الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الحياة، كوميديا رديئة الإخراج

سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي

(Saoud Salem)

2022 / 5 / 28
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


أركيولوجيا العدم
العودة المحزنة للقفص الزجاجي
١٤٤ - الحياة والكوميديا

من الواضح إذا أن التعريف القديم لمفهوم العبثية - وكذلك لمفهوم العدمية - قد فقد صلاحيته منذ زمن طويل وأصبح غير ساري المفعول، وعلينا اليوم أن نزور هذه المقولات من جديد ونحللها في ضوء "روح الجدية"، وهي الإضاءة التي قدمتها لنا الفلسفة الفرنسية ممثلة في سيمون دو بوفوار. هذه الروح الغريبة التي تتحكم في العالم وتجعل الإنسان يجري طوال الليل والنهار من أجل أشياء وهمية تافهة وبدون قيمة حقيقية، هذه الروح التي تسري في عروق البشر الذين يؤمنون بمعنى الأشياء وغائية الكون وضرورة الحياة وبرسالة البشرية، هذه الروح التي ينادي بها العديد من الفقهاء وعلماء الدين وغيرهم من المؤمنين بالله والغيب، تجعل الإنسان مجرد مخلوق مزري ووسيلة في يد الفنان الأعظم، وتحرمه من إنسانيته، كما في هذا المثال الذي أخذناه من أحد المواقع الإسلامية الداعية للتمسك بهذه الروح : " فيا أيها المؤمنون فإن غاية الإسلام من أتباعه تكوين أمة صالحة تصلح للخلافة وإعمار الأرض، لتحافظ على كيانها، وترتقي بنفسها إلى المعالي، ولن يكون ذلك إلا بالتحلي بالجدية والإيجابية "، "الجدية صفة أساسية وخلق لازم للمؤمنين الذين عاهدوا الله على أن يحيوا لدعوته، أو يموتُوا في سبيلها، حيث تطبع بصماتها وتتحلى مظاهرها في جُل المواقف والأحوال. عدم الجدية يؤدي إلى الوقوع في المعصية والنفاق والعياذ بالله. فسبب المعصية الأولى هو النسيان وقلة العزم والجدية، وهذا يتقاسمه كل بني البشر، وهي المنافذ الأولى التي يخترقها الشيطان من الإنسان، ﴿ وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ﴾ [طه: 115]. لذا كان الرسل ودعواتهم على مستوى من الجدية بقدر ما يمنع عنهم الخطأ ويحقق العصمة "... ويمكن إيجاد العشرات من الأمثلة على هذا النوع من الأدب الركيك المبني برمته على فكرة واحدة قديمة قدم الدهر، وهي فكرة العلة الأولى والخالق اللامتناهي القدرة والسلطان، رب السموات والأرض، خالق البشر والحيوان العالم بالسر والجهر وبما يجري في الصدور .. إلخ
والغريب في الأمر أن روح الجدية هذه، بالأحرى التعبير الجدي عن المشروع الإنساني وعلاقة الإنسان بالعالم والكائنات الأخرى، ظهرت وترعرعت في بقعة صغيرة وموبوءة من العالم، بقعة صحراوية جافة لا زرع فيها ولا خضرة خالية من الماء ومن الشجر حسب الدراسات الجيولوجية والأركيولوجية المعاصرة، أرض تعشش فيها الثعابين والعقارب والرياح الساخنة. وفي بقية أنحاء العالم الواسعة، حيث الزرع والماء والشلالات والأنهار والجبال والسهول والوديان، لم تخطر على بال أحد فكرة الخالق الجبار مبدع السهول والأنهار، والذي يحاسب البشر على أعمالهم ويقايضهم بالجنة والنار، يحرقهم في سعير جهنم إذا لم يسبحوا بحمده وينبطحوا أمام جلالته، ويضع عذراء أو حورية في أسرتهم إذا طلبوا رحمته وانبطحوا على الأرض وقبلوا التراب لحمده إتقاء لجبروته .. والسؤال المحير الآن، ليس لماذا ظهرت فكرة الألوهية والثواب والعقاب في هذه البقعة الجغرافية بالذات، وإنما السؤال الحقيقي هو ماهي الأسباب التي جعلت هذه الفكرة - الأسطورة تتجاوز حدود هذه البقعة الجغرافية وتنتشر كالدخان أو بتعبير معاصر كإشعاع نووي في جميع أنحاء العالم وتخلب قلوب البشر في كل أنحاء المعمورة؟
العبثية الحقيقية تتجسد إذا في هذا الإنتشار الواسع لفكرة قديمة ترفض أن تموت أو تتلاشى من المخيلة البشرية، وهي ضرورة الغاية والهدف وجدية الوجود. لقد تعودنا على إستعما هذا المصطلح في غير محله، بل في الكثير من الأحيان بمعنى مضاد ومعاكس لما يمكن أن يدل علية حقيقة. وهذا ليس غريبا ولا شاذا عن القاعدة العامة لتطور الكلمة وتغير الدلالة من حقبة زمنية إلى أخرى، وكثير من المفاهيم تحولت إلى نقيضها تماما، وتاريخ الفكر مليء بمثل هذه الإنقلابات - الدلالية ـ والقاريء يتذكر ولا شك "اللغة الجديدة -Newspeak" لجورج أورويل في روايته ١٩٨٤. ولا شك أن مقولة العدم والعدمية تعاني بدورها من هذا الإنقلاب الدلالي، وأصبحت تعني نقيض ما ترمي إليه في البداية. فالإنسان الذي حرر جسده وعقله من الغيبيات والأوهام واقتنع بأن الحياة مجرد مغامرة بلا بداية ولا نهاية، غير ضرورية ونمارسها بالصدفة ولايمكن بأي حال من الأحوال أخذها بجدية، فهي مجرد مهزلة شكسبيرية، هذا الإنسان الساخر من نفسه ومن الله والقدر وبقية المقدسات، يسمى عدميا، ونضع على وجهه رداء أو خمارا من السلبية المطلقة. بينما في الواقع، عدم الإيمن بالمتعالي اللانهائي هو الموقف الإيجابي الوحيد الممكن والمتاح أمام الإنسان، الموقف الوحيد الذي يمكن إتخاذه تجاه الحياة والعالم والمجتمع. وهو الموقف الوحيد الذي يسمح للإنسان بخلق وإبداع الحياة في كل لحظة وكل ثانية. الموقف الوحيد المفتوح على المستقبل، دون أن ينتظر أي شيء من هذا المستقبل، سوى أن يخلق ذاته ومشروعه الوجودي الساخر.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أبرز القضايا التي تصدرت المناظرة بين بايدن وترامب


.. الرئيس الأميركي جو بايدن ومنافسه ترامب يتبادلان الاتهامات بع




.. هل يتنحى بايدن؟ وأبرز البدلاء المحتملين


.. توثيق اشتباكات عنيفة في رفح جنوبي قطاع غزة




.. آيزنكوت: يجب على كل الذين أخفقوا في صد هجوم السابع من أكتوبر