الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عبء الإثبات في الحوار الفلسفي - على أيّ من الطرفين يقع عبءُ إثباتِ قضيّة: وجود الله/ عدم وجود الله - مقدمة الكتاب -

عادل عبدالله

2022 / 6 / 9
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


عبء الإثبات في الحوار الفلسفي -
على أيّ من الطرفين يقع عبءُ إثباتِ قضيّة: وجود الله/ عدم وجود الله
- مقدمة الكتاب -
1-
هل يستطيع العقلُ البشري أنْ يدحضَ ادّعاءً مفاده: وجود جنسٍ من الحمير في كوكب معين يدور حول سيريوس، يتحدثون اللغة الإنجليزية ويقضون وقتهم في مناقشة تحسين النسل؟
بل كيفَ يمكنُ لهذا العقل نفسه، أنْ يدحض بقدراته المحدودة، ادّعاءً آخر، مفاده هذه المرّة: " وجود إبريقِ شايٍ، صغير جدًا بحيث لا يمكن رؤيته بواسطة التلسكوبات، يدور حول الشمس في مكان ما في الفضاء بين الأرض والمريخ" ؟
ربّما يكون أحدُ الانطباعات الرئيسة التي تتبادر الى الذهن حين قراءة ادّعاءات غريبة كهذه، هو: و ما حاجة العقل البشري الى اختبارِ قدراتهِ المعرفيّة في مزاعم مازحةٍ، منافيةٍ للعقل كهذه؟
فإذا كان هذا هو نوع انطباعك الرئيس - عزيزي القارئ الكريم - على الأخصّ إذا كنتَ مؤمناً بوجود الله، فقد وقعتْ في الفخّ بكلِّ بساطة!
ذلك، لأنّ هذين الادعاءين يمْثُلانِ بوصفهما نتيجةً - لمقدّماتٍ سابقاتٍ مضمراتٍ - مفادها: المقارنة بين مضمون الادّعاء بوجود الله من دون دليلٍ تجريبي يثبتُ ذلك الادّعاء، من جهة، و مضمون أيٍّ من الادّعاءين، من جهة أخرى، من حيثُ أنّ كلا أصحاب الادعاءين – ادّعاء وجود الله و ادّعاء وجود الإبريق - يعتقدانِ بوجود أشياء لا دليل تجريبيا عليها أولاً، و لا يمكن للعقل البشري دحضها من بعد، لذا فلا فرق يذكر بين نوعي الادعاءين.
معنى ذلك إذن، و خلاصة له:
إذا كنتَ مؤمناً بوجود الله، من جهة، و كنتَ غير قادرٍ على دحضِ أيّ من الادّعاءين المذكورين، من جهةٍ أخرى، فإنّ النصيحةَ المخلصةَ التي يوجهها أصحابُ الادعاءين لك هي: وجوب التخلّي عن ادّعائك بوجود الله، لأنّ مثل هذا الادعاء منافٍ للعقل هو الآخر، و لا يمكن لقدرة العقل البشري دحضه أيضا، تماما كما الحال مع مضمون الادعاءين، من حيث عجز قدرة هذا العقل نفسها، عن دحضَ أيٍّ منهما على نحو تجريبي..
هذا هو واقع الحال الذي وُلدتْ فيه قبلَ قرنين من الزمان فكرةُ "عبء الإثبات" الفلسفي في تاريخنا المعاصر، و هو – كما يبدو للعيان - نوعُ واقعٍ ساخر، تسكنه روحُ النكتة و الدعابة المريرة السوداء.
و لئن كان مضمون هذا الواقع غريباً الى حدٍّ ما، فإنّ الأكثر غرابةً منه، هو القول المؤكّد الذي يصفُ واقعاً حاليّاً متماسكاً و راسخاً، مفاده: أّنّ نزعةَ السخرية و روح الدعابة السوداء، بقيتْ ملازِمةً قرينةً لمبدأ عبء الإثبات الفلسفي - حتّى يومنا هذا- بوصفها السلاحَ المُجرّبَ الأمضى الذي يُستلّ لمواجهة أيّ حوار فلسفي يدّعي خلاله مؤمنٌ ما: بأنّ الله موجودٌ، أو أنّ فكرةَ وجود الله لا يمكنُ دحضها، سواء أ كانت روح الدعابة مستحضرةً لنوعِ مضموني الادعائين آنفي الذكر أو كانتْ مستحدثةً لمضامين أخرى من النوع الساخر نفسه، كما سيتبيّن ذلك في فقرات قادمة من سياق بحثنا.
2-
من خلال ما تقدّم، نفهم: إنّ فكرة "عبء الإثبات" في الحوار الفلسفي التي تلبّست على نحو أصيل بشكل دعابة سوداء، أريدَ بها تقويض اعتقاد المؤمنين بوجود الله، إحراجهم و النيل منهم عن طريق مطالبتهم بتقديم الدليل المقنع على صحة اعتقادهم، "بأنّ فكرة وجود الله لا يمكن دحضها" متمثلاً ذلك بتقديم أفكارٍ شبيهة لا يمكنُ لأحدٍ دحضها هي الأخرى، على الرغم من كونها أفكاراً غريبة مسكونة بالسخريّة و بحسّ الفكاهة، كما أشرتُ لذلك.
ولأنّ الأشياء ينبغي أنْ تسمّى بمسمّياتها الحقيقية من دون غمْزٍ و تلميح، كما تقتضي أدبيات البحث الفلسفي ذلك، أرى أنّ السياقَ قد أصبح الآن مناسباً لتعريف القارئ الكريم – على نحو عام و موجز - بأسماء أصحاب الادعائين السابقين و سواهما من المفكّرين و العلماء ممن رأوا أنّ الطريقة المثلى لمواجهة ادّعاء المؤمنين بوجود الله – من دون دليلٍ تجريبي على ذلك، سوى زعمهم بأن فكرة الله لا يمكن دحضها – هي تقديم ادعاءاتٍ شبيهة بنوع ادعائهم، بحيث لا يمكن لأحدٍ – أيضاً - دحضها و لا تقديم الدليل على صحّتها.
هكذا، قدّمَ المؤرخ البريطاني John Bagnell Bury 1861- 1927 في كتابه "تاريخ حريّة الفكر" عام 1913 حجّةً اعتقد أنها غير قابلةٍ للدحض مفادها الزعم: بوجود جنسٍ من الحمير في كوكب معين يدور حول سيريوس، يتحدثون اللغة الإنجليزية ويقضون وقتهم في مناقشة تحسين النسل"
ثمّ تبعه الفيلسوف الانكليزي الأشهر برتراند راسل (1872-1970) بحجّة شهيرة مماثلة لها من حيث المغزى، مفادها الادّعاء غير القابل للدحض – كما اعتقَدَ- : بوجود " إبريقَ شايٍ، صغير جدًا بحيث لا يمكن رؤيته بواسطة التلسكوبات، يدور حول الشمس في مكانٍ ما في الفضاء بين الأرض والمريخ"
و هو الأمر نفسه، ذلك الذي اقترحه عالم الفيزياء الكونية الكبير كارل ساجان 1934 – 1996 حين قال: إن هناك تنينًا في مرآبه، ينفث ناراً بلا حرارة . متحدّياً قدرة الآخرين على دحض زعمه.
و لأنّ أفكاراً كهذه، هشّة و مضحكة من حيث قدرتها على الصمود في مواجهة النقد الذي يثبت عكس ما تدّعي من جهة، و لأنها نوعُ أفكارٍ لا يمكن مقارنتها و تشبيهها بفكرة وجود الله، من حيث خصوصية هذه الفكرة الأخيرة و تاريخها الإنساني العريق الذي يرجّح أدلةَ وجود الله العقلية و الطبيعية على أدلة عدم وجوده، من جهة أخرى، أجدُ أنّ من المناسب القول هنا أوّلاً:
إنّ الغاية من ذكر تلك الادعاءات في مقدّمة الكتاب هي، تعريفُ القارئ الكريم بتاريخ نشوء فكرة "عبء الإثبات" أولاً، أيْ تعريفه بسياقها الفلسفي، و طبيعتها الساخرة و نوع حجاجها، فضلاً عن القول –وهذه ملاحظة جديرة بالأهمية – بسريان المضمون الساخر لهذه الفكرة نفسها حتّى يومنا هذا، كما سيتبيّن ذلك.
ثمّ القول من بعدُ، و هذا هو أحد المضامين الرئيسة لنوع بحث كتابنا:
إنّ فكرة "عبء الإثبات" ذاتها قد وجدت لها في نهاية المطاف مفكراً كبيراً، مُلحداً، عملَ على وضعها بجهد عقلي مضنٍ في صياغة فلسفية مبتكرة - لا أثر للدعابة الساخرة فيها – صياغة أراد من خلالها تحميل المؤمين وحدهم مسؤولية "عبء إثبات" زعمهم بوجود الله، لكن مع التأكيد المشروط الدقيق و المتحفّظ بشدّة على إجراءٍ كهذا.
جاء ذلك في دراسة مفصّلة كتبها الفيلسوف الإنكليزي الشهير أنطوني فلو 1923 - 2010، عنوانها "افتراض الإلحاد" لكن، و بطبيعة الحال، قبل أنْ يتحوّل هذا الفيلسوف من ملحدٍ قائدٍ ملهم للملحدين، الى مؤمن عقائدي متنكّر لأفكاره الإلحادية كلّها.
أمّا ما يهمنا من بعد، فهو القول الصريح، الذي سأقيم الأدلة المقنعة على صحّة مضمونه: بأنّ السواد الأعظم من الملحدين - المفكّرين منهم، و المثقفين و العوام على حدّ سواء – قد أجمعوا على تبنّي موقفٍ موحّد، يمكن وصفه بدقّةٍ على النحو التالي:
أولاً: التمسّك الشديد بالمضمون المقارِن للدعابة الساخرة نفسه، بتكرارها نصّا، حيناً، أو باستحداث تشبيهات جديدة أحياناً، كـ "أرنب عيد الفصح" أو كـ "بابا نؤيل" أو كـ " جنّيّة الأسنان " أو كـ " وحش السباغيتي الطائر" كما تقدّم بهذا المثال الأخير عالم البيولوجيا التطورية ريتشارد داوكنز.
ثانياً: الإهمال – بقصدٍ أو بغير قصد – لمضمون الدراسة الرصينة التي كتبها " انطوني فلو ". متمثلاً ذلك بالقول الصريح الذي سأقيم الدليل القاطع على صحّته - بوصفه أحد المهام الرئيسة لهذا البحث- بأنّ دراسة أنطوني فلو المعنونة " افتراض الإلحاد" لا يمكن لها أنْ تؤدي على الاطلاق، الى خلاصة معرفية مفادها: إنّ عبء الإثبات في قضية وجود الله، ينبغي أنْ يقع على المؤمنين وحدهم بطريقة غير مشروطة، و معنى هذا، أنّ قاعدة "افتراض الإلحاد" لا تعفي الملحدين من إقامة الدليل على صحّة ما يعتقدون، بل تطالبهم بحمل نصيبهم منه، أسوة بموقف المؤمنين من القضية نفسها.
أخيراً، لا بد لي من الإشارة أو التذكير مرّة أخرى، بأنّ ما يَجمع دراسة "أنطوني فلو " الى نوع الأفكار الساخرة التي تحدثتُ عنها، بل و يسمح في درجها تحت عنوان واحد، هو موضوع "عبء اثبات " المشترك بينهما، لكن، على نحو عام فحسب. مما يعني دونما شكّ، بأنّ نوع دراسة "أنطوني فلو" تختلف عن تلك الأفكار على نحو كلّي، من حيث منهجها و وسائل إقناعها و غاياتها و نتائجها، فضلاً عن القول، بأنها دراسة مخصصة بأجمعها لبحث هذا المضمون حصراً، حين كانت تلك الأفكار الساخرة - التي سأناقشها بالتفصيل من خلال النموذج الأشهر لها - لا تعدو كونها أفكاراً عابرة وردت في هذا السياق أو ذاك من بحوث المفكرين و العلماء ممن تمّ لي ذكرهم.
لِمَا تقدّم، سيكون هذا البحث – في القسم الأعظم منه – حواراً عميقاً مع مضمون دراسة فلو. أمّا تلك الأفكار الساخرة، التي سأفردُ لتوثيقها و تعريف القارئ الكريم بمضمونها فصلاً مستقلاً يخصّ أحدّ عيّناتها الشهيرة، فكانت الغاية من استحضارها في متن المقدمة، هي: انّ مضمون تلك الأفكار الساخرة وحدها، و ربّما بالعبارات نفسها، يمكن عدّه الآن موقفاً رسمياً معلناً يحفظه الملحدون المعاصرون عن ظهر قلب، بوصفه افضل الردود و أكثرها إقناعاً ذاتيّا لهم في أيّة قضيّة تحمل معنى الحجاج أو الحوار الفلسفي حول وجود الله أو عدم وجوده، كما سيتبيّن ذلك لنا في كثير من العبارات خلال سياق البحث، على نحو عام، ثمّ في الفصل المخصص من هذا الكتاب، على النحو المفصّل. فضلا عن القول: إنّ ذلك الفصل المستقلّ المخصص لبحث إدعاءاتٍ كهذا، و عنوانه "إبريق راسل" سيتضمن مجموعة من النقود الفكرية من شانها إثبات سخف إدعاءات كهذه، و بيان فشل محاولات قياسها المنطقي مع فكرة وجود الله.
أمّا قدر تعلّق الأمر بمضمون دراسة انطوني فلو " افتراض الإلحاد" فلم يحتفظ الملحدون منه إلّا بذلك الفهم المبتور و المشوّه الذي يسوّغ لهم إلقاء مسؤولية عبء الإثبات على خصومهم بطريقة غير مشروطة، و هو نوع الفهم الذي لا يمكن أنْ يؤدّي إليه مضمون تلك الدراسة على الإطلاق، كما قلتُ.
-2-
من خلال ما تقدّمتْ الإشارة له عن نوع علاقة الملحدين بمضمون دراسة أنطوني فلو، يمكن القول: إنّ واقع الحال الفلسفي الذي آلَ إليه حوارُ المؤمنين و الملحدين في قضيّة وجود الله أو عدم وجوده، في وقتنا الحاضر، يمكن إيجازه بما يلي:
على نحوٍ حاسمٍ، لا يسمحوا لأحدٍ بالجدال فيه، أو بقبول أيّة دعوة لمراجعته، بلوَرَ الملحدون العقائديون موقفاً جمْعيّاً من قضية الحِجاج في وجود الله، مفاده: إعفاء أنفسهم من إقامة الدليل على صحّة الموقف الذي يتبنونه.
بعباراتٍ شارحة و مفصّلة: إذا كنتَ تدّعي – بوصفك مؤمناً - أنّ الله موجودٌ، و كان خصمُك في الحوار يدّعي – بوصفه ملحداً – أنّ الله غير موجود، فإنّ عبء الإثبات يقعُ عليك لا محالة، وليس عليه أبدا. أيْ، إنّ على المؤمن أنْ يثبتَ للملحد عَبرَ الأدلة المقنعة صحّةَ زعمه بأنّ الله موجود، أمّا الملحد فغير مُلزمٍ بتقديم أيّ دليلٍ على صحة زعمه: بأنّ الله غير موجود.
أمّا السبب في ذلك – وفقاً لقناعة العقل الملحد – فهو: إنّ قاعدة " افتراض الإلحاد " التي تضمّنتها دراسة أنطوني فلو، تعفي الملحدين من تقديم أيّ عبء إثباتٍ على صحّة ما يعتقدونه من جهة، و لأنّ قضايا السلب – من جهة أخرى - لا يمكن إقامة الدليل عليها، و بما أنّ ادّعاء الملحد: أنّ الله لا وجود له، قضيةٌ سلبية، لذا فهو غير مُلزَمٍ بإقامة الدليل على صحة ادّعائه، أو بعبارة إجرائية: إنّ عبء إثبات القضية يقع عليك وحدك – بوصفك مؤمناً – لا عليه أبداً.
ليس هذا فحسب، بل أنّ الموقف نفسه، قد تجاوز ذلك الحدّ المتشدد من قضية وجود الله، ليصبح أكثر تطرّفاً و تعالياً. فوفقاً لما يرد في مقالٍ ينقله أحدُ المواقع عن نيويورك تايمز، و هو يوضّح هذا المعنى، نصّه:
يؤكد الملحدون المعاصرون في كثير من الأحيان، أنه ليستْ هناك حاجةٌ لهم لتقديم حججٍ تُظهر أنّ الادعاءات الدينية كاذبة. بدلاً من ذلك، كما يقولون، يوفّر الافتقار إلى الحجج الجيدة للادعاءات الدينية أساسًا قويًا لرفضها. القضية ضد الله، كما عبّروا عنها كثيرًا، هي نفس القضية المرفوعة ضد بابا نويل أو أرنب عيد الفصح أو جنية الأسنان. و هذا ما يمكن أن نسمّيه حجة "عدم الجدال" في قضيّة الإلحاد.
في السياق نفسه، " يقول بول رينزر " لكي يكون المرء ملحدًا، لا يتعيّن عليه أنْ يقول مُكرهاً أنه لا توجد آلهة، إنّما ينبغي عليه أنْ يقول فقط – كمبررٍ لكونه ملحدا - أنه لم يقدّم أحدٌ أسبابًا وجيهة للاعتقاد بوجود إله .. من يدّعي أنّ هناك إلهًا يقع عليه عبء إثبات وجود الإله ".
هذا هو واقعُ الحال، المعلن و المفروغ من صحّته، في حوار المؤمنين و الملحدين في قضيّة محددة عنوانها الجامع: هل الله موجود أم غير موجود؟ و هو واقع تدعونا أهميته و خطورة التصديق و التسليم به الى الإجابة عن هذه الطائفة من الأسئلة، أولاً:
ما هو عبء الإثبات تعريفاً؟ و إذا عَرَفنا بأنّه صيغة قضائية أصيلة تتبعها المحاكم، فما المسوّغ الى نقله من وضعه القانوني المقيّد، الى فضاء الحجاج الفلسفي الرحب؟ ما مدى صحّة ادّعاء الملحدين بإعفاء أنفسهم منه في قضيّة الحِجاج في الله ؟ من هو أوّل مَن قال بهذه البدعة؟ و هل كان قوله يؤدي الى مثل هذا الفهم حقاً؟ كيف يمكن للمؤمنين الردّ عليه، و عليهم؟ ما معنى كلمة " افتراض" أصلاً؟ و ما هو المعنى المعجمي لمفردة مُلحد، و كيف يمكن لنا تمييزه عن معنى اللا أدري، و عن موقفه الذي تفترضُ الدراساتُ المتخصصةُ أنه الموقف الوحيد المستثنى من تحمّل عبء إثباته؟ هل من الصحيح الاعتقاد، بأنّ قضايا السلب لا يمكنُ إثباتها منطقيّا؟ أمْ أنها نوع قضايا يمكن إثباتها بطرق سهلة، أسوةً بمثيلاتها من قضايا المنطق الأخرى؟ ما حكايةُ "إبريق راسل الكوني" و هل يسمحُ نوعُ وجوده، وضعه في مقدّمة قياسٍ منطقي مع نوع وجود الله؟
أمّا ما يدعونا إليه واقع الحال نفسه من بعدُ، فهو القول – الذي سنعمل على إثبات صحّته – بأنّ مفهوم " عبْء الإثبات " برمّته، في سياقه الفلسفي، تحديداً في قضية إثبات وجود الله أو عدم وجوده، لا يعدو كونَهُ مناورة معرفيّة رأى الفيلسوف الإنكليزي " أنطوني فلو" في وضعها مناسبةً طيبة لتحقيق غاية محددة، ثم دعا الطرفين المتحاورَين في قضية وجود الله – فلاسفةً أ كانوا أم أناساً متعلمين فحسب – الى القبول بخوضها على وفق شروط معينة، فما كان من الملحدين إلّا مباركتها، لكن على نحو غير مشروط، و ما كان من المؤمنين إلّا تلبية دعوته في الدفاع أنفسهم و موقفهم من الله في مسألتين متداخلتين بيتتْ تلك المناورة المحرجة لهما، أمّا المسألتان فهما، و على نحو عام فحسب:
إنّ عبء الإثبات – في الحوار في قضية وجود الله – يقع على مسؤولية المؤمنين وحدهم، أمّا الملحدون فغير ملزمين بتقديم أيّ إثبات يدعم أو يعزز اعتقادهم بعدم وجود الله، بسبب من أنّ القضايا السلبية او القضايا التي تحمل معنى النفي، لا يمكن من الناحية المنطقية إثبات صحتها أو إقامة الدليل عليها، و تلك هي المسألة الثانية.
باختصار يوضّح القصد من مضمون هذا البحث كلّه، يمكن القول: بإنّ هذا البحث يسعى الى إثبات عددٍ من المسائل المهمّة، الأولى منهن: إنّ قاعدة "افتراض الإلحاد" تلك التي اقترحها الفيلسوف الإنكليزي "أنطوني فلو" في دراسة له تحمل العنوان نفسه، لا يمكن أنْ يُفهم منها على الإطلاق، أنّ إعفاء الملحدين من تقديم عبء إثباتهم في قضية اعتقادهم بعدم وجود الله، هو أمرٌ دائم، مطلق و غير مشروط، إنّما هو في حقيقته مجرّد إجراءٍ ابتدائي مشروط لتنظيم قضية الحوار في وجود الله لا غير، إجراء سرعان ما يغادرُ الملحدَ ليضعه في حالٍ تُلزمه هو الآخر بتقديم عبء إثباته في قضيّة الحوار نفسها. مما يعني أنّ مسألةَ إعفائهم من تقديم عبء إثباتهم لا يعدو كونه سوء فهمٍ، أو تأويلٍ لا يمكن لمضمون دراسة أنطوني فلو أنْ تؤدّي إليه أبدا.
و هنا تجدر الإشارة إلى أنّ بيان هذه المهمة سيكون شأناً خاصّاً و قراءة متفرّدة سأتبنّى على عاتقي إقامة الأدلة على صحّتها، و من خلال شرحٍ مفصّل و قراءة نوعية عميقة لمضمون دراسة " انطوني فلو " نفسها لا غير. و هو نوع إجراء لا يعدم – بطبيعة الحال - تفنيد الكثير من أفكار و التصورات الخاصة بأنطوني فلو.
أمّا المسألة الثانية فهي: إنّ هذا البحث سيضمّ أيضاً مجموعة من الدراسات الني تبحث في موضوع عبء الإثبات نفسه، لكن من خلال توجّه معرفي آخر مفاده على نحو عام، هو: التعريف بمعنى و مضمون عبء الإثبات في صيغتيه القانونية و الفلسفية من جهة، و تفنيد بعضٍ من أفكار الفيلسوف الانكليزي أنطوني فلو - مما وردت في الدراسة نفسها- من قٍبل عددٍ محددٍ من الباحثين، ممن قبلوا دعوته لتحمّل عبء الإثبات على عاتقهم.
أمّا المسألة الثالثة، فمفادها: تقديم تصوّرٍ خاص لقضية " عبء الإثبات " برمّتها، من حيث كونها قضيّة لا يمكن من حيث المبدأ استعارتها و نقلها من مجال عملها القانوني الفاعل، الى مجال عملها المفارق الغريب و الفائض عن الحاجة في قضيّة حوارٍ عنوانها: وجود الله أو عدم وجوده، و مثل هذا التصوّر، يمكن عدّه أيضاً، إضافة نوعية جديدة خاصة بهذا الكتاب، لم يسبق للباحثين – على حدّ علمي – عرضها أو التصدّي لها على نحو مفصّل.
آخر مسائل بحثنا، سيكون خاصّا بتقويض واحدة من أهم حججِ الملحدين و أكثرها انتشاراً، و مفادها: زعمهم بإنّ القضايا و العبارات المتضمّنة لمعنى السلب – و أهمّها العبارة " عدم وجود الله" – هي نوع قضايا لا يمكن من الناحيّة المنطقية إثباتها، و هو تصوّر لا صحّة منطقيّة له على الإطلاق.
خلاصة لما تقدّم، ستكون خطةُ البحث متضمنةً ستة فصولٍ، هنّ على التوالي: الفصلٌ الأوّل من البحث و سيكون مخصصاً للتعريف بمعنى عبء الإثبات في سياقيه القانوني و الفلسفي، بما يمكن عدّه مقدماتٍ للفصل اللاحق، و هو نوع إجراء لا يعدم وجود بعض الأفكار المفنّدة لمضمون دراسة انطوني فلو "افتراض الإلحاد".
الفصل الثاني من البحث، سيكون مخصصأ لدحض حجّة الملحدين، بإنّ القضايا السلبية في المنطق، و أهمها فكرة القول :" بعدم وجود الله " لا يمكن إثباتها.
أمّا الفصل الثالث من البحث، فسيكون مخصصاً لبحث تلك الادّعات الساخرة التي يزعم عددٌ من مفكري الإلحاد إنّها شبيهة بفكرة الادّعاء بوجود الله، من حيث انّ الفكرتين معاً تلتقيان على نوع قياس منطقي مفاده: أنْ لا دليل تجريبي عليهما معاً، و أنّ كلتاهما تدّعيان أنخما غير قابلتين للدحض.
الفصل الرابع من البحث، سيكون مخصصاً لعرض تصوراتنا الخاصة عن مسألتين، أولاهما: حوارنا الخاص مع دراسة أنطوني فلو " افتراض الإلحاد " لغاية موجّهة مفادها، كما أشرتُ: أنّ المضمون الكامل لهذه الدراسة، لا يمكنه أن يؤدي على الإطلاق الى ذلك الفهم الخاطئ الذي استمده الملحدون منها، أعني: إعفاءهم غير المشروط من تقديم عبْ إثباتهم عن صحّة اعتقادهم بعدم وجود الله. مع الأخذ بالاعتبار – و هي مسألة مضافة جديدة أيضا – ضرورة الربط بين تصورات فلو عن عبء الاثبات خلال مرحلتين فاصلتين من حياته المعرفيه، هما: مرحلة كونه ملحداً، و مرحلة تحوّله من الالحاد الى الإيمان.
أمّا المسألة الأخرى، و هي مسألة جديدة مضافة – أيضاً - الى ملف قراءة دراسة فلو " افتراض الإلحاد " فمفادها، كما أشرتُ أيضا: إثبات أن مفهوم "عبء الإثبات" الذي كان يعمل في بيئة قانونية، كان مرتبطاً على نحو وثيق جداً بمفهوم توأمٍ له، هو مفهوم " افتراض البراءة " لذا فلا يمكن لهذا المفهوم أن يكون عاملاً مجدياً في بيئة غريبة عنه، هي قضية الحوار في وجود الله أو عدم وجوده، بسببٍ من قلعهِ من أرض بيئته القانونية الخصبة التي كان مشهد المحكمة و رموزها يمكّنانه من العمل فيها، ثم زرعه في أرض بورٍ، لا وجود فيها لا لمشهد المحكمة، و لا لأيّ من رموزها الشخصية، فضلاً عن الاختلاف الأصيل بين موضوعَي البيئتين .
الفصل الخامس من البحث، سيكون مخصصاً لعرض عددٍ من الدراسات التي اتخذت من مفهوم "عبء الإثبات " موضوعاً لها، لجهة نقده و تفنيده من خلال مداخل نقدية مختلفة في وعي نقدها له.
أمّا الفصل السادس و الأخير، و هو فصل خاص بموضوع طريف، أرتأيتُ مشاركته مع القارئ الكريم، فمفاده: أن موقع Quora الالكتروني، كان أنْ طرح سؤالاً محدداً نصّه: " عندما يتعلّق الأمر بالله، لماذا ينبغي ان يكون عبء الإثبات على المؤمن؟
When it comes to God, why is the burden of proofon believers ?
أمّا وجهُ الطرافة في الموضوع فهو: إنّ الإجابات عن هذا السؤال تنقسم بطبيعة الحال الى فئتين، الفئة الأولى التي تمثّل إجابات الملحدين – و هي بالمئات، إنْ لم أقل بالآلاف – تكاد تلتقي جميعاً على الفهم الخاطئ لمضمون أطروحة أنطوني فلو، من حيث أنّ عبء الإثبات يقع - بشكل دائم و غير مشروط - على عاتق المؤمنين بالله وحدهم، تارة، أو تردد على نحو بالغ الوضوح إحدى تلك الأفكار الساخرة التي تمّ لي ذكرها. أمّا الفئة الثانية، و هي فئة المؤمنين، فقد صدرتْ عن بعضهم نوع إجابات غاية في الذكاء و الأهمية، بحيث لا يمكنني مغادرها دون تعريف القارئ الكريم بمضمونها. مع التذكير أنّ مضمون هذا الفصل سيكتفي باستحضار مجموعة منتخبة محددة فقط، تؤكّد على نوع فهم تلكما الفئتين للموضوع.
جديرٌ بالذكر، أنّ هناك أسبابٌ مهمة أخرى تدعو الى إضافة هذا الفصل، و قد تمّ لي بيانها بالتفصيل في مقدمته.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - طريق مغلق
سلام ابراهيم محمد ( 2022 / 6 / 10 - 00:09 )
تحياتي صديقي القديم الطيب
Mission Impossibleارجو لك التوفيق في مسعاك
المحرك الاول الذي لا يتحرك حسب ارسطو، وضع الانسان بعقل زنته 1٫-;-4 كغم في كون لامتناه.. كي لا أطيل، إن شئت هنا ثلاثة روابط لمنشوراتي المتواضعة ربما لها علاقة ما بمعالجتك.. مدة قرائتها ثلاث دقائق
لا أعلم إن كنت تتذكرني؟
مودتي


2 - إضافة
سلام ابراهيم محمد ( 2022 / 6 / 10 - 04:37 )
مع الأسف لم تظهر الروابط التي ذكرتها في تعليقي السابق..على أي حال هنا رابط صفحتي على الفيسبوك. تحياتي
https://www.facebook.com/sal.moh.338211

اخر الافلام

.. قبل عمليتها البرية المحتملة في رفح: إسرائيل تحشد وحدتين إضاف


.. -بيتزا المنسف- تثير سجالا بين الأردنيين




.. أحدها ملطخ بدماء.. خيول عسكرية تعدو طليقة بدون فرسان في وسط


.. سفينة التجسس بهشاد كلمة السر لهجمات الحوثيين في البحر الأحمر




.. صراع شامل بين إسرائيل وحزب الله على الأبواب.. من يملك مفاتيح