الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تاريخ روسيا – 06 ياروسلاف

محمد زكريا توفيق

2022 / 6 / 6
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


الفصل السابع.

مجد كييف تحت حكم ياروسلاف.

حوالي نصف قرن، قبل معركة هاستينجز، التي غزا فيها النورمان إنجلترا، توفى فلاديمير الأول عام 1015م، تاركا عشرات الأبناء، وبعد أن وزع بينهم المدن التي كانت تخضع لنفوذه.

ابن أخيه سفياتوبولك، الملقب "المضيف المقدس"، قام باغتصاب عرش كييف، وأعدم غدرا، بوريس وجليب، أبناء فلاديمير الأول.

أمير شعب الغابة، واجه نفس المصير. أما بالنسبة لأمير نوفجورود الأعرج، ياروسلاف، الملقب ب"الشهرة النارية"، فوجد أن من واجبه الدفاع عن نفسه.

كان قد دعا كبار مواطني نوفجورود إلى قلعته، وقام بقتلهم، كعقاب رادع. لذلك، غضب منه سكان نوفجورود، وقاموا بعد وقت قصير، بذبح حرسه النورمان.

لكن عندما ظهر أمام مجلس المدينة، وبكى بسبب سلوكه القاسي في حضور الناس، وطلب بتواضع مساعدتهم، بكوا جميعا قائلين:

"أيها الأمير، بالرغم من أنك قد سفكت دماء إخوة لنا، إلا أننا نعدك بالقتال إلى جانبك"

مع جيش مكون من ألف نورمان، وأربعين ألف جندي من قبائل مختلفة، سار ياروسلاف لكي يواجه ابن العم، مغتصب السلطة، سفياتوبولك.

في يوم شتاء قارس البرد، قامت معركة قاسية، هزم فيها جيش سفياتوبولك. غرق العديد من رجاله، أو تجمدوا من الصقيع. ولجأ سفياتوبولك نفسه، إلى حماه، ملك بولندا السمين والشجاع. في نفس الوقت، دخل ياروسلاف كييف منتصرا.

في العام التالي، عندما كان ياروسلاف يصطاد في أحد الأيام، على ضفاف نهر الدنيبر، جاءه خبر مفاده أن ملك بولندا، بوليسفاك، قادم ضده بجيش عظيم. ألقى ياروسلاف السنارة من يده، وترك سمكته. لقد كان لديه الوقت الكافي لجمع جيش لمواجة عدوه.

حطم ملك بولندا، بسيفه العظيم، بوابة مدينة كييف، ودخلها قسرا. قيل إن ملاكا قد أعطاه هذا السيف. ففر ياروسلاف، ومعه ثلاثة فقط من رفاقه إلى نوفجورود. هناك جمع بعض السفن لكي يعبر بها البحر إلى النورمان. لكن رجال نوفجورود الشجعان. منعوه، وقالوا له:

"سنقيس مدى قوتنا مرة أخرى مع العدو".

رفعوا الضرائب، التي كانت تدفع بالفراء والمال، وكونوا جيشا كبيرا. ومرة أخرى، سيطر ياروسلاف على البلاد.

في هذه الأثناء، تشاجر سفياتوبولك، مع حماه. ذبح رجاله ونفاه بعيدا. بعد أن فقد مساعدة حماه، هرب " سفياتوبولك، عندما علم بأن ابن عمه ياروسلاف، يزحف نحوه بجيش من البرابرة.

ثم وقعت معركة كبيرة بينهما على ضفاف نهر ألتا، صبغت ضفاف النهر باللون الأحمر من دماء المحاربين. "الآن كان يوم جمعة" كما تقول الوثائق:

"ومنذ الفجر كانت المعركة قد احتدمت، وأصبح القتال رهيبا وشرسا. لم يسبق له مثيل في روسيا. المعركة كانت رجل لرجل، مد وجزر، ونصر وهزيمة، مصحوبة بغضب شديد، لدرجة أن دماء القتلى، كانت تسيل مثل السيول الجبلية الجارفة. وأخيرا، فاز ياروسلاف في نهاية الأمر"

بعد المعركة، فر الغاصب الفاسق، سفياتوبولك، يلاحقه غضب الله ، وهلك بائسا في صحارى بوهيميا.

تاريخ خلفاء فلاديمير، يذكرنا بورثة كلوفيس في فرنسا. فقد قتل أبناء كلودومير، فيما يشبه اغتيال بوريس وجليب، أبناء فلاديمير، بأمر من سفياتوبولك، مغتصب عرش كيف. لذلك، تم تقديس الإثنين وأصبحا علامة بارزة في التقويم الأرثوذكسي.

ياروسلاف، بعد العديد من الحروب الأهلية مع إخوانه وأبناء إخوته، أصبح سيد كل روسيا. حكم بالعدل في كييف. وأسس مدنا جديدة. وذاعت شهرته من بحر البلطيق إلى البحر الأسود، وفي فنلندا وبلغاريا.

استولى على العديد من المدن التي كانت تخضع لملك بولندا، ودمر بالكامل البيتشينيج، الذين هاجموا كييف أثناء غيابه. لكن في تعامله مع أباطرة بيزنطة، لم يكن محظوظا جدا.

فقد عهد إلى ابنه، أمير نوفجورود، في بعثة إلى القسطنطينية لحسم نزاع تجاري بالسلاح. فأرسل البيزنطيون مبعوثين لتقديم شروط مواتية، لكن ابن ياروسلاف، رفض عرضهم بازدراء، وطرد المبعوثين محملين بالإهانات.

ثم نشبت معركة بحرية في مضيق البوسفور، هزم فيها أمير نوفجورود، ابن ياروسلاف. لم يتمكن الروس من مقاومة النيران البيزنطية الرهيبة. علاوة على ذلك، نشأت عاصفة مفاجئة، بعثرت أسطولهم.

ثمانية آلاف من رجالهم، الذين وصلوا إلى الشاطئ، حاولوا شق طريقهم إلى كييف عن طريق البر، لكنهم حوصروا وقطعوا إربا. وعاد البيزنطيون إلى القسطنطينية ومعهم ثمانمائة سجين، سملوا عيونهم بالحديد المحمي.

يقال إنه قد تم العثور على نقش نبوي في صندوق أحد التماثيل البرونزية البيزنطية، معلنا أن القيامة ستقوم عندما تقع عاصمة الإمبراطورية البيزنطية، فريسة لرجال الشمال. لكن لم يكن من نصيب ياروسلاف تحقيق هذه النبوءة.

حتى يومنا هذا، ينظر الروس بعيون جشعة إلى القسطنطينية، المدينة القيصرية. لكن تحت حكم ياروسلاف، وصلت مدينة كييف إلى ذروة مجدها.

مدينة كييف، مثل القسطنطينية، كانت لديها كاتدرائية القديسة صوفيا، التي بنيت عام 989م، وبوابتها الذهبية. كانت محاطة بالجدران ومزينة بأبراج مذهبة. كانت كييف تسمى مدينة الأربعمائة كنيسة، وأعطت الخدمات الدينية لمجموعة من المنشدين والكهنة البيزنطيين.

كانت كنيسة القديسة صوفيا، فخرا خاصا لياروسلاف. فسيفساء ضخمة على خلفيات من الذهب، تزين الجدار غير القابل للتدمير. وتم المحافظة على اللوحات الجدارية التي رسمها الفنانون من القسطنطينية أو ترميمها بعناية. وفي كل مكان تغطي الأعمدة والأقبية، نقوش ذهبية.

لا يزال العديد من الفسيفساء والنقوش البيزنطية موجودة، ويتعجب المشاهد من الصور الجميلة للقديسين والأطباء والملائكة والأطفال، والعذراء، والعشاء الأخير، حيث يتم تمثيل المسيح وهو يعطي جسده لستة من تلاميذه، ودمه لستة آخرين.

كانت كييف في هذا الوقت، تتألف من ثلاثة أجزاء منفصلة، لكل منها تحصيناتها وكنائسها ومدارسها الخاصة. جاء التجار من هولندا والمجر وألمانيا ومن أقصى الشمال، وجعلوا الأسواق الثمانية نابضة بالحياة بأحاديثهم وضجيجهم، وغطوا نهر الدنيبر بسفنهم وقواربهم.

كانت روسيا في ذلك الوقت المبكر والبطولي مرتبطة ارتباطا وثيقا بأوروبا الغربية. فلجأ إليها، أمير سويدي، وإدوين وإدوارد، أبناء إدموند آيرونسايد. لقد طردوا من إنجلترا من قبل الشاب القاسي كنوت الدنماركي.

قضى ملك النرويج وابناه منفاهم في بلاط كييف. وتزوج ياروسلاف من ابنة الملك أولاف. وتزوجت أخته ماريا من كاسيمير، ملك بولندا. وتزوج أبناؤه من أميرات من بولندا والقسطنطينية وألمانيا وإنجلترا.

ابنه الأكبر، أمير نوفجورود، تزوج من جيتا، ابنة هارولد، ملك إنجلترا. أصبحت بناته أيضا زوجات الملوك. فتزوجت آنا من هنري الأول ملك فرنسا ، وكان الملك فيليب الأول هو ابنها.

وتزوجت أجموندا من أندرو الأول ملك المجر. هارولد الشجاع، أمير وملك النرويج، رفض حب الإمبراطورة البيزنطية "زوي"، وحارب الكفار في أفريقيا وصقلية لكي يثبت جدارته للأميرة الروسية إليزابيث، التي كتب لها قصيدة منذ ما يقرب من ألف عام، تقول ما معناه:

"أبحرت سفني في بحر صقلية.
كانت مليئة بالمحاربين الشجعان.
كان يملؤنا الأمل والحلم بالقتال المجيد.
ورأيت سفينتي تصغي إلى صوتي
وتندفع عبر الأمواج،
وتعبر البحار الواسعة.
لكن للأسف ، لا يوجد حب،
فالتي أحبها، ابنة روسيا، تزدري حبي.

في أحد الأيام، شقت سفننا الأمواج.
فجأة توشحت السماء بالسواد،
هبت الرياح ، وغمرت الأمواج سطح سفينتنا،
لكن الشجاعة والأيدي المستعدة، هزمت الموت.
فاحترق قلبي بالأمل.
يا حورية روسيا ، لماذا تحتقرين حبي؟

طلبت المجد عشرات المرات.
شجاع في القتال. أستطيع ترويض الحصان الجامح.
يمكنني السباحة في البحر العاصف،
ويمكنني التزلج على الجليد الشفاف.
يمكنني أن أخرق عين الثور برمحي.
وأن أوجه القارب المتقلب.
ومع ذلك ، فإن حورية روسيا تزدري حبي!

ذبلت، فهل تنكرين ذلك،
أيتها الفتاة الشابة الفخورة؟
ألم أعد إليك من جدران المدينة الجنوبية،
بطلا لمائة معركة؟
هناك، أثبت شهرة سلاحي،
وتركت ذاكرة أبدية لاسمي.
فلماذا إذن يا حورية روسيا تزدري حبي؟ "

أسس ياروسلاف المدارس والأديرة، وأمر بترجمة الكتب المقدسة والعديد من الكتب التي كتبها الآباء القديسون، حياة القديسين والرومانسيات، إلى الروسية. وكان قد صك العملات المعدنية باسمه، عن طريق صناع بيزنطيين، مع اسمه السلافي على جانب واحد، واسمه المسيحي، جورج، على الجانب الآخر.

لقد ترك مدونة قوانين بربرية إلى حد ما:

القاتل، يترك للانتقام من عائلة ضحيته. الغرامة المالية تدفع تعويضا عن جريمة السرقة، أو غير ذلك من الجرائم. إثبات البراءة أو الذنب، عن طريق لعق الحديد الأحمر الساخن، أو الغطس في الماء المغلي. البريء ينجو. أحد الكتاب العرب كتب ما يلي:

"عندما يكون لدى أحد الروس شكوى ضد آخر، فإنه يستدعيه إلى محكمة الأمير، وكلاهما يكون حاضرا أمامه. وعندما يحكم الأمير، تنفذ أوامره. وإذا كان الحكم لا يرضي الطرفين، تكون التسوية بالسيوف. ومن يسبب ضررا أكبر لخصمه، يكون هو الفائز.

عندما تجري المبارزة بين المتخاصمين، يحضر أصدقاء الخصمين، بكامل أسلحتهم وعتادهم. ثم يبدأ النزال وتسديد الضربات. المنتصر يفرض شروطه كما يحلو له"

كما أكد ياروسلاف الحريات والامتيازات لسكان نوفجورود، وأسس هناك كاتدرائية أخرى للقديسة صوفيا، وهي واحدة من أثمن الآثار الباقية من الماضي الروسي.

عندما شعر باقتراب نهاية أيامه استدعى أولاده إلى جانب سريره ، وقال لهم:

" ها أنا ذاهب لأغادر هذا العالم. يجب أن يحب كل منكم الآخر. لأنكم أبناء لنفس الأب ونفس الأم. دعوا الصداقة والإتحاد يسود بينكم. ليكون مخلصنا معكم. بذلك يتم سحق أعدائكم. ومن ثم، تعيشون في أمن وسلام.

لكن إذا كرهتم بعضكم البعض، وبتم منقسمين، ستذهب ريحكم، وتنتهون إلى الدمار. وهذا البلد التي غزاها أسلافكم، وحافظوا عليها ببذل الدماء، وتحملوا في سبيلها الكثير من الآلام، ستفقدونها، وتصبحون قتلى أو مشردين"

ثم قام ياروسلاف بتوزيع مدنه بين أولاده، وطلب منهم طاعة أخيهم الأكبر، أمير كييف، كما يطيعون والدهم. ثم توفي ودفن في كنيسة القديسة صوفيا، ووضع جثمانه في تابوت من الرخام الأبيض والأزرق، منحوت بأشكال الطيور والأشجار.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الوساطة القطرية في ملف غزة.. هل أصبحت غير مرحب بها؟ | المسائ


.. إسرائيل تستعد لإرسال قوات إلى مدينة رفح لاجتياحها




.. مصر.. شهادات جامعية للبيع عبر منصات التواصل • فرانس 24


.. بعد 200 يوم من الحرب.. إسرائيل تكثف ضرباتها على غزة وتستعد ل




.. المفوض العام للأونروا: أكثر من 160 من مقار الوكالة بقطاع غزة