الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ما بين رفع الخبز و سكب الماء

رماز هاني كوسه

2022 / 6 / 7
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


مشاهد كثيرة تمر أمام ناظرينا يوميا تمثل معتقدات شعبية بين أفراد مجتمعاتنا الشرقية انتقلت من جيل لآخر عبر قرون طويلة .و تختلف التفسيرات التي تطرح لهذه العادات ما بين الدينية و الاجتماعية . سأقوم اليوم بالإشارة لمشهدين نراهما بين أفراد مجتمعاتنا و محاولة تفسير مصدرهما . أولهم مشهد رفع الخبز و تقبيله و الثاني سكب الماء على الأرض .
سأبدأ بالمشهد الأول و الأكثر انتشارا و هو رفع كسر الخبز المرمية على الأرض و تقبيلها و هو مشهد رآه معظمنا بل و مارسه بنفسه أيضا فمن أين تأتي جذور هذا المشهد . تدور التفسيرات الشعبية حول الحديث عن كون الخبز نعمة من الله تعالى و لا يجوز هدرها بل من الواجب المحافظة عليها . و نقرأ بهذا الاطار أحاديث نبوية عن ضرورة رفع كسر الخبز المرمية على الأرض بل و تناولها إن لم تكن ملوثة بل و نذهب احاديث أخرى للكلام عن عدم جواز قطع الخبز بالسكين قبل أكله و هي و عن كانت احاديث ضعيفة نوعا ما فغن لنا عودة لها لاحقا . طبعا موضوع عدم هدر النعمة هو تفسير منطقي و لا يعترض أحد عليه و لكن يبقى السؤال لماذا خص هذا الأمر بالخبز فقط . فالخضراوات هي أيضا نعم من الله و اللحوم كذلك ... الألبان و مشتقاتها . فلماذا الخبز تحديدا ؟ هنا علينا البحث أعمق في تراث المنطقة الثقافي السابق للأديان السماوية . و لنعد تحديدا إلى الإله دجن الذي انتشرت عبادته بأرجاء واسعة من الشرق الأوسط من بلاد ما بين النهرين إلى الشام و فلسطين تحت اسم داجون أو داغان و يعود ظهور الاسم لحوالي 2500 عام قبل الميلاد في مدينة ماري و من ثم تتالى ظهور الاسم في النقوش الايبلائية و البابلية و الآشورية و الأوغاريتية كمعبود مهم لدى تلك المجتمعات . الإله داجون هو من آلهة الخصوبة في المجتمعات الزراعية و قد ارتبط تحديدا بالحبوب و القمح .لا يغيب عن ذهن القارئ أهمية الحبوب و القمح في توفير الأمن الغذائي للمجتمعات البشرية منذ القدم . فالقمح و الحبوب من أيسر المنتجات الزراعية قابلية للتخزين لفترات طويلة و بالتالي إمكانية الحفاظ عليها ليتم طبخها و تناولها لاحقا خارج موسم توافرها . و قد كان أجدادنا لفترة قريبة يعتمدون على الحبوب بغذائهم خلال فترة الشتاء عند توقف زراعة الخضراوات بسبب برودة الطقس . و باعتبار الحبوب هي الغذاء الرئيس للمجتمعات الزراعية سابقا فقد كان لها مكانة عظيمة في معتقداتها للدرجة التي تم ربطها بالإله داجون و إعطائها صبغة من القداسة . بالنظر للحبوب من هذه الناحية يمكن أن نفهم سبب احترام أو تقديس المجتمعات سابقا للخبز ( نرى الخبز مدفونا في المقابر الفرعونية مع الأموات ليستعملوه كغذاء في العالم الآخر .... تقديم الخبز كقرابين للآلهة ) فالخبز هو النتاج الأول للحبوب بشكل عام سواء كان من القمح أو الشعير أو الذرة و من هنا اكتسب مكانته العالية و المميزة كغذاء رئيسي للمجتمع . و أصبح عدم التفريط به سمة لهذه المجتمعات فهو هبة من الآلهة . بل أكثر من ذلك هو غذاء الآلهة كما يظهر ذلك من ملحمة إينوما إيليش البابلية عندما تقوم المرأة بإطعام إنكيدو الخبز الذي هو طعام الآلهة كما تصفه القصيدة . من هنا فالمشهد المعتاد حول تقبيل الخبز و رفعه عن الأرض ما هو إلا استمرار للموروث الثقافي القديم لمجتمعات هذه المنطقة بشكل شعبي بسيط يحمل في ثناياه إشارات لمعتقدات و قناعات أجدادنا حول قداسة الخبز و أهميته لحياتهم اليومية التي بالرغم من تغير القناعات الدينية و الشرائع المنتشرة نرى هذه المعتقدات القديمة قد تسربت بشكل عادات بسيطة ممارسة يوميا تنتقل من جيل لآخر . و لعل السبب الرئيسي لانتقالها من جيل لآخر يعود لطبيعة المجتمعات الزراعية التي استمرت على نفس نمط الحياة الزراعية لفترات طويلة و أنتجت ثقافة مرتبطة بحياتها الاقتصادية الزراعية و هو السبب الأول الذي أعطى للخبز مكانته الرفيعة بثقافة تلك المجتمعات و حافظ عليها مع الزمن . و هنا نعود لفكرة عدم جواز قطع الخبز بالسكين التي أشرت لها سابقا و بالإمكان أن نعرف مصدرها و هو مرتبط بمكانة الخبز الدينية العالية خلال فترة الأديان قبل السماوية و بالتالي تسربها بهذا الشكل للفقه الديني ما هو إلا استمرارية لمفهوم قداسة الخبز الدينية قديما .
بالإمكان أن ندعم الطرح أعلاه بذكر أمثلة أخرى سواء دينية أو شعبية . و مثال ذلك التقليد الديني المتمثل بالمناولة و هو تجسيد لتصرف المسيح في العشاء الأخير عندما كسر الخبز و أعطاه لتلاميذه و أخبرهم بأن يأكلوا الخبز باعتباره لحم المسيح . هنا تظهر بوضوح المكانة الدينية العالية للخبز لدرجة ربطه بجسد السيد المسيح . و هو استمرا لنفس المفهوم القديم حول أهمية الحبوب لمجتمعات المنطقة الزراعية لدرجة ربطه بالجانب الإلهي . مثال آخر شعبي سأستعين فيه بأحد الأعمال السورية التلفزيونية و اسمه "ليالي الصالحية " حيث تقوم احدى الشخصيات برقية شخصية أصابها المرض في أحداث المسلسل (الرقية نوع من الطب الشعبي الديني الذي ما زال منتشرا كثيرا بمنطقتنا ) و أثناء قراءة نصوص الرقية نشاهد الممثلة تمسك بيدها قطعة من الخبز و تقوم بقصها بمقص . الفكرة هنا تستند إلى طقوس الفداء التي كانت منتشرة سابقا لعلاج المرضى و مختصرها أن التعاويذ و الطقوس الممارسة تقوم بنقل المرض و الأذية إلى الإله بدلا من الشخص المريض . أي أن الإله يقوم بفداء الشخص المريض هنا ( للتوسع حول موضوع الفداء مقالي المنشور بعنوان تيس عزازيل ) . و هنا نحن أمام مثال حول ارتباط الخبز بالجانب الديني بشكل مشابه لما كان سائدا في السابق . ببساطة فإن تفسير طقس قص الخبز الذي تم عرضه بالمسلسل وفق المعتقدات الدينية القديمة هو أنه قد تمت التضحية بالإله دجن ( و يرمز له الخبز ) في سبيل شفاء المريض ... الإله دجن افتدى المريض . و هو ما يعيدنا مرة أخرى لفكرة الخبز و تناوله كجسد للمسيح و نذكر ان المسيح بالنهاية افتدى خطايا البشرية بالتضحية بنفسه على الصليب و هو ما يشابه الفكرة القديمة التي طرحتها حول فداء الإله للبشر في مرضهم و ضيقهم .
ننتقل الآن للعادة الثانية التي نراها ما تزال منتشرة شعبيا بمنطق واسعة من شرقنا و هي عادة سكب الماء على الأرض و هي تشمل مشهدين يمارس فيهما هذا التقليد . الأول يتمثل في العادة المتبعة بسكب الماء على قبر الميت بعد دفنه و هي تستند دينيا لحادثة سكب النبي محمد للماء على قبر سعد بن معاذ. التقليد الثاني هو عادة سكب الماء خلف الشخص المسافر و نراها منتشرة في مناطق واسعة من الرافدين و ايران و الاناضول . فما هو المشترك بين هاتين العادتين و ما هي جذور هذه العادة ؟
نعود مرة أخرى في الزمن لحوالي 3000 عام قبل الميلاد في أرض الرافدين و لنتعرف هناك على أحد الآلهة السومرية المسمى "إنكي" . الإله "إنكي" هو إله المياه العذبة لدى السومريين و هو بذلك لا يخرج عن كونه أحد آلهة الخصب المستمدة من الثقافة الزراعية لتلك المجتمعات و يجري تصويره في نقوش الأختام من تلك الفترة على هيئة رجل يتدفق من كتفيه نهران تسبح فيهما الأسماك و إلى جانبه شجرتين تمثلان العناصر المذكرة و المؤنثة في الطبيعة . و كان معبده عبارة عن زقورة في مدينة إريدو و تسمى "إي إبزو " و تعني معبد إبزو او بيت إبزو فكلمة "إي" السومرية تعني بيت و منه لفظة "إي كال " التي تعني البيت الكبير و يقصد بالعبارة دور العبادة و قد تحورت لاحقا الى كلمة "هيكل" التي نتداولها حاليا . و يلعب "إنكي" دور الحارس في الاساطير السومرية و البابلية فهو من يخبر أتراحاسيس بضرورة بناء مركب كبير لينجو من الطوفان الذي سيرسله كبير الآلهة "إنليل" لإبادة الجنس البشري . و من دوره الحارس للبشرية في الأساطير القديمة وإضافة لدوره كإله خصب مسؤول عن المياه و هي الأساسية لنجاح الموسم الزراعي تأتي مكانة "إنكي" الكبيرة لدى المجتمعات بتلك المرحلة . و هو ما يشكل أرضية لنا لفهم و تفسير دلالات عادة سكب الماء على الأرض أو على قبر الميت . فالماء هنا يمثل الإله "إنكي" و عادة سكب المياه وراء المسافر ما هي إلا عبارة عن نوع من الدعاء بأن يحرس إله المياه "إنكي" هذا المسافر في رحلته اذا أردنا قراءة العادة هذه وفق مفاهيم و أفكار تلك المرحلة الزمنية . و بنفس الأسلوب فإن سكب الماء على القبر ما هو إلا نوع من الدعاء للميت بان يكون بحراسة الإله الحامي خلال رحلته للعالم الآخر .
معظم ما نراه من عادات شعبية ممارسة حولنا ما هي الا بقايا الثقافة الدينية و الاجتماعية التي أنتجها سكان هذه المنطقة عبر آلاف السنين . و مثل هكذا موروث لا يمكن محوه من الذاكرة الشعبية للمجتمعات ببساطة رغم تغير القناعات الثقافية و المعتقدات الدينية لهذه المجتمعات عبر الزمن . بل نراه دائما يستطيع التسلل و الظهور و الانتشار بين أفراد المجتمع بشكل عادات شعبية منتشرة على نطاق واسع و التي و إن فقدت مكانتها الدينية القديمة و مدلولاتها الاصلية فهي ما زالت محتفظة بمكانتها الاجتماعية على الصعيد الشعبي و تنتقل من جيل إلى جيل عبر الزمن .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تشاد: انتخابات رئاسية في البلاد بعد ثلاث سنوات من استيلاء ال


.. تسجيل صوتي مسرّب قد يورط ترامب في قضية -شراء الصمت- | #سوشال




.. غارة إسرائيلية على رفح جنوبي غزة


.. 4 شهداء بينهم طفلان في قصف إسرائيلي لمنز عائلة أبو لبدة في ح




.. عاجل| الجيش الإسرائيلي يدعو سكان رفح إلى الإخلاء الفوري إلى