الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مسيرةُ المفهوم من جزئيّات الّلغة إلى كليّات الوجود

علي حسين يوسف
(Ali Huseein Yousif)

2022 / 6 / 1
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


نعتقد أنَّ الاختلاف حول المصاديق الخاصّة بالمفاهيم الوجوديّة الكبرى يعدّ أساس التّفلسف ، فالمفهوم بوصفه وحدة معرفيّة مجرّدة لاشكّ أنّه متأتّ من حالات لا حصر لها من المصاديق بعد أن تمّ التقريب بينها وجمعها لذلك فإنّ المفهوم مع أنّه يمثّل تلك المصاديق مجموعةً لكنّه لا ينطبق بالضرورة عليها وهي أفراد فمفهوم المادّة الذي يعدّ من أعمّ المفاهيم يشتمل على أكثر عدد من المصاديق في الوجود لكنّه قد لا ينطبق على كلّ واحد من أفراده لكنّ اطلاقه عليها كلّها ضرورة لابدّ منها لغرض فهمها وتقريبها والأمر ينطبق على المفاهيم المجرّدة الأخرى مثل مفاهيم : الشّيء والوجود والأفكار والإدراك والحياة وغيرها ، وهذا هو مكمن الاختلاف الفلسفيّ على مرّ العصور والأزمان وهو باب الاجتهاد بين المفكرين بصورة عامّة ، لذلك يرى جورج باركلي (ت١٧٣٥) إنّ أخطاء الفلاسفة ، وخاصّة لوك ، مردّها إلى الغموض الّلغوي لكنّ وصول باركلي إلى هذا الاستنتاج أمر يتطلّب تتبّع المسارات الذهنيّة التي سار عليها الرّجل منذ أن ساوره هاجس الفلسفة وكيفيّة فهمه لمفاهيم مثل : الأفكار والإدراك والأشياء وسنمرّ على ذاك سريعاً .
باركلي أمضى عمره في إيرلندا وكان قد تلقّى دروسه الجامعيّة في كليّة كيلينكي ونُصب قسّاً عام ۱۷۰۷ ، ثم عيّن نائباً لأسقفٍ ثمّ أسقفاً وتزوّج سنة ۱۷۲۸ ، وتوفّي بينما كان يُشرف على إلحاق ابنه بكليّة کرایست تشيوش بأوکسفورد وقبره في الكاتدرائية هناك .
كتب باركلي كتابه (محاولة من أجل نظريّة في الرّؤية) سنة ( ۱۷۰۹ ) وكتابه (أصول المعرفة البشريّة) سنة ( ۱۷۱۰ ) وكتابه (ثلاث محاورات بين هيلاس وفیلونوس) وهو كتاب لطيف وممتع ، وقد ترجم إلى العربيّة.
ويبدو أنّ كتابه ثلاث محاورات جاء ردّة فعل لما كان سائداً من أفكار ماديّة وهنا تكمن طرافة الكتاب ، فقد ساء بركلي — وهو ذلك المؤمِن الورع — أن يرى موجةً من الإلحاد وفساد الأخلاق تطغي على قومه باسم الفلسفة الماديّة ، فنشَر هذا الكتاب وهو عبارة عن حوارٍ فلسفيّ يُمثِّل فيه هيلاس نظرية الماديِّين ، فينقُض فيلونوس آراءه بالحُجَج الدامغة ، وفيلونوس هذا إنّما يُعبِّر في هذا الحوار عن آراء بركلي نفسه .
أما في الكتب الأخرى فقد أفصح بارکلي عن فلسفة واضحة لا غموض فيها فالقارئ يجد وبسهولة أنّ هذا الفيلسوف جمع بين الميتافيزيقا والدّين في سلّة واحدة ، فقد عدّه يوسف كرم رجل دين مثل مالبرانش الفرنسيّ ، وفي الحقيقة لا يمكن فهم باركلي جيداً دون العودة إلى جون لوك إذ أنّ فلسفته تبدو ردة فعل لفلسفة لوك ، فبعد أن سلّم لوك بأنّ الاسم يثير في النّفس معنًى مؤلّفاً من الخصائص المشتركة بين أفراد النّوع أو الجنس الواحد ، قال باركلي (لست أدري إن كان لغيري تلك القوّة العجيبة ، قوة تجريد المعاني ، أمّا أنا فأجد أنّ لي قوّة تخيّل معاني الجزئيّات التي أدركتها ، وتركيبها وتفصيلها على أنحاء مختلفة … ولكن يجب على كلّ حال أن يكون لها شكل ولون ، وكذلك معنى الإنسان عندي يجب أن يكون معنى إنسان أبيض أو أسود أو أسمر ، مقوّم أو معوج ، طويل أو قصير أو متوسّط ، ومهما أحاول فلست أستطيع تصوّر المعنى المجرّد ، ومن الممتنع عليَّ أيضاً أن أتصوّر المعنى المجرّد لحركة متمايزة من الجسم المتحرّك ، لا هي بالسّريعة ولا بالبطيئة، ولا بالمنحنية ولا بالمستقيمة ، وقس على ذلك سائر المعاني الكليّة المجرّدة) .
ومن النّصّ المتقدّم نلحظ أنّ آراء باركلي في قضيّة الأفكار والمفاهيم تتستق مع فلسفته العامّة التي برهن فيها مراراً على أنّ العالَم الماديَّ ليس له وجودٌ مُستقلّ عن العقل الذي يُدركه ، وإنّ العقول وما تشمل عليه من أفكارٍ هي وحدَها الحقيقيّة ، ولمَّا كان الله هو العقل الأسمى فهو بهذا باعث أفكارنا ، كما أنّه في الوقت نفسه هو الذي يُوجِد ما بينها من روابط .
ويبدو باركلي كأنّه نتاجّ معارضّ لما جاء به جون لوك فقد كان لوك ينظر إلى العالم على أنّه نظام میکانیکيّ يتكوّن من أجسام موجودة في المكان مصنوعة من المادّة التي تتميّز بالصّلابة والشّكل والامتداد والحركة أو السّكون والعدد وتؤثر على الحواس والعقول والأبدان ، وعلى أساس هذا التأثير تنشأ الأفكار في العقل بحسب لوك ، وهذه الأفكار على الرّغم من أنّها تمثّل طبيعة العالم الخارجيّ إلّا أنّها لا تصدق في تمثيلها من جوانب أخرى ، فالأفكار المتعلّقة بالصّوت واللون والرّائحة ليس لها وقائع تطابقها في العالم ، فهي حالات يتأثّر فيها الإنسان بحكم التّكوين ، هذه هي صورة العالم كما رآها لوك .
من هنا انطلق باركلي الذي أكّد على أنّ أفكار لوك هذه مثيرة للسّخرية لأنّها تؤدّي إلى تشكيك يتعارض مع الإدراك الفطري السّليم ، إذ كيف يمكن لإنسان لا يعي شيئا من أفكاره أن يعرف أيّ شيء عن العالم الخارجيّ الذي قال به لوك ؟ وينتقد باركلي لوك من حيث ماديته وإلحاده ، لأنّ النّزعة الشّكيّة توصل حتما إلى إنكار وجود الله والأخلاق ، فالله بالنسبة للوك محرك للعالم ، ولكن كيف يمكنه ( أي لوك ) أن يثبت أنّ المادّة ذاتها ليست أزليّة ، من هنا يقف باركلي بشدّه أمام نظرية لوك لأنّها برأيه تُسهم في تقويض الدّين ونكران خلود الرّوح وانهيار المنظومة الأخلاقيّة .
يقرر باركلي بُطلان الأشياء الماديّة وإنّ الله هو مُنشئ الأفكار فالشّيء الماديّ لا يكتسِب وجوده إلّا من إدراكه في عقلٍ ما ، وأنّ كلّ ما هنالك عن ذلك الشيء هو فكرة في عقل
فالأشياء جميعها أفكار في الذّهن بما في ذلك روابطها العلائقيّةعلى الرّغم من أنّ هذه العلاقات ليست طبائع الأفكار نفسها ، فباركلي لا يعترِف بما في العالَم الخارجي من سببيَّة ؛ لأنّه لا يرى أنّ الحادثة المُعيّنة أو الفكرة المُعيّنة لا بدَّ أن تستتبِع حادثة أو فكرة أخرى بعينها ، إذ يُنكر أنَّ العلاقات بين الأشياء ضروريّة ليس من حدوثها بدّ ، فكلّ ما في الأمر سلسلة من الأفكار تتابَع في العقل تتابُعًا يتمُّ كما يريده الله .
ولما كان بركلي قد افترض مسبقاً إنّ الانسان لا يدرك شيئا بطريقة مباشرة سوی أفکاره ، ( احساساته ) ، فقد استنتج أن الأشياء لا توجد إلا في المدى الذي يمكن فيها أن تُدرك فأن يوجد الشيء يعني أن يُدرك ، والأفكار في رأي بركلي سالبة ، فهي تدرك بجوهر غير متجسّد وهو النّفس التي ممكن أيضاً أن تنتج الأفكار وبرکلي في محاولته لتجنّب الأنانيّة يقر بوجود تكاثر للجواهر الروحيّة وكذلك وجود عقل كوني ، هو الله لذلك يؤكد على أنّ الأفكار توجد بالقوة في عقل الله ، لكنّها لا توجد بالفعل إلّا في العقل الإنساني وبهذا اتّخذ بركلي مواقف مثاليّة قريبة من الأفلاطونيّة الجديدة وأقرّ بوجود خالد للأفكار في عقل الله في محاولة لدحض الإلحاد والماديّة بحسب ما يعتقد ، فقد هاجم مفهوم المادّة باعتباره مفهوماً محمّلاً بتناقضات داخليّة وهو غير مجدٍ في البحث عن المعرفة ، ونلحظ هنا أنَّ نقده للمادّيّة اعتمد المذهب الأسمي المثاليّ .
ومما تقدّم نلحظ أنّ باركلي رفض نظريّة لوك عن الصّفات الأوليّة والصّفات الثانويّة وأعلن أنّ جميع الصّفات ذاتيّة وأنكر قدرة العلم على تصوّر العالم ككلّ ، واعتبر أنّ مهمّة الفلاسفة والعلماء هي البحث والسّعي لفهم اللغة الخاصّة بمؤلّف كتاب الطبيعة ، وليس التّظاهر بشرح الأشياء والقول بعلل ماديّة غير مقنعة ، وعلى هذا الأساس دحض نظريّة نيوتن عن المكان المطلق ، وهاجم مقولته في الجاذبيّة وأنها مذهب في وجود العلة الطبيعيّة لحركة الأجسام الماديّة ، فالجوهر الرّوحي عند باركلي وحده هو النشط والفعّال ، ولم يوافق باركلي على حساب اللامتناهيات عند ليبنتز ونیوتن ، لأن الاعتراف بالانقسام اللانهائي أو المكان الواقعي ، يتناقض والمقولات الأساسيّة لفلسفته .

للاستزادة حول باركلي يمكن العودة للفقرات الخاصّة به في :
الموسوعة الفلسفيّة المختصرة
تاريخ الفلسفة الحديثة ليوسف كرم
قصّة الفلسفة الحديثة








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -غادرنا القطاع بالدموع-.. طبيب أمريكي يروي لشبكتنا تجربته في


.. مكتب نتنياهو: الحرب لن تنتهي إلا بعد القضاء على قدرات حماس ع




.. وزير الخارجية السعودي يتلقى اتصالًا هاتفيًا من نظيره الأميرك


.. حرب غزة: بنود الخطة الإسرائيلية




.. الجيش الأميركي: الحوثيون أطلقوا صاروخين ومسيّرات من اليمن |