ما هناك من تدفق وزخم تحول، هي وعاءات لحركة تاريخ ومساحات حيوية بمشاهد حضارة وانسانية انسان. والمغرب بحكم زمنه وطبيعة موقعه وتفاعله البشري عبر العصور، هو بوعاء مدن عتيقة واسع مقارنة جعله بلداً بإرث مادي ولامادي هام في بعده الانساني، لعل من هذه المدن نجد تازة الشهيرة بممرها والمنتصبة منذ العصر الوسيط بإحدى شرفات جبل مطل يصل شرق البلاد بغربها ومقدمة الريف بمرتفعات الأطلس، مدينة بمعالم أثرية عدة شاهدة على ما كانت عليه من أدوار ومظاهر فعل وتفاعل مستقر منذ قرون.
وبقدر ما تعود هذه الحاضرة المغربية الأصيلة للقرن السادس الهجري مع ما هناك من سؤال حول نشأة ونواة لا تزال بقراءات وتعدد تأسيس ونظر، بقدر ما شهدت فترة ريادة خاصة على عهد دولة بني مرين لعوامل عدة ومتداخلة، تلك التي بنهايتها تكون تازة قد طوت حلقة ذهبية من زمنها تأثث فيه أعظم ما تحضنه وتفخر به من ارث مادي ولامادي جامعٍ بين عمارة دين وفكر وسياسة وتحف وأعلام وغيرها. علما أن ما شهدته المدينة من فتور معبر لم يمنع من حضورها كمحطة ذات أهمية خلال فترات لاحقة، لِما هي عليه من سلطة موقع وممر فاصل وواصل. قبل أن تطفو من جديد وتبرز بشكل لافت مطلع القرن الماضي، لِما ارتبط بها من تطورات سياسية حرجة وما طبع ممرها من وقع خاص في علاقة شرق البلاد بغربها، إثر ما شهدته حدودها الشرقية من أطماع استعمارية وتطلعات انتهت بفرض حماية فرنسية فضلا عن نقل عاصمة البلاد من فاس الى الرباط، ما تقلصت معه أهمية تازة بعد ما كان لها من تفاعل وثيق على أكثر من مستوى مع فاس على امتداد قرون.
صوب زمن تازة ووقائعها وكيانها وهويتها وما يهم عموما تاريخها الاجتماعي خلال العصر الوسيط، لا بديل عن أهمية انصات الباحث لِما هناك من ارث وثائقي محلي أصيل حرص السلف على حفظه هنا وهناك، قبل أن يشهد أرشيف البلاد ما شهده من التفات مؤسس وتدبير ورؤية تحديث وفعل تقني منذ حوالي العقدين، ليس فقط من خلال ما أحيط به من نص وتأطير ومؤسسة ونظم تدبير ومساطر وغيرها، انما ايضا لِما حصل من وعي به وبأهمية ما من شأنه مساعدة الباحث المؤرخ على نبش قضايا مدن البلاد العتيقة، وتأسيس لحظات كتابة رافعة بقدر معين من انتقاء وتناسب ومعطيات. مع أهمية الاشارة لِما يسجل ايجابا من تطلعات تهم ما هو أرشيف وطني بما فيه الأرشيف الرمزي الأصيل الحضري، في أفق ما ينبغي من استثمار رافع لنماء حاضر ومستقبل بلاد وعباد، فضلا عن بحث انساني عبر ذاكرة لا تزال بتوزع هنا وهناك بين أفراد وأسر ومؤسسات وغيرها.
حول الرصيد الوثائقي المغربي الأصيل في علاقته بتازة وبما ينبغي من بحث منفتح على المدينة العتيقة خلال العصر الوسيط، ارتأينا اطلالة على تيمة الحوالات الحبسية التي ارتبطت لدى مغاربة الأمس بوضع أملاك في خدمة صالح عام، تلك التي توزعت على محلات تجارة وأراضي وبساتين وغيرها، كانت مداخيلها روح حياة واستمرارية أنشطة مدارس وجوامع وزوايا ومرافق اجتماعية وغيرها. وغير خاف ما هناك من صعاب تخص نبش الباحث لقضايا زمن مدن مغرب العصر الوسيط الاجتماعي، ومن ثمة ما يمكن أن تسهم به حوالات هذه المدن الحبسية من معطيات بقدر عال من الأهمية. تلك التي تشكل تراثا رمزيا وعلميا مغربيا اصيلا كان ينظر اليه الى عهد قريب على أنه بجفاف معرفي وببعد عن حقل التاريخ وكتابته، علما أن هذه الحوالات هي بتنوع جوانب تخص قضايا عيش ونظم علاقات ومظاهر حياة وغيرها، تلك التي من شأن ابرازها ملأ بياضات تطبع نصوصا تاريخية مصدرية كما الحوليات حيث تخمة ما هو سياسة وحروب وبطولات وزعامات وغيرها.
وحوالات المدن العتيقة الحبسية التي تجمع في مضانها بين ممتلكات وخبر مرافق وعقارات واحصاءات ومصاريف ونصوص عدلية وغيرها، اعتمدت أول الأمر على عهد دولة بني مرين التي اشتهرت بخدماتها الوقفية خلال العصر الوسيط. وكان بنو مرين قد احاطوا تدوين معاملات الوقف بقدر كبير من العناية، من خلال دفاتر خاصة هي الآن مساحة ارشيف تاريخي بأهمية بحثية في قضايا المغرب الوسيط الاجتماعية والاقتصادية والفكرية. ولعل بقدر ما تقاسمت حوالات تازة الحبسية المرينية جوانب دفينة من زمن المدينة، بقدر ما توزعت على محبسين صوب مدارس وأضرحة فقهاء وأعلام ومجاري وسواقي ودور عبادة وزوايا وجوامع وحمامات وغيرها. حوالات ووثائق تاريخية بمعطيات هامة تشكل جوهر عمل كل باحث مهتم. وغير خاف ما هناك من صنف رسمي في هذه الحوالات لدقة تدوينه وتوثيقه وصدقيته ومن ثمة أهميته في الكتابة التاريخية، أما الثاني غير الرسمي من هذه الحوالات فهو الخاص بقضايا وممتلكات بطبيعة أسرية كثيرا ما يصعب على الباحث بلوغها.
وتازة هي بأرشيف تراثي أصيل هام من الحوالات الحبسية، لِما طبع أهلها من ثقافة توقيف باعتباره عملا خيريا انسانيا، خدمة لِما ينفع الناس من خدمات عبر هذا المرفق والكيان والأسلوب أو ذاك، وهو دونوه وأشهدوا عليه في وثائق تناولت جوانب عدة وأمكنة بمعطيات هامة من شأنها إبراز ما كانت عليه المدينة من علاقات وتفاعلات وقيم وغيرها. خاصة وأن تازة كانت بوقع وموقع متميز زمن دولة بني مرين جعلها في مقدمة مدن البلاد لِما كانت عليه من نشاط ومرافق مجتمع وتجليات تفاعل، من جملة ما أورد الحسن الوزان عنها كون المدينة كانت تشتمل على ما يقرب من خمسة آلاف أسرة وأن قصور اشرافها وما كان بها من مدارس ومساجد هي في غاية الاتقان، مشيرا لنهر صغير ينحدر من الجبل المجاور ويمر بالمدينة ويخترق جامعها الكبير، وأن هذا المجرى المائي كان يتعرض من حين لآخر لتغيير مجراه من قِبل الجبليين كلما حصل خصام مع سكان المدينة، وبصرفهم لمياه هذا المجرى الى مكان آخر كانت تتأذى المدينة كثيرا، إذ لا يمكن حينئذ طحن الحبوب ولا الحصول على ماء صالح للشرب وأن أهل تازة كانوا يضطرون للاكتفاء بماء خزانات عكر. هذا قبل أن يضيف حول وضع المدينة الترابي الاجتماعي الفكري، عندما أشار الى المدينة في تقديره تحتل الدرجة الثالثة في البلاد نظرا لمكانتها وحضارتها، مشيرا الى أنها تتوفر على جامع أكبر من جامع فاس وثلاث مدارس وحمامات وفنادق وأسواق منتظمة، فضلا عن شجاعة وكرم أهالي والذين منهم علماء واخيار وأثرياء وعن تعايش مع فئة يهود هم بحوالي خمسمائة دار بالمدينة. معرجا في اشاراته التاريخية ذات الطبيعة الاجتماعية والفكرية العمرانية، الى أن ملوك مدينة فاس من بني مرين عادة ما يعينون ثاني ابناءهم على هذه المدينة، مشيرا أنها تستحق أن تكون حاضرة المغرب لِما يطبعها من مناخ جيد وطبيعة ومياه، بل من جملة ما أورده عن تازة اشارته الى أن ملوك بني مرين كانوا يقضون بها الصيف كله. هكذا اذن هي صورة تازة بعيون الحسن الوزان في مغرب العصر الوسيط، وهذا ما اثاره من اشارات حول مكاننها كأنشطة وعلاقات وتفاعلات ومرافق مجتمع أطرتها متون حوالات حبسية بمعطيات هامة. تلك التي يسجل أن أول من انفتح عليها واستثمرها في عمله من الباحثين حول المدينة قبل ما يزيد عن ثلاثة عقود، هو الأستاذ مبروك الصغير الذي أثث أطروحة من طراز رفيع نال بها شهادة دكتوراه بجامعة السربون بباريس، ومن خلالها أثث مؤلفا بحوالي سبعمائة صفحة هو بقدر كبير من الأهمية التاريخية والاركيولوجية والترابية حول تازة، لا يزال لحد الآن أعظم وثيقة تحتويها خزانة تازة التاريخية العلمية البحثية بل حلقة مرجعية علمية أهم وأفيد لكل باحث ودارس.
وكانت حوالات تازة الحبسية، قد استحضرت المدينة ضمن مشاهد بيئية واجتماعية فضلا عن تجليات علائقية وتفاعلات معيشية وتعايشية، من خلال ما ورد فيها مثلا رغم صعوبة قراءة مضامينها لشدة تقادمها نجد ما ارتبط بدُور علم وفكر وتربية من قبيل المدرسة المرينية (مدرسة المشور)، وما خص به السلطان أبي الحسن وابنه السعيد هذه المعلمة من التفات عبر أملاك بفاس وتازة تم تحبيسها عليها لضمان نشاطها ومهمتها واستمراريتها، ومن هذه الوثيقة الحبسية يستشف ما كانت عليه هذه المدرسة من بناء وتوجيه ومحراب وموضع صلاة وعلاقة بأزقة مدينة وتواريخ ذات صلة واسماء سلاطين وغيرها. نفس الشيء ما ارتبط بوثيقة تحبيس تخص ضريح بن بري التازي امام القراء المغاربة، تضمنت اشارات هامة تخص شخصية فقهية تازية من حيث مؤلفاتها واهتماماتها ونبوغها فضلا عن تاريخ ولادة ووفاة. ناهيك عما جاء في حوالات تازة الحبسية زمن بني مرين، من اشارات توزعت على حاجات المدينة من ماء وسواقي في علاقة بدُور عبادة وأمكنة وأكرية ومنتوجات ونظافة وأزقة وغيرها، كلها مساحات من شأنها بلورة معطيات بحقيقة تاريخية نسبية طبعا. مع أهمية الاشارة الى أن رصيد تازة من وثائق تحبيس لا يقتصر على فترة العصر الوسيط، بل يمتد ليشمل ويستحضر ما طبع زمنها الحديث من علاقات ومعاملات ومبادرات وعناية سلطانية بعمارتها الدينية، خاصة جامعها الأعظم وأثاثه الروحي وتقاليده من أنشطة قراءات حزبية ومجالس وغيرها، كذا من دعوة للتعاون وتجاوز النزاعات وتيسير حاجيات المدينة في علاقة بمحيطها.
جدير بالاشارة الى أن المستشرقين هم أول من انتبه للوثيقة الحبسية ولأهميتها التاريخية حول المجتمع المغربي، ومن هؤلاء نجد الفرنسيين من قبيل"ألفريد بيل" و"لفي بروفنسال" و"جاك بيرك" وغيرهم. مع ما يسجل حول تأخر انفتاح اعمال بحث المغاربة التاريخي على هذا الوعاء الوثائقي حتى نهاية سبعينات القرن الماضي، وعليه ما كان من قيمة مضافة وما يحسب لجهود من انفتح منهم على هذا الأرشيف، من قبيل الأستاذ عبد الله العروي ومحمد المنوني ومحمد بن شريفة وغيرهم. هذا الى حين ما ينبغي من التفات لأرشيف مدن المغرب العتيقية، وما ينبغي من وضع لأرشيف تازة وحوالاتها الحبسية رهن اشارة باحثين ومهتمين من خلال مؤسسة أرشيف المغرب، والى حين أيضا ما ينبغي من جيل باحث جديد ومن ثمة مقاربات مندمجة واشكالات وتعميق نظر فيما تم تناوله من قضايا، فضلا عن استثمار وعاء مادة مصدرية اتسعت بفضل ما تم تحقيقه من نصوص، كذا ما ينبغي من انتروبولوجي تاريخي ومن ثمة رمزي ثقافي حول زمن مدن المغرب العتيقة، في أفق بحث ودراسات ومعرفة تاريخية بقدر معين من تجديد ونوع وقيمة مضافة.

عضو مركز ابن بري للدراسات والأبحاث وحماية التراث








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. دعوات دولية لحماس لإطلاق سراح الرهائن والحركة تشترط وقف الحر


.. بيان مشترك يدعو إلى الإفراج الفوري عن المحتجزين في قطاع غزة.




.. غزيون يبحثون عن الأمان والراحة على شاطئ دير البلح وسط الحرب


.. صحيفة إسرائيلية: اقتراح وقف إطلاق النار يستجيب لمطالب حماس ب




.. البنتاغون: بدأنا بناء رصيف بحري في غزة لتوفير المساعدات