الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


«بلاش فلسفة . . !!»

حسين علي
كاتب

(Hussein Ali Hassan)

2022 / 6 / 3
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


الفلسفة فى بلادنا سيئة السمعة، وهذا أمر ليس بمستغرب فى مجتمع يتخذ موقفاً عدائياً من العقل، ويطمئن أقصى غايات الطمأنينة للخرافات. فالناس فى بلادنا لا يتفقون على شىء قدر اتفاقهم على الشك فى الفلسفة وقيمتها وجدواها. فالفيلسوف عندهم رجل سفسطائى ثرثار، أو ملازم لبرجه العاجى بعيداً عن الواقع العملى الملموس، وإذا أحسنوا به الظن فهو متخصص فى المجرد والعام. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإننا لا نكاد نعرف اسماً لفرع من فروع المعرفة قد أصابه ما أصاب الفلسفة من عداء وتندر واستنكار عند الكثرة الغالبة من الناس، ولذلك كثيراً ما نسمع العبارة الآتية تتردد فى حياتنا اليومية: "بلاش فلسفة".
إن الجهل بمعنى الفلسفة جعل العبارة السابقة تتردد على لسان جمهور العامة، كما أن الجهل بمعناها جعل لفظ الفلسفة يرتبط فى أذهان الناس بمفاهيم هى أبعد ما تكون عن الروح الحقة للفلسفة. واللافت للنظر أن الرجل العادى لا يقول للمتخصص فى الرياضيات "بلاش رياضيات"، ولا يقول للمتخصص فى الطبيعيات: "بلاش طبيعيات"؛ لأن الرجل العادى يدرك أنه لا علم له بالرياضيات أو الطبيعيات. أما فيما يتعلق بالفلسفة، فهو يعتقد خطأً أنه يعرف معنى الفلسفة، فى حين أن جهله بالفلسفة لا يقل على الإطلاق عن جهله بالرياضيات أو الطبيعيات.
إن عبارة "بلاش فلسفة" غالباً ما تأتى على لسان بعض أبطال مسلسلات وأفلام التلفزيون لتعبر – بطريقة ضمنية – عن أن ما هو فلسفة ليس سوى خليط من حجج غامضة يكتنفها ضباب دون أن يكون لها معنى مفهوم. قد يقال دفاعاً عن ورود هذه العبارة فى المسلسلات والأفلام: إن المؤلف أو كاتب السـيناريو أراد أن يكشف عن جهل شخصية ما ونقص ثقافة صاحبها، فجعل من يمثلها ينطق بعبارة (بلاش فلسفة) تعبيراً عن جهل الشخصية بالمعنى الحقيقى للفلسفة لا تعبيراً عن عيب أو نقص فى الفلسفة ذاتها.
ولكن ماذا نقول عن حرص مذيع رياضى، أثناء وصفه لمباريات كرة القدم بالتلفزيون على ربط الفلسفة بـ "الجهل" أو "البلاهة" أو "التعقيد"، وكأن هذه المعانى السيئة هى مرادفات للفلسفة. فعندما يفشل أحد اللاعبين فى تسديد الكرة أو تمريرها على نحو جيد، تفاجأ بهذا المذيع يصرخ ساخطاً: (.. . بلاش فلسفة. . عايز يتفلسف). ولقد ظننت فى بادئ الأمر أن ربط الفلسفة بهذه المعانى السيئة هو زلة لسان من جانب المذيع، فمن غير المعقول أن يؤتمن شخص على مخاطبة ملايين المشاهدين وهو لا يملك القدرة على التمييز بين معانى الألفاظ، ولكن من خلال متابعتى لهذا المذيع اتضح أننى كنت مبالغاً فى حسن ظنى، إذ إن كثرة ترديده لعبارة (بلاش فلسفة. . عايز يتفلسف. . .) حين يخفق أحد اللاعبين، إنما تكشف عن أن الأمر ليس مجرد زلة لسان، بقدر ما هو اعتقاد بأن الفلسفة هى بالفعل جهل وبلاهة وتعقيد، ومن هنا كان حرص المذيع على نصح اللاعبين بضرورة الابتعاد عن الفلسفة والتفلسف.
ألا يعلم أولئك الذين يسيئون الظن بالفلسفة، عن عمد فى بعض الأحيان وعن جهل فى أغلب الأحيان أن الفلسفة فى أحد تعريفاتها هى محبة الحكمة، وأن كل التعريفات المتعددة التى أعطيت للفظ فلسفة على مر العصور لم يكن من بينها تعريف واحد يربط بين الفلسفة من جانب والجهل والبلاهة أو الغموض من جانب آخر ؟! إن استقراء تاريخ الفلسفة إنما يكشف لنا عن عكس ذلك، إذ يكشف لنا أن عدداً كبيراً من الفلاسفة جعل من الفلسفة مرادفاً للوضوح والدقة والإحكام.
إن أخطر ما نعانى منه هو أننا كثيراً ما نتكلم لا لنقول شيئاً له معنى، بل نتكلم لمجرد أن لدينا القدرة على الكلام. إن هواية مضغ الهواء وتحريك اللسان فى الحلق التى يحلو لبعضنا أن يمارسها، إنما هى تضر أكثر مما تنفع بخاصةٍ إذا كانت ممارستنا لها تتم على الهواء مباشرةً وأمام ملايين المشاهدين. إننى أعتقد متفقاً فى ذلك مع الفيلسوف المعاصر "لدفيج فتجنشتين" (1889 - 1951): "إن ما يمكن قوله على الإطلاق، يمكن قوله بوضوح، أما ما لا نستطيع أن نتحدث عنه، فلابد أن نصمت عنه".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. من هي نعمت شفيق؟ ولماذا اتهمت بتأجيج الأوضاع في الجامعات الأ


.. لماذا تحارب الدول التطبيق الأكثر فرفشة وشبابًا؟ | ببساطة مع




.. سهرات ومعارض ثقافية.. المدينة القديمة في طرابلس الليبية تعود


.. لبنان وإسرائيل.. نقطة اللاعودة؟ | #الظهيرة




.. الجيش الإسرائيلي يعلن استهداف بنى تحتية لحزب الله جنوبي لبنا