الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الفلسفة والوظيفة المزدوجة

قاسم المحبشي
كاتب

(Qasem Abed)

2022 / 5 / 31
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


في ندوة فكرة هامة، نضمها قسم الفلسفة ورئيسه الزميل الدكتور مسلم حسن في جامعة رابرين السليمانية رانية بعنوان قسم الفلسفة وآفاق التغيير والتجديد. 30 مايو 2022م مساءا ادارتها الدكتورة بتولا بكفاءة مهنية عالية. إذ جمعت الندوة نخبة متميزة من الأكاديميين والأكاديميات الأكراد والعرب وسنحت لي الفرصة بالمشاركة بورقة بحثية، عن قسم الفلسفة والتنمية الثقافية المستدامة. اليكم خلاصتها:
القسم العلمي هو الوحدة الأساسية في بنية المؤسسة الأكاديمية حيث تتم العملية التعليمية وتتحقق وظائفها الجوهرية؛ الوظيفية التعليمية المتمثلة في حفظ المعرفة وتدريسها وتداولها عبر الأجيال. والوظيفة البحثية المتمثلة في بحث المعرفة وموضوعاتها ونقدها تجديدها وانتاجها ووظيفة خدمة المجتمع المتمثلة في تطبيق المعرفة واختبارها في حل المشكلات الاجتماعية وتنمية المجتمع والوظيفة التنويرية المتمثلة في محاربة الجهل والأوهام والخرفات وتنوير الاذهان بالفكر العقلاني العلمي المستنير .
وحينما يكون الحديث عن قسم الفلسفة فهذا يعني بأننا نتوقف عن أول قسم علمي في تاريخ المؤسسة الأكاديمية منذ اكاديمية أفلاطون 427ق م. ومنذ ذلك الحين وعلى مدى الفين وخمسمائة عاما تطورت أقسام الفلسفة وتجددت وتغيرت وتوسعت عبر بحيث غدت اليوم تعد بالالف فلا تخلو جامعة من الجامعات المعاصر من قسم للفلسفة. والسؤال هنا هل يكفي الفلسفة ما حققته من ازدهار مؤسسي وتوسع أفقي كمي على صعيد العالم؟ وجوابي هذا لا يكفي الفلسفة لتأكيد حضورها في العالم
رغم اهميته بالتأكيد. أن الأهم في نظر هو ما حققته الفلسفة على صعيد تنوير العقول وتنمية المجتمعات الإنسانية تنمية ثقافية مستدامة بمعنى تنمية الذكاء الإنساني بمختلف انواعه وابعاده وخصائصه بحسب نظرية الذكاءات المتعددة لعالم النفس الامريكي هاورد غاردنر التي تعني فيما تعنيه أن الكائن الانساني مزودا بقدرات ذكاءية ومواهب فردية متنوعة( الذكاء المنطقي والذكاء الوجداني والذكاء البصري والذكاء الايقاعي والذكاء الوجودي والذكاء الاجتماعي والذكاء الأخلاقي والذكاء الجمالي.الخ) تنمية إنسان عقلاني يمكن التنبؤ بسلوكه وردود افعاله في حدود ما يمتلكه من حرية وضمير إنساني فعال. ومن المعلوم أن تأسيس أقسام الفلسفة في معظم الجامعات العربية والإسلامية قد جاء استجابة لمقتضيات محاكاة التحديث والحداثة ما بعد الكولونيالية وقد اتسمت الجامعات العربية واقسامها العلمية ومناهجها بسمة التقاليد والقيم الأكاديمية السائدة في الدول الاوروبية المستعمرة بكسر السين وفقا لمقتضيات علاقات التبعية والتقليد ففي الجامعة العراقية هيمنت التقاليد الاكاديمية السكسونية الصارمة وفي بلدان المغرب العربي والشمال الافريقي هيمنت النزعة الفرنسية الأكاديمية الفراكفورتية وفي المؤسسة الجامعية المصرية العريقة تمازجت التقاليد الاكاديمية الفرنسية والبريطانية مع القيم والتقاليد الأكاديمية المؤسسية المصرية المحلية. وفي بلاد الشام سوريا ولبنان تنويعة من التقاليد والقيم الأكاديمية الفرنسية والامريكية والاشتراكية الماركسية وحينما كانت عدن في حماية الإتحاد السوفيتي الاشتراكي الماركسي كان قسم الفلسفة الوحيد في جامعتها صور مصغرة
للنمط الاشتراكي الماركسي ثم جرى تعديله مع الأيام. أن هذا التقاليد والقيم الاكاديمية التي شكلت ولازالت تشكل بنية ومنهجية الدراسات الفلسفية ومقرراتها في أقسام الفلسفة العربية لم تتمكن من تحقيق الأهداف المرجوة منها. كتب الزهيدي مصطفى" إن ما يجعلنا في حاجة إلى إعادة النظر في تعريف الفلسفة، وقيمتها، هو تشكيكنا في الطرح الذي يعتقد في كون كل من ولج إلى المدرسة / المؤسسة قد تعلم الفلسفة. وهذا التشكيك نابع من شهادات الواقع، التي تجعلنا نصادف، يوميا، وفي وضعيات مختلفة، طلابا درسوا الفلسفة في المرحلة الثانوية أو الجامعية، لكنهم في كل مناحي حياتهم وسلوكهم، لا يزالون يسلكون ويتصرفون، كما يتصرف بادئ الرأي - الإنسان البسيط في التفكير الذي يسلّم لانطباعاته. وهذا ما يجعل المسلمة، التي تقدم إلينا، بأن تعريف الفلسفة بات واضحا بمجرد ما نقول إنها محبة / عشق / إيثار، ونزوع نحو الحذق، والمهارة، والحقيقة، والحكمة، لا يفي بالغرض. من هنا نكون دائما في حاجة إلى البحث عن تعريف للفلسفة خارج التعريفات الايتيمولوجية والمعجمية والتاريخية الشائعة. بل نكون هنا، في حاجة إلى استيعاب «روح الفلسفة»( ينظر، الزهيدي مصطفى، تجديد النظر إلى الفلسفة بمناسبة يومها العالمي، صحيفة الشرق الأوسط)
ومن المعلوم أن الفلسفة ليست معنية بتدريس معارف جاهزة ومكتملة من الماضي بل مباشرة الدخول وتقحم اسئلة الحاضر ومشكلاته الحيوية الفورية المتعينة
ومن خبرتي المتواضعة في دراسة الفلسفة وتدريسها وادارة قسمها لا حظت أن هم مسألة في الدرس الفلسفي هي مسألة تحفيز الأذهان بالاسئلة المتصلة بالذوات المستهدفة كآن نطلب من الطلاب الجواب عن سؤال من أنا أنت ومن هو الإنسان؟ وماذا تعني لك الحياة؟ ومن هو الآخر؟ وما هو العدل والخير والجمال ..الخ أي تدريسهم بروح الفلسفة ذاتها وليس تزويدهم بمعرفة مكتسبة من تاريخ الفلسفة فقط. فماذا يفيدنا قول بارميندس اليونان " الوجود موجود والعدم غير موجودا"؟ أو قول الفارابي" الوجود هو الذي إذا تصورته غير موجودا نجم عن تصورك محال" أو قول هيجل "العقل يحكم العالم"أو قول سارتر "الوجود أسبق من الماهية"كل الأجوبة القديمة جاءت لتشبع اسئلة زمانها. اليوم لم يعد الوجود هو الوجود الذي ادهش افلاطون بل صار وجودا افتراضيا أكثر منه واقعيا ولم يعد العالم منقسما إلى ما تحت فلك القمر وما فوق فلك القمر بل صار وجودا متصلا. ولم تعد الثنائيات الميتافيزيقية التقليدية قائمة( الذات والموضوع والروح والجسد والفكر والواقع والمادي والروحي والمنطقي والتاريخي الخ) في عالم انكمش في الزمان والمكان وبات شديد التداخل والتواصل والاتصال. أن الحاجة إلى اكتساب فن التفكير الناقد هي الأهم في تدريس الفلسفة والعلوم الإنسانية والتفلسف معناه الدخول إلى بداية كل بداية إذ أن استنارة الفكر لا يمر من الطريق الملكية لمعرفة واثقة دائما من ذاتـها بل يمر من طريق التواضع الفكري والشك المنهجي ونقد الجهل المكابر.
أن الفلسفة اليوم مدعوة إلى تجديد ذاتها ومناهجها واساليب تدريسها بما يجعلها قادرة على استئناف دهشته وقول كلمتها فاذا كانت بوما ميرفا اليونانية تطلق جناحيها للريح مع مقدم الأصيل بحسب هيجل ويقصد أن الفلسفة لا تحضر الا في آخر النهار بعد اكمال مسار العالم لتتعقله وتمنحه المعنى فإنها اليوم مدعوة للاستيقاظ منذ بزوغ الفجر لترى ما يحدث 
في عالم سريع الايقاع والتغيير. فالأمس غير اليوم وغدًا غير الأمس، وحوادث الزمان والناس والمعرفة هي جديدة وفريدة ونوعية في كل لحظة من لحظات السيرورة التاريخية. ونحن نعيش التاريخ كما تعيش الأسماك بالماء وليس بمقدورنا الخروج منه أو مغالطة استحقاقاته الفورية المباشرة فأما أن نستجيب إلى تحدياتها ونتدبر أمرنا في كيفية تجاوزها وأما سحقتنا بعجلاتها وتجاوزتنا. ولا شيء يأتي إلى التاريخ من خارجه ولا شيء يخرج منه. التاريخ هو التاريخ يمضي إلى سبيله من الماضي إلى الحاضر إلى المستقبل وليس بمقدور أحد إيقافه. أن تجديد الفلسفة يعني فيما يعنيه تجديد اسئلتها وطرق نظرها واساليب تدريسها بروح فلسفية جديدة.
أن أقسام الفلسفة في الجامعات العربية اليوم تقع عليها مهمة؛ مزدوجة تغيير وتجديد ذاتها وتنوير وتنمية المجتمع برمته
والمهم السعي والعمل لجعل مادة الفلسفة تستنهج في كل الجامعات والكليات والأقسام العلمية الطبيعية والإنسانية بوصفها متطلب جامعي ثقافي تنويري تنموي إذ بينت الدراسات البحثية المقارنة للعلاقة بين التخصصات العلمية والنزعة التطرفية والإرهابية أن معظم المنجذبين لممارسة الأعمال الإرهابية ومن لديهم قابلية للتطرف العنيف هم من طلاب الكليات العلمية التي لا تدرس الفلسفة والعلوم الإنسانية "جاء في الدراسة التي أعدها خبير في المجلس الثقافي البريطاني، أن نصف من سمتهم "الجهاديين" -أي ما يعادل 48.5% منهم- الذين انخرطوا في تلك الحركات في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تلقوا نوعا من التعليم العالي، 44% منهم حاصلون على درجات في الهندسة. وترتفع هذه النسبة بين الجهاديين الغربيين إلى 59%.وأظهرت دراسة عن "الإرهابيين" في تونس -التي أعمل فيها مهندس كهربائي قتلا للسياح على شاطئ سوسة في يونيو/حزيران الماضي- نسبا مماثلة. وأشارت دراسة أخرى إلى أن من بين 18 مسلما بريطانيا تورطوا في هجمات إرهابية، درس ثمانية منهم الهندسة أو تقنية المعلومات، وأربعة آخرون العلوم والصيدلة والرياضيات، في حين تلقى واحد فقط دروسا في العلوم الإنسانية " وفي هذا السياق جاء كتاب (مهندسو الجهاد: العلاقة بين التطرف العنيف والتعليم) تأليف كل من "دييجو جامبيتا" Diego أستاذ علم الاجتماع في معهد الجامعة الأوروبية بفلورنسا، وستيفين هيرتوج" أستاذ مشارك في كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية استند الكتاب عل دراسة عينة مكونة من (497) شخصاً من الجماعات المتطرفة، بيانات توفرت بيانات لعدد (207) فردا منهم، إذ وُجد أن منهم (93) تخصصوا في الهندسة، بينما حوالي (38) شخص كانت تخصصاتهم في الدراسات الإسلامية، في حين أن الأعداد الأقل كانت في تخصصات أخرى، كالتالي: عدد (21) تخصصوا في الطب، و(12) في الاقتصاد، و(8) في الرياضيات والعلوم، و(5) في القانون، والبقيّة من تخصصات أخرى متنوعة (ينظر،أحمد عبدالعليم،مهندسو الجهاد: دراسة في العلاقة بين التعليم والتطرف العنيف، المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، 4 يوليو 2016). وفي محاولته تفسير العلاقة المحتملة بين التخصصات العلمية والظاهرة الإرهابية صاغ مارتن روز كبير مستشاري المجلس البريطاني لشؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، مفهوم (العقلية الهندسية) التي تتمحور حول فكرة غاية في السهولة إذ تنظر إلى الأشياء عبر منظارين إما صواب وإما خطأ. وترى الدراسة أن هذه النزعة تضر بقدرة طلاب العلوم والهندسة على تنمية مهارات التفكير النقدي." ن دراسة الهندسة تجعل الخريجين أقل قدرة على استيعاب الطبيعة الارتباطية المتداخلة التي تتسم بها العمليات والعلاقات السياسية والاجتماعية، وبالتالي فهم أقل قدرة على التعامل مع العالم المحيط باعتباره نتيجة تفاعلات متزامنة من عمليات معقدة. وفي المقابل، يفترض هؤلاء الطلاب أن كل ما حولهم له طبيعة ميكانيكية "عقلانية" أقرب إلى ما هو عليه الحال في طريقة عمل الماكينات والآلات، بما يجعلهم أكثر تقبلا لفكرة واحدية النظام إلى حد قولبته. أضف إلى ذلك أن طبيعة الدراسة لا تقترب من المعتقدات الدينية بأي شكل من الأشكال، وهو ما يجعل الدارس - على الأقل طوال فترة دراسته، التي تمتد إلى خمس سنوات - غير معرض للوقوف أمام النصوص الدينية والتفكير فيها بشكل نقدي؛ وهو ما ينتج في النهاية شخصًا أكثر تقبلا للنص، وأكثر قابلية للتأثر بالحجج التي تقدمها الجماعات المتطرفة"( العالم دراسة: خريجو الهندسة أكثر ميلا إلى التنظيمات الإرهابية، الاقتصادية، الرياض، 9 مايو 2019). وقبل ثلاث سنوات عبر الأكاديمي والكاتب السعودي سليمان الضحيان عن صدمته البالغة من الافعال الانتحارية الإرهابية التي اقدم عليها أطباء ومهندسين في العراق والاردن ويرى في تفسيره لهذه الظاهرة " أن طبيعة الهندسة والرياضيات والعلوم تعتمد على منهج علمي صارم، لا يسمح بوجود وجهات نظر متعددة، بل النتيجة تكون حاسمة، وهذا المنهج ينتج عقلية تتعامل مع الواقع الإنساني بما فيه من أفكار، وأشخاص، وأحداث كما تتعامل مع المادة الصماء، وذلك بمقياس صارم يقوم على ثنائية الصواب والخطأ، والحق والضلال، ولا مجال فيه لوجهات نظر، أو نسبية، وهذا ما يقتل فيها الروح النقدية، ويجعلها أقرب للخضوع لفكرة واحدة باعتبار أنها هي الحق والصواب غير القابل لأي تساؤل أو مراجعة، وهذا ما يسهِّل تجنيدها في جماعات العنف؛ لأن منهج تلك الجماعات قائم على الصرامة في فهم الدين، والثنائية الحادة في فهم تعاليمه، فليس ثمة لديها إلا كفر وإيمان، وهو فهم نهائي لا يقبل المراجعة، أو التعددية في الفهم، وهي بهذا المنهج تتوافق مع المنهج الذي تربى عليه أصحاب التخصص العلمي، بخلاف مناهج العلوم الإنسانية القائمة على النسبية، وتعدد وجهات النظر، والقابلية للنقد" ينظر، سليمان الضحيان ، أي التخصصات الجامعية أكثر قابلية للتطرف؟ جريدة مكة، 9 مارس 2016).
والخلاصة؛ أننا بحاجة إلى فلسفة تعلم التفكير والفهم أكثر مما تعلم النظريات والمفاهيم. فلسفة إنسانية تجعل من الإنسان وحريته وكرامته وحقوقه محور اهتمامها ومبلغ اهدافها. فلسفة قادرة على تنمية وتأهل الذكاءات المتنوعة في الذوات الإنسانية الفردية وجعلها
خلاقة ومبدعة وقادرة على التكيف العقلاني المرن مع متغيرات العالم وايقاعاته المتسارعة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أكبر هيكل عظمي لديناصور في العالم معروض للبيع بمزاد علني.. ب


.. لابيد يحذر نتنياهو من -حكم بالإعدام- بحق المختطفين




.. ضغوط عربية ودولية على نتنياهو وحماس للقبول بمقترحات بايدن بش


.. أردوغان يصف نتائج هيئة الإحصاء بأنها كارثة حقيقية وتهديد وجو




.. هل بإمكان ترامب الترشح للرئاسة بعد إدانته بـ34 تهمة؟