الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عاجيّات النمرود

عضيد جواد الخميسي

2022 / 6 / 7
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


في عام 1845 م ؛ بدأ عالم الآثار "أوستن هنري لايارد" التنقيب في أطلال مدينة النمرود الواقعة شمال العراق . وقد كانت رحلة لايارد الاستكشافية جزء من هدف كبير في الكشف عن المواقع القديمة المنتشرة في بلاد الرافدين والتي من شأنها إثبات القصص المشهورة في كتب التوراة ، وتحديداً سِفرَي "التكوين" ، و "يونان" ( يونس ) .
علماء الآثار الذين جابوا مناطق بلاد الرافدين في منتصف القرن التاسع عشر بحثاً عن أدلة مادية تثبت صحة القصص التوراتية مثل ؛ آدم ، ونوح ، والجنائن المعلّقة ، وكذلك المدن مثل ؛ نينوى ، و كالح ( النمرود ) ؛ قد تفاجؤوا بحدث غير سار كان في انتظارهم وبعكس ما يهدفون . لقد اكتشفوا حضارة كانت موجودة قبل وقت طويل من كتابة أول كتاب في التوراة الذي تحدّث عن القصة الأولى للطوفان .

أحدثت تلك الاكتشافات ثورة في الفهم البشري لتاريخ العالم القديم ، والذي كان مؤمناً بشدّة لما موجود في الكتاب المقدّس ( التوراة ) . قبل تلك الحملات الاستكشافية ، لم يكن معروفاً سوى القليل عن حضارتي بابل وآشور إلاّ من خلال توثيق بعض المؤرخين اليونانيين . فقد كانت مدن بلاد الرافدين العظيمة في الماضي مدفونة تحت الأرض بعد سقوط الإمبراطورية الآشورية في 612 قبل الميلاد ، وحتى تاريخها قد دُفن معها .

تاريخ المدينة
عندما بدأ لايارد عمله في النمرود لم يكن يعرف حتى المدينة التي كان ينقّب فيها ، فقد كان يعتقد أنه اكتشف مدينة نينوى ، وعلى ضوء ذلك نشر كتابه (نينوى وأطلالها) الأكثر شهرةً ومبيعاً عام 1849 م .
كانت القطع الأثرية التي كشف عنها لايارد مثيرة للاهتمام لدرجة أنه تم إيفاد المزيد من البعثات الاستكشافية إلى المنطقة وعلى عجل . وأثبتت الأعمال المتواصلة في المنطقة ؛ أن الآثار التي اكتشفها لايارد لم تكن لنينوى ؛ بل لمدينة أخرى وهي "كالح" أو "كالهو"، وأُطلق عليها فيما بعد اسم " النمرود " ؛ وهي عاصمة الإمبراطورية الآشورية في عهد الملك "آشور ناصربال الثاني" (عام 884-859 قبل الميلاد) عندما نقل مقر الحكومة اليها من العاصمة القديمة "آشور" .
عام 1854 م ؛ تولى عالم الآثار "ويليام ك. لوفتس " زمام الأمور بعد لايارد ؛ إذ قام بالتنقيب عن النمرود ليكتشف من بين كنوز أخرى الأعمال الفنية الرائعة المعروفة اليوم باسم " عاجيّات النمرود " أو (عاجيّات لوفتس) .
كانت المدينة مركزاً تجارياً مهماً في الألفية الأولى قبل الميلاد ؛ وتقع مباشرة على طريق حيوي من شمال آشور إلى جنوب نينوى . وكالهو هي عاصمة الإمبراطورية الآشورية (عام 879-706 قبل الميلاد ) ، ولكن الملك سرگون الثاني (عام 722-705 قبل الميلاد) نقل عاصمته إلى المدينة الجديدة "دور شروكين" ( خورس آباد ) . وبعد وفاة الملك سرگون الثاني ؛ تولى سنحاريب ابنه العرش (عام 705-681 قبل الميلاد) ، إلاّ أنه تخلّى عن (دور شروكين) ونقل عاصمته إلى نينوى .

أهمية عاج النمرود
تصف المؤرخة ومديرة متحف متروبوليتان للفنون في نيويورك "جوان لاينز" القطع الأثرية المُكتشفة في النمرود :
" من أكثر الأشياء التي تلفت الانتباه في النمرود ؛ القطع العاجيّة ، والتي هي عبارة عن رؤوس منحوتة بشكل رائع ، وبالتأكيد كان هناك أثاث مزخرف في القصور الملكية. وأيضاً هناك الخزائن المطعّمة بالذهب و المؤطرة بأشكال زخرفية مذهلة تزينها حيوانات صغيرة منقوشة بدقة بالغة " (ص 234 ) .
كشفت بعثة لايارد الأثرية عن أولى قطع العاج ، بينما اكتشف لوفتس المزيد منها تباعاً . وعندما كان لوفتس يعمل في النمرود ، تم تحديد مدينة نينوى بشكل لايقبل الجدل ، ثمّ وجّه الاهتمام والدعم الدوليين نحو مواقع التنقيب فيها . بعد ذلك عمل في مدينة خورس آباد المكتشفة حديثاً .
على الرغم من أن موقع النمرود قد أصابه الإهمال في منتصف عام 1949 م ، إلا أن عالم الآثار "ماكس إي مالوان " من جامعة لندن (زوج الكاتبة أگاثا كريستي) قد استكمل التنقيب فيه واستمر حتى مطلع عام 1963 م .
كشف مالوان عن أكبر عدد من القطع العاجيّة في الهيكل المعروف باسم "قصر الشمال الغربي" (المعروف أيضاً باسم القصر المحروق) . وشملت بعض أشهر القطع المعروضة في المتحف البريطاني ؛ رأس عاجي لامرأة ( أطلق عليه رأس الموناليزا ) عثر عليه في بئر القصر .
وصف العالم الآثاري "كريس ألين" ؛ استخدامات الآشوريين لهذه القطع العاجيّة بالإضافة إلى مصادرها :
" شكلّت معظم القطع العاجيّة المزخرفة المزيّنة بالذهب أجزاءً من الأثاث المستخدم مثل ؛ الكراسي والطاولات وربما الأسرّة أو الخزائن . كان يمكن الحصول على العاج بسهولة من قطعان الأفيال التي تُصطاد في سوريا وجلب أنيابها خلال الفترة الآشورية ومابعدها ؛ حتى انقرضت جميعها بحلول القرن التاسع الميلادي . كما تم اعتبار أنياب العاج بمثابة الجزية في الحروب . إذ كان معظم العاج المنحوت [في النمرود] غنائم حرب أو هدايا الملوك والأمراء " (ص 3) .
عندما سقطت الإمبراطورية الآشورية عام 612 قبل الميلاد ؛ نُهبت النمرود والمدن الكبيرة الأخرى من قبل جيوش البابليين والميديين والفرس، وأُحرقت القصور بعد نهب كل ما له قيمة . وعلى ما يبدو ؛ فقد جُرّد الذهب من العاج في ذلك الوقت ، وتمّ التخلص من القطع العاجية من خلال تركها مرمية على أرضية القصور، لأنها عديمة القيمة بالنسبة للغزاة .
قد يبدو هذا غريباً إلى حد ما في البداية ، حيث أشارت مديرة متحف متروبوليتان جوان لاينز إلى أن العاج كان له تاريخ طويل في المنطقة كسلعة ثمينة ، حيث كتبت التعليق التالي :
" العاج كما نعلم من التنقيبات والوثائق التاريخية ، كانت له قيمة كبيرة؛ فقد اُستخدم بشكل واسع في زمن الإمبراطورية الآشورية. كما أشير الى العاج في التوراة عن بيت (آخاب) الملك السابع لإسرائيل ( عام 875 ـ 853 قبل الميلاد ) في السامرة ؛ حيث كشفت التنقيبات الحديثة عن قطع عاجية مرتبطة بتلك الموجودة في النمرود . واطّلعنا على رسائل كان قد بعثها حكّام المناطق المندحرة في الحروب ؛ وعن تكريمهم للملوك الآشوريين بسلع مصنوعة من العاج . فقد قرأنا عن الملك (أشور ناصربال) الذي حاز على أرائك عاجيّة مغطاة بالذهب كهدية من مدينة تقع في غرب نهر دجلة . وحصل على جزية من منطقة أخرى، كانت عبارة عن أنياب فيلة وكرسي ملكي من العاج مغطّى بالذهب والفضة . ومن فينيقيا أرسلت له هدايا كثيرة بما في ذلك العاج والفيلة .
في جرد للمسروقات التي نهبها الملك الآشوري (أداد - نيراري الثالث) من دمشق ؛ كان من ضمنها أسرّة ومقاعد من العاج تعود إلى القصر الملكي في دمشق . ويقال إن الملك (سرگون الثاني) ؛ كان لديه قصر أكثر محتوياته من العاج (أرائك ، أنياب ، جلود الأفيال، خزائن ، أدوات زينة ، ومنحوتات متنوعة ) ، وهي الجزية التي دفعها (حزقيا) ملك يهوذا الى الملك (سنحاريب) عام 701 قبل الميلاد . " (ص 235).

طالما كانت النقوش والمنحوتات العاجيّة مرتبطة بالإمبراطورية الآشورية والمكروهة من أعدائها ، فقد تعمّد الغُزاة الذين أطاحوا بها إلى التخلّص منها ؛ والتي تُعّد رمزاً لتلك الإمبراطورية بعد تجريدها من الذهب ورميها في بئر القصر. إلاّ أن الغزاة قد ساعدوا ومن غير قصد في الحفاظ عليها سليمة عندما غمرها طين البئر ؛ فأكساها .
اكتشف "مالوان" المزيد من قطع العاج في جهة من القصر ؛ حيث خُزنت كغنائم دون العبث فيها ، وذلك ربما تجاهلها الغزاة عام 612 قبل الميلاد عندما سيطروا على القصر . إلا أنها دفنت جميعها بسقف وجدران القصر المحترق ؛ مما جعلها محفوظة ومحمية جيداً دون أن يمسها الضرر البالغ .

الأنماط المختلفة للعاج
عندما عُثر على القطع العاجية في بادئ الأمر ؛ اقتضى تنظيفها باستخدام مرهم تجميل الوجه للكاتبة "أگاثا كريستي" . ورد ذلك في مقال صحيفة ديلي ميل البريطانية (Daily Mail ) في عام 2011 ؛ عندما استشهدت بمقطع من السيرة الذاتية لكريستي ؛ وكما جاء في مذكراتها الذي نشرت عام 1977 (بعد مرور عام على وفاتها) :
"كان لديّ أدواتي المفضلة ؛ مقبض برتقالي و إبرة حياكة رفيعة جداً ... ووعاء من كريم الوجه التجميلي لإزالة التراب العالق من الشقوق برفق . وبمجرّد تنظيف القطع العاجية ؛ بدت ملامحها وتفاصيلها واضحة ؛ فأذهلت مالوان ( زوجها ) وفريقه " .
كتبت لاينز التعليق التالي عن فن العاج : "كان عمل النحاتين العاجيين هو الأسمى بين أعمال الحرفيين القدماء" (ص 235).

عُثر في أحد منازل مدينة النمرود على المزيد من القطع العاجية ؛ وتبيّن أنها أقدم من غيرها ، ويُعتقد أنه قد احتُفظ بها كإرث عائلي . ولعلّ دقة صنع القطع العاجية وجمالها قد جعلها ممتلكات ثمينة عند أيّ عائلة .
عندما تمّ تنظيف القطع العاجية وفرزها وفحصها ؛ اتضح أنها ذات أنماط متباينة ومن مصادر مختلفة.
يشرح البروفيسور كريس ألين هذه الاختلافات ، مستشهداً بالعمل الأصلي لماكس مالوان :
" تم تصنيف عاج النمرود ؛ على أنه يمثل ثلاثة أنماط منفصلة : الآشوري ؛ الفينيقي ؛ والسوري .
يتميز الطراز الآشوري بشكل أساسي في تقنيته ؛ أي أن الشكل محفور بآلة حادّة على سطح عاجيّ مسطّح . هناك محتوى خاص هو أيضاً آشوري على المنحوتات البارزة [لقصر في النمرود] وهي : مشاهد الحروب ، المواكب ، وآلهة الحماية ، ...إلخ .
يتميز الطراز الفينيقي ؛ استخدامه النماذج المصرية بما في ذلك الآلهة، الصنادل، الحيوانات الأسطورية ، وحتى الصور الهيروغليفية ؛ على الرغم من أن الأخيرة عادة ما تكون بلا معنى .
أخيراً ؛ يمكن القول إن الطراز السوري هو أكثر الأساليب فنّاً ؛ سواء كان نحتاً أم نقشاً .وكانت نماذجه عبارة عن رؤوس وأجسام كاملة ( مصغرّة ) ، والتي عادة ما تكون في هيئة نساء ؛ و لربما تم التعامل معها من أجل مشغولات يدوية أخرى ، ومن بينها (رأس الموناليزا) . كما أن الثيران والعجول المنحوتة المستخدمة في أغطية الخزائن ؛ هي أيضاً من نفس النمط .
يُعزى الأسلوب الفينيقي إلى دول المدن الواقعة على سواحل البحر الأبيض المتوسط . أمّا تلك التي على الطراز السوري ؛ فهي مُصنفة حسب محتواها إلى مدن معينة في سوريا . والطراز الآشوري في النمرود ؛ تميّز بواسطة حرفيين جاؤوا من أماكن أخرى" (ص 35) .

تعتبر القطع العاجيّة الفينيقية هي الأقدم ؛ لأنها أرست أسس التقنية التي استخدمها الحرفيون فيما بعد . توضح جوان لاينز ذلك من خلال المقطع التالي :
" أن الفينيقيين لم يكتفوا بتوفير العاج فقط ؛ بل اشتهروا بتقنية العمل عليه أيضاً ، والتي ربّما تعلموها من النحّاتين المصريين (أول شعوب العالم القديم الذين استخدموا العاج بكثرة) . حيث تعتبر القطع العاجية الفينيقية والتي تظهر البصمة المصرية قوية عليها ؛ هي أقدم القطع الموجودة في الشرق الأدنى . وقد استمر الفينيقيون لقرون عديدة كنحّاتين للعاج ؛ والأكثر مهارة في تلك المنطقة"(235).
لقد تأثر الطراز الفينيقي بالنمط السوري أيضاً ، وعلى الأخص في الأعمال النحتية ذات الأبعاد الثلاثية المجسمّة ، والتي أشار إليها كريس ألين ، لكن النمط الفينيقي لا يزال بشكل عام يُعتبر الأكثر مهارة .

في عامي 1988 و 1989 م ، قامت الهيئة العامة للآثار والتراث العراقية بالتنقيب في مدينة النمرود مرة أخرى . وعثرت على المزيد من الكنوز والاكتشافات القيمّة مثل ؛ قبر الملكة "يابا " (زوجة الملك تگلث بلاسر الثالث ) ؛ والملكة "أتاليا "( زوجة الملك سرگون الثاني) ، مع كميات كبيرة من الذهب والمجوهرات ؛ الا ان هناك القليل جداً من القطع العاجية التي عُثر عليها .
تم نقل القطع العاجية التي اكتشفها كل من ؛ لايارد ، لوفتس ، مالوان ، وآخرين ؛ إلى إنگلترا ، واحتفظ بها المعهد البريطاني للتراث في المقام الأول .
في عام 2011 م ، باع المعهد البريطاني 6000 قطعة عاجيّة إلى المتحف البريطاني مقابل 1.17 مليون جنيه إسترليني (حوالي 1.6 مليون دولار أمريكي ) ، وهو أعلى سعر تم دفعه لشرائها منذ أن اشترى المتحف لوحة (ملكة الليل السومرية ) مقابل 1.15 مليون جنيه استرليني في عام 2003 م . ثم قام المتحف البريطاني بدوره في بيع الكثير من هذه القطع الى المتاحف العالمية وصالات العروض الأثرية بأسعار مضاعفة قد تصل إلى عشرات المرّات من سعر الشراء . وتُعرض بعض القطع العاجيّة الآن في العديد من المتاحف حول العالم بما في ذلك :المتحف العراقي في بغداد ؛ ومتحف السليمانية في كردستان العراق ؛ والمتحف البريطاني في لندن ؛ ومتحف متروبوليتان للفنون في نيويورك ـ الولايات المتحدة الأمريكية .


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جوان لاينز ـ التاريخ في الشرق الأدنى ـ بلاك ويل للنشر ـ 2018 .
كريس ألين ـ عاج النمرود و كنوز النمرود ـ نورتون للنشر ـ2011 .
يشتري المتحف البريطاني منحوتات عاجية عمرها 3000 سنة، تم تنظيفها باستخدام كريم وجه أگاثا كريستي ــ عنوان تقرير صحفي نشر في صحيفة ( ديلي ميل ) البريطانية بتأريخ 8 آذار/ مارس 2011 .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فريق تركي ينجح في صناعة طائرات مسيرة لأغراض مدنية | #مراسلو_


.. انتخابات الرئاسة الأميركية..في انتظار مناظرة بايدن وترامب ال




.. المبعوث الأميركي آموس هوكشتاين يزور إسرائيل لتجنب التصعيد مع


.. صاروخ استطلاع يستهدف مدنيين في رفح




.. ما أبرز ما تناولته الصحف العالمية بشأن الحرب في قطاع غزة؟