الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


وعي الذات الخالص وهم ميتافيزيقي

علي محمد اليوسف
كاتب وباحث في الفلسفة الغربية المعاصرة لي اكثر من 22 مؤلفا فلسفيا

(Ali M.alyousif)

2022 / 6 / 16
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


الوعي الوجودي بالمعنى الانطولوجي (كينونة الذات) هو وعي مفارق للاشياء في اثبات (اناه) الفردية المستقلة وفي ادراكه موضوعه ايضا.فالذات في ادراكها لشيء مغاير تدرك وجودها المتمايزعن موضوعها وبه هي اولا, وتجعل الموضوع المدرك ذاتيا يكتسب وجودا ديناميكيا بوعي الاخرين له ثانيا, في غير وجوده المستقل بالطبيعة وجودا سلبيا بذاته (نومين) الذي يصعب على الوعي الجمعي والعقلي ادراكه في ماهيته وكيفيته وانما يدرك في تمظهره الصفاتي الخارجي فقط.
ولا قيمة لوعي الوجود الذاتي(النومين) في تغييبه موجودات العالم الخارجي من حوله وعلاقته بها وهذا ينطبق على اشياء الطبيعة من غير الانسان اكثر ما يعني الانسان بذاته الذي يكون في هذه الحالة وجوده سلبيا في وعيه لذاته اغترابيا عن الكلية الاجتماعية وعالم الاشياء, ومن الصعوبة لا بل من الاستحالة الانطولوجية ان يدرك الوجود بذاته ضمن الكليّة المجتمعية, وهو يعيش وجوده غير الاصيل على حد تعبير هيدجر. فالانسان بذاته وجود افتراضي غير متحقق لا بالوجود الطبيعي ولا بالضرورة الانطولوجية.فهو وجود لذاته والجميع. بخلاف وجود الاشياء بالطبيعة على انها وجودات مدركة بذاتها. اي لا تعتمد في وجودها الانطولوجي على الاخرين. فهي موجودة باستقلالية عن غيرها.
اتخذ سارتر من كوجيتو ديكارت (نقطة انطلاق الوعي وموضوعه في علاقتهما التي لا تنفك ولا تتوقف عند (الانا افكر) اي ما سمّاه الوعي الخالص, الى ما يقصده الوعي من اشياء)(1). الوعي الخالص في النهاية الفلسفية كان وهما ميتافيزيقيا لا معنى حقيقي له. بمعنى الوعي الخالص هو اليوتوبيا الانطولوجية المنشودة التي لا يمكن الوصل لها او ادراكها.
كذلك نجد هيدجر تخّطى الاثنين ديكارت وسارتر بقوله لا وجود لما يسمى الوعي الخالص, بمعنى ان الانا الذاتية لا تحقق وجودها في حيثية وعلّة التفكير المجرد الذي ذهب له ديكارت في الكوجيتو ..انا افكراذن انا موجود الذي هو وجود بذاته ومن اجل ذاته.
ان في انكار هيدجرما يسمى الوعي الخالص هو التعبير عن حقيقة وجودية فلسفية لا تتقبّل الدحض بسهولة , فالوعي الخالص في ادراك العقل وهم وجودي حتى في حال اخذنا مبدأ كوجيتو ديكارت في تحقيقه وجود الذات من خلال تجريد اللغة في التفكير والتعبير والاستدلال في اثبات الوجود.
ان الوعي الخالص الذي طالب به (برنشفيك) وهو فيلسوف مثالي بداية القرن التاسع عشر في محاولته تجديد مثالية كانط النقدية, ذهب الى اهمية حرية العقل في تحقيق وعي الذات بالتفكيرالمجرد المطلق, في اثبات وعي (اناه) من خلال تجريد الفكر عن وعي الوجود الخارجي في اثبات الوجود الذاتي حسب كوجيتو ديكارت.
الوعي الخالص لا يتحقق من غير وعي الوجود الذي يلازم وعي الذات اناه الفردية. والا اصبح الوعي الخالص هو وجود بذاته بالنسبة لكل وجود افتراضي بذاته ايضا . غير فاعل في الطبيعة وعالم الاشياء بالنسبة للانسان في ان يكون موضوعا مغايرا له ويمكن الاستدلال به.
والوعي الخالص وجود بذاته يطمح بلوغ الانا العليا المثالية التي اشار لها فرويد ومن قبله افلاطون وهي مثالية في المطلق محال تحققها في العالم المادي في وجود الاشياء والطبيعة والحياة على الارض.ولا يمكن الغاء ان الانسان كائن مفكر اجتماعي بطبيعته الانسانية.
الوعي الخالص طموح مثالي لدى الانسان يمكن توظيفه في عالم المعرفة والقيم والاخلاق من دون تحققه المادي, لما يتمتع به المصطلح من مثالية بلا حدود حتى في تغييب العقل عمدا عن عالم المعرفة.
والوجود بذاته سلب كما في تعبير وجودية سارتر له, فهو يقوم على تعطيل مغايرته الواجبة الضرورية في تبادله المتخارج مع الاشياء في العالم الخارجي في محاولته توكيد استقلالية ذاتية لا قيمة حقيقية لها.ان نزعة الفردانية الحرة في توكيد سارتر لها لاقت فشلا فلسفيا اجبرته على التراجع عنها في مهادنته لهوسرل والتماهي مع هيدجر ايضا.
ونقلا عن الشاروني:(ان سارتر يعرّف الوعي بانه لا يحدث, الا بتمثله شيئا مغايرا عنه, فالوعي يولد موجها الى كائن ليس هو اناه)(4) ان سارتر هنا يحوّل كوجيتو ديكارت نحو قصدية نادى بها استاذه هوسرل كي يخلص من مثالية لا ترغبها المادية في الوجودية اصلا.هوسرل ادرك في محاججته لديكارت الذي حصر وعي الوجود الذاتيب ب(اناه) وتحققه بالتفكيرالادراكي المجرّد, انما هو وعي اغترابي منعزل على صعيد عدم الاندماج في الكلية المجتمعية كجزء منها فاعل ومتمايز عنها. فتحقق الذات لا يتم من غير التعالق المتخارج بنوع من القصدية او الغائية مع العالم الخارجي وهو رأي هيدجر ايضا.وبذلك جعل كل من هوسرل وهيدجر من الوجود بذاته للانسان اي الوعي الخالص وهم غير موجود ولا يمكن تحقيقه.
ان الذات لا تدرك وجودها الحقيقي بالتفكير المجرد غير المتخارج مع الوجود الخارجي عنها وعالم الاشياء. وهذا الفهم من وعي الذات التزمه هوسرل ومن بعده سارتر وهيدجر, واجمعوا ان الوعي الذاتي الحقيقي من غير تبيان وتحديد الشيء المفكر به يعتبر لا وعي لوجود حقيقي. وهو مقتل ديكارت في انا افكر اذن انا موجود.
فقد نادى سارتر اننا يتوجب علينا مغادرة (انا افكر), وطلب هوسرل بقصدية كموضوع مفكر به, واخيرا هيدجر الذي نادى بان لا وجود لذات من غير ديناميكية مجتمعية فاعلة تمتاز بها. بل واضاف باكثر وضوحا انه لا وجود لذات بلا عالم, والانا لا تحقق وجودها منعزلة, فهي وجود - في – عالم.
هوسرل والفهم المثالي للوجود
يذكر هوسرل ان كوجيتو ديكارت( انا افكر اذن انا موجود) انه كان الأجدر كي تكون العبارة اكثر مقبولية فلسفيا حسب احالة العبارة ورؤيتها الى مرجعية فلسفتة في الظاهريات(الفينامينالوجيا) قوله : (انا افكر- في شيء مقصود - اذن انا موجود.)ولنترك قليلا إضافة هوسرل وهل هي ضرورية ام لا ؟
بعد الاقرار التمهيدي الذي ذكرناه في سطور سابقة, يمكننا القول انا افكر في لوحة امامي اذن انا موجود, فهذا يعني ان لكل شخص وعي مفارق يترتب عليه وجودا مفارقا عن غيره بالنسبة لاختلاف الشيء الموجود او الموضوع المفكّر به,وتعدد حالات اثبات الوجود المرتبطة به. بمعنى ان الذي يفكّر بأمراة اذن هو موجود ايضا, والذي يفكربشراء سيارة او بيت هو موجود أيضا, وهكذا يستمر بنا الحال الى ما لا نهاية له من حالات اثبات الوجود للفرد الواحد والمجموع أيضا في تباين اثبات وجودهم باختلاف الشيء المفكّر به,من حيث ان وعي الوجود خاصية ذاتية محكومة بالفرد والنوع الانساني, ويختلف وعي الأشياء باختلاف مواضيع الادراك حسيّا او حدسيا او خياليا او عقلانيا لها.
لذا عمد ديكارت الى اختزال كل هذه الحالات والتجليّات الوجودية في عبارته ان الانسان موجود لانه يفكّرولم يقل يفكر بماذا ؟, لانه اعتبر ان الفكر خاصيته الجوهرية انه لا يفكر في عدم او في لا معنى, وتلك بديهية لوظيفة العقل الذي يفكر , بمعنى اوضح لاوجود لتفكير من فراغ او عدم بلا موضوع متعيّن يفكّربه ويكون هو محايث الادراك والتفكيرفي اثبات الوجود النوعي للانسان, حتى وان كان موضوع التفكير متخيّلا فكريا خارج المعطى المحسوس او العياني الواقعي للاشياء. على اعتبار ان تخيّل الشيء ذهنيا لاادراكيا انطولوجيا عقليا يدل على فعالية واشتغال (العقل) في اثبات وجود الشخص تأمليا مفكرا وذاتا تعي وجودها والمحيط من حولها.
وان الخيال العقلاني المفكرالصامت يختلف عن الحوارالمتعيّن وجودا ادراكيا في وعي الذات والتعبير عن الموضوع لغويا. وحوار اللغة صمتا تفكيريا يكون بين الذات ووعيها لمدركاتها الموضوعية, بخلاف الخيال المعبّر عنه في اللغة المكتوبة او المنطوقة او الصورية او الفنية فيكون تفكيرا واقعيا في وجوده ابداعا فنيا او ادبيا لا علاقة له بالادراك المعرفي..
كذلك فان وجود اي شخص كوعي ذاتي وادراك عقلي او حسي يعي الموجودات من حوله, يصبح مفروغا منه, في عبارة ديكارت(انا افكر اذن انا موجود) ليس من واقع تفكيره حتى الخيالي بشيء معين دون غيره وحسب, وانما وجود الانسان الواقعي الفاعل المتواصل الدائم يأتي من قدرة الانسان على التفكير وامتلاكه ملكة العقل والذكاء والخيال واللغة في ما لا نهاية له من ادراكات الموضوعات والاشياء الواقعية او المتخيّلة التي تشغل التفكيرويكون تثبيت الوجود الذاتي والموضوعي معا بها ومن خلالها كعلّة وسبب .,
ان الموجودات والاشياء اللامتناهية في الطبيعة والكوني التي يريد الشخص ادراكها ومعرفتها هي التي تمنحه وجوده الفاعل بالحياة, ووعي الذات لا يكون في غياب الموضوعات او الاشياء عنه عقليا ولا تخييليا .. الذات لا تعي نفسها الا من خلال ادراك عقلي له معنى.
فليس الانسان موجود لانه يفكر تجريديا ذهنيا فقط كما يذهب له ديكارت , بل هو موجود في امتلاكه اثبات قدراته العقلية الذهنية اللغوية وملكته على الفهم والادراك لوجوده ووجود الاشياء من حوله أيضا وفي إمكانية التاثير المتبادل بينهما.
أي ان وعي الذات لايقوم على التفكير المجرد في وعي الوجود الذاتي لنفسه فقط من دون حضور الاشياء المفكر بها ,لان وعي الوجود مرهون بالسبب المحايث للتفكير الذي هو وجود الموجودات والاشياء اللانهائية المادية وغير المادية وعلاقة الانسان بها , فوعي الوجود لا يتم الا بوعي الموجودات والمحيط واقعيا أو خياليا صامتا عندما لايعبّر عن التفكير الذهني الصامت لغويا ,على اعتبار الخيال هو تفكير او حوار لغوي داخلي صامت يتم في الذهن المتخيّل عقليا تجريديا فقط, وعندما لا يتحول التفكير الخيالي الى لغة ناطقة تداولية او فعالية تعبيرية فنية تخاطب الاخر, فان فاعلية الخيال المنتج تتوقف عن تحويل موضوع الخيال المفكر به, مدركا كان او متعينا واقعيا مستقلا بوجوده, اوموجودا باللغة او غيرها من وسائط التواصل في التعريف بذلك الموجود او الموضوع المفكر به.
وفي تغييب هذه الخاصية التنظيمية العقلية للافكار لا يكون للخيال أي معنى او مغزى بل يصبح تهويما داخليا في العقل لا علاقة له بالتنظيم اللغوي الفكري السليم ولا في قدرة الخيال تحويل الموضوع المفكّر به الى موجود متعين انطولوجي او موضوع خيالي يمتلك تداولية القبول به مع الاخر, وهذا النوع من التخيلات العقيمة نجدها في هلاوس المجانين والانفصاميين ومرضى الذهان العقلي والعصابين وغيرها من عوامل تجعل الوجود المرضي وتفكيره بلا معنى, فهو عندهم تفكير غير معقلن لا يتوسط اللغة تداوليا, كسبب وعي الوجود وكذلك المحيط والموضوعات من حوله....بمعنى ان التفكيرالعقلي الذهني الصامت المجرد وسيلة افتراقه عن الخيال المريض بان هذا الاخيرعاجزعن تعيين وجوده وغيره من الموجودت بواسطة نظام اللغة التواصلي في موضوع له معنى.
وفي التوضيح اكثر هو ان فاعلية الفكر بادراك الشيء والوعي به مصدرها الاحساس بالموضوع اولا ومرجعية العقل ثانيا, عليه نضع انفسنا امام استحالة ادراكية – عقلية وذهنية في الوعي بشيء مادي او غير مادي, بمجرد قولنا حسب هوسرل (ان الاشياء ومواضيع الادراك غير موجودة ولا فائدة منها بمجرد عدم وعينا وادراكنا لها) وهذا منطق جميع فلاسفة المثالية الساذج.
وهنا يكون الادراك مثاليا في ادراك ذهني لا علاقة له بالخيال المنتج او ادراك الواقع المادي لوجود الاشياء بالعالم الخارجي. وهذا النوع من الادراك تم تجاوزه فلسفيا كما موجود في فلسفة هيجل المثالية الجدلية, على يد ماركس في المادية الديالكتيكية التي تذهب عكس ما ذهب له هوسرل في أسبقية الوعي على المادة, وبأن المادة حسب ماركس أسبق على الوعي المفروز عنها. أي وجود الشيء مسبّقا يحدد تفكيرنا به لاحقا, وليس العكس ان وعي البشر هو الذي يحدد وجود الاشياء , بل العكس ان وجود الناس الاجتماعي والطبقي هو الذي يحدد وعيهم الفكري والثقافي والفني والديني.
كما ان ما لا ندركه لا أهمية له لدى هوسرل وبيركلي وغيرهما من المثاليين ربما تنطبق صحته الوهمية في عدم حاجتنا او بعضنا التفكير في امور الميتافيزيقا ومسائل الدين في الجنة والنار وغيرها من غيبيات اللاهوت, فهي لا تعني كل الناس في اهمية ووجوب التفكير بها عقليا ادراكيا والتوصّل الى يقينيات بشأنها,وانما الايمان والتسليم بها غيبيا في القلب هي الغالبة.
ومن دعوة هوسرل (انه لا ذات بلا موضوع) التي هي سليمة وصحيحة الى حد كبير,اذا ما فهمت الجملة بصيغة الجدل الديالكتيكي المتخارج في تبادل التاثيرالمتناوب بين الذات والموضوع, وتصبح باطلة غير صحيحة في قول هوسرل: (ليس هناك من حاجة او اهمية لفصل الذات عن الموضوع!! والذات والموضوع متداخلان لايمكن ولا يجوز الفصل بينهما, والذات والموضوع شيء واحد) في فلسفته الظاهراتية. هنا يجب ان لا نقع بوهم ادراك الذات لموضوعها هو تموضع انماجي للذات والموضوع وصولا الى تطرف الموضوع يعطي خاصية الادراك الذاتي.
ان امتلاك الانسان قدرة وآلية التفكيرالواقعي او التجريدي لا تجعل من الانسان مفكرّا, الا بعد ان يكون في وعيه وادراكه او حتى في خياله موضوعا او شيئا متعيّنا مفكّرا به اي يوفر مادة تفكير العقل, وبهذا الفهم تصبح مقولة هوسرل انا افكر بشيء اذن انا موجود صحيحة,وهي مشروطة بعدم وجود فعالية تفكيرية عقلانية يحوزها الانسان فقط, من غير موضوع او موجود مستقل مفكّر به سواء ادركه العقل ام لم يدركه حسيا او تخييليا.,
وحتى الصمت الخيالي هو في حقيقته تفكير وحوار داخلي لا يعبّر عنه باللغة التداولية التواصلية مجتمعيا لكن لا ينعدم فيه التفكير المنتج كما في الادب والفنون, لكنه في التفكير الذهني بالاشياء الواقعية يبقى تفكيرا ذهنيا تنعدم فيه اللغة المنطوقة او المكتوبة او المعبّر عنها باللغة الحركية الصورية الايحائية قبل انتهاء العقل او الدماغ من تفكيره بموضوع التفكير واعطاء اللغة حرية التعبير عنه ., .
وعي الانسان بذاته لا يتحقق من دون ارتباطه واقترانه بشيء مغاير مجانسة لذاته. ولا يمكننا التأكد من حضورنا كذوات مفكّرة وموجودة دون وجود الغير المتعّين او الاشياء بأي شكل او صيغة بدت لنا, ولا نتوحد معها كيفيا في تطابق بالصفات بالنسبة للنوع كبشر, أي ان وعي الناس بوجودهم المفكر ذاتيا لا يكون حقيقيا من دون احساسهم بالوجود الخارجي للأشياء المفارق لوجودهم وتفكيرهم.
ان الوجود ممثلا بالطبيعة وقوانينها المستقلة عن الوجود الانساني, وفي مختلف التجليات لوجود الاشياء هو وجود قائم بذاته خارج رغباتنا.وجود الذات هو في المغايرة مع وجود الآخر كمتعيّن حاضر في علاقة الارتباط بغيره من الاشياء.وان وعي الانسان بوجود انسان آخرمثله, لا يعني تطابقهما الكيفي بادراك الذات او الوجود المغاير, حتى في ادراكهما الموضوع الواحد المشترك بينهما, وانما بالتقاء صفاتهما او بعضها في الجنس الواحد كنوع جامع لهما, لكنهما يبقيان محتفظان بادراكهما المتمايزالمختلف في فهم الوجود والاشياء وهو ما يصح تعميمه على الوجود البشري عامة , بأن جميع الادراكات مختلفة ومتنوعة بعدد البشر ولا نهائية الاشياء والموجودات والكوني وفي لا نهائية ولادة البشر وموتهم جيلا بعد جيل.
وفي قول هوسرل :( انا افكر...دون ان يذكر لنا ديكارت, في اي شيء كان يفكر, فالتفكير بغير شيء يتعلق به , ضرب من الخيال) بمعنى ان مادة او موضوع التفكيريجب ادراكها حسّيا والتفكير بها عقليا لا خياليا تجريديا فقط حسب رغبة هوسرل وليس حسب طبيعة الوجود البايولوجي والفسلجي للانسان.فالانسان يفكر ماديا كما يفكر خياليا ايضا, وفي كلا التفكيرين يكون منتجا لا عدميا لموضوع تفكيره..
الخيال الذي لا يخضع لا للحس ولا للحدس ولا للوجدانات ولا للمدركات العقلية ولا تداولية اللغة عن موضوع خياله يكون معطّلا في التوصّل لحقيقة الشيء او وجوده حتى لو كان متخيّلا عقليا في الذهن فقط,.
فالخيال المنتج لا يمنح وجود الشيء او الاشياء كمتعينات مادية او تخييلية من غير تشيؤها ذهنيا ومن ثم لغويا في حال حاجة التعبيرعنها كمواضيع للفكر, ومن غير التفكير بالوجود باللغة الصامتة عقليا والفكر المنتج, او بلغة الكلام المنطوقة الصائتة كلاما شفاهيا او مكتوبا او تصويريا ,يكون الواقع الخارجي عدما والتفكير به معدوما تماما, ويصبح الوجود باكمله غير فاعل ولا موجود في استقلاله الخارجي عنا, عندما ننصرف عنه واقعيا ومحاولتنا التفكير به وادراكه خياليا في غير قدرة وتعطيل الخيال على تجسيده كمتعين ذهني(لغويا) على الاقل يستطيع الاخرون فهمه كموضوع او كوجود, وكون الشيء غير متحقق الوجود لا عقليا ولا متعينا ذهنيا كموضوع معبّر عنه لغويا او بأية واسطة أخرى تواصلية يعني ذلك عدم ادراك الوجود كحقيقة, حتى لو كان ذلك الوجود متعينا ماديا بالنسبة لغير الذات المفكرة به من قيل الاخرين....
الخيال مجرد لوحده يفتقد فاعلية الادراك العقلي للموضوع ولوجود الاشياء ما لم يكن مزوّدا بمدركات قبلية مخزّنة بالذاكرة تجريبية اوحسّية مادية على الاقل عن الموضوع المفكّر به خياليا تحت رقابة العقل ووصايته على الخيال, ومن دون رقابة العقل على تخيّلاتنا,تكون تلك التخيلات التعبير عنها هلوسة وهذاءات لا اكثر سواء في صمتها او هذاءاتها غير المفهومة. كل مدرك خيالي ذاتي يجب ان تتوفر له (خلفية) معرفية اولية سابقة على ما يفكر به كموضوع.
فمن المتعذّر ان يفكر الانسان العاقل خياليا في شيء غير متعين ذهنيا في تفكيره, سواء كان الخيال واقعيا بالتفكير بموضوعه المادي, اوتفكيرا خياليا بموضوع استحدثته الذاكرة الفكرية العقلية له.فما لا يدركه فرد يدركه اخر آو اخرين في الواقع.
ان ديكارت جعل اثبات الوجود الإنساني في القدرة على التفكيرتجريديا ذهنيا,ولم يقل ان وجود الأشياء المادي فقط تمنحنا وعي الذات كتفكير, ووعينا الاشياء المادية هو في وجودها المستقل المحايث لوعينا الذاتي. ثم وهو الأهم فان هوسرل فهم التفكير الخيالي الذهني في ادانته له انه لا يمنحنا الوجود الواقعي, وهو خطأ كبير لا يقع به حتى غير الفيلسوف, فالخيال السوي العقلاني غير المريض هو قوة مادية ليست قليلة الأهمية عن التفكير الواقعي او التجريبي, وخير مثال انه لولا الخيال لما كنا نعرف أهمية الفنون والاداب بكل تنوعاتها التي يبتدعها مخيال الانسان على امتداد العصور, كما لولا الخيال المنتج لما تحقق للانسان الطيران ولا النزول على سطح القمر وهكذا بما لايعد او يحصى في ابداعات ما يطلق عليه اليوم الخيال العلمي.
ان في عدم حضور موضوع او شيء متعيّن مدرك حسّيا تجريبيا او عقلانيا امام الانسان المفكّر يعني استحالة الوعي الادراكي بالموجودات والاشياء واقعيا ولا تنعدم معها ادراكه لموضوعات خياليا تجريديا محضا, وفي عدم وجود الاشياء من حولنا حسيا ولا خياليا يعني استحالة وانتفاء( التفكير) بها, او الحاجة للتفكير بها ايضا.
وهذايسقط اشتراط هوسرل المثالي الابتذالي انه لا وجود لموضوع او مادة خارج احاسيسنا بها وادراكنا لها. فمثلا هل من الصحيح ان ننكر وجود منضدة في غرفة لا نحس بوجودها نحن في مكان وزمان معينيين؟! وجود الشيء ماديا لا يحدده عدم الادراك به من قبل شخص واحد او ملايين الاشخاص,.
فالطبيعة وكل ما يحيط بنا من اشياء وموجودات موجودة بمعزل عن وعينا وادراكاتنا ورغائبنا. وقوانين الطبيعة موجودة ولا تشتغل على وفق رغبات الانسان واهوائه. ولا يبطل وجود او فاعلية تلك القوانين لمجرد عدم معرفتنا وادراكنا لها. وميزة الانسان انه يكتشف تلك القوانين باستمرار ويعمل على تطويعها لمصالحه ولا يكون لادراك تلك القوانين من قبلنا سببا في وجودها او محاولة الغائها وهي تعمل شاء الانسان اكتشافها أم لا, او سعى لفك شفراتها العاملة لصالحه أم لا.
ان في تأكيد هوسرل ان الذات المفكّرة لا تنفصل عن موضوعها,وان كل مالا ندركه ليس له وجودا, خطأ جوهري كبيروسنوضحه لاحقا. عدم انفصال الذات عن الموضوع كما يريده هوسرل يعني استحالة الوعي العقلي والاحساس بالاشياء, وبالتالي استحالة تفكيرية ايضا في محاولة ادراك الشيء حسيا او تخييليا.
الموضوع او الشيء المراد ادراكه والتفكير به يحتاج الى مسافة رصد ومعاينة بعيدة قصديا من قبل الذات لتحقيق الوعي به ومن ثم التفكير به. وفي حال اندماج الذات بالموضوع وتلاحمهما من غير مسافة رصد بينهما يكون فقط في استحالة معرفة الشيء ووجوده والتفكير به.
فكيف للذات ان تفكر في وعي ذاتها والتفكير في وعي الاشياء من حولها وهما كليهما في حالة اندماج وتناوب وظيفي في احلال احدهما محل الآخر او في اندماجهما تخارجيا معا في التفكيرالواحد او المتباين باختلاف الموضوع .
ان الذات تكون مرة ذاتا تعي وتدرك ذاتها,واخرى تعي وتدرك موضوعاتها في وقت واحد ليس تراتيبيا, بمعنى وعي الذات تتداخل في وعي موضوعاتها معا في وقت ولحظة واحدة, وتختلف الذات عن موضوعها في كيفية الادراك المتبادل بينهما, وهذا يوجب علينا تفريق الذات عن الموضوع وليس كما يرغب هوسرل. (انه لا معنى في تفريق الذات وفصلها عن الموضوع) هذا الافتراض يعدم حقيقة ان العقل والتفكيروالحس والخيال والذهن واللغة كينونة ادراكية واحدة في انسان واحد.
الموضوع المادي او الشيء المتعين الموجود او الموضوع المتخّيل هو واقع استثارة الادراك والعقل التفكير به ومحايث له,ولا تحمل الذات المفكّرة موضوعها معها في الخيال التجريدي غير المفصح عنه فقط.وانما موضوع الخيال يصبح وجودا ماديا في تفكير العقل له.
ان التفكير الخيالي لدى الشخص (العاقل) غير المجنون او الانفصامي لا يلغي الوجود المادي للاشياء من حوله ولا المحيط لا برغبته ولا من دونها , والا كان وعي الخيال في لاموضوع او في شيء متعين وجودا, لا يدركه العقل بتنظيم ذهني أو في خيال منظّم ومنتج معبر عنه لغويا هو واحد ولا فرق بينهما في الحالتين, وهو عبث لا ترجمة واقعية وجودية حقيقية له.
ان نظام التفكير الخيالي المبرج عقليا في ادراك الوجود يلتقي بداهة بالادراك العقلي التجريبي والعلمي في ادراك ذلك الوجود ايضا. وبخلاف ان لا يكون التفكير الذهني منتظما ومنتجا عندها تنتفي جدوى ادراك الوجود خياليا تجريديا كونه يجتر التفكيرالمشتت العقيم بلا ادنى تواصل لا بالموضوع ولا بالمحيط ولا يعتد هنا التعويل في معرفة الوجود الحقيقي بوساطة الخيال التجريدي الصامت المريض في عجزه التواصل مع الاخرين بانتظام لغة التفكير الخيالي المفهومة في تعبير ادبي او جمالي فني كما يفعل الفنان او الكاتب .
وما يذهب له هوسرل في عبارته:( ان كل ذات مفكّرة او كل حالة تقصد شيئا ما, وان هذا الوعي يحمل في ذاته ذلك الشيء الذي يفكّر به.) فهذا لا يمنحنا التفكير في الشيء الخيالي كوجود مستقل عنا في الذهن يرافقنا اينما انتقلنا, وفي هذا الافتراض نخلط بين وجود الشيء ذهنيا في الوعي وبين وجوده ماديا واقعيا بمعزل عن وعينا به او ادراكنا له, ان في اختلاف الوعي للوجود والاشياء حالة واقعية ايجابية لا تكرّس انتفاء الوعي بالمادة والمحيط وما يحتويه من مواضيع لا نهاية لها في اختلاف تفكيركل الانسان عن الاخر, وتشكّل باختلافاتها عند الانسان حيثيات استثارة العقل على التفكير. وفي اهمية فصل الذات الادراكية المفكرة عن موضوعها , هو الذي يمنح الذات حضورها وقابليتها على الادراك والوعي والتفكير واثبات الوجود الفاعل للذات والشيء معا.
ان الموضوع او الشيء الموجود يبقى استثارة واقعية لجدوى التفكير به, وفي قصدية الحاجة الى التفكير لمعرفة ومحاولة تفسير وفهم الاشياء.ان وعي الموضوع هو وعي الذات لملكاتها الحسية والعقلية والخيالية المنتجة تواصليا.
ان وعي الذات للاشياء يتم في حضورها بالذهن سواء اكانت موجودات واقعية يمكن الإحساس بها وادراكها عقليا, او موضوعات يتخيّلها الذهن أوالادراك العقلي.وهذا يؤكد بديهية اشتراك العقل والخيال في ادراك الوجود كلا بطريقته الخاصة واسلوبه المميز.
وحتى بعد غياب الموضوع المفكّر به, او تغييبنا له كوجود واقعي فانه يبقى يمثّل لنا استثارة واقعية للتفكيربه من أناس اخرين غيرنا, واهمية مانفكر به ايضا, وان وجود الشيء خارج ادراك الحواس والعقل المفكّريعني حسب هوسرل (لا وجود له ولا اهمية له ان يكون مادة او موضوعا مفكّرا به) .
غير صحيحة ابدا في محاكمتنا ان الاشياء لاتوجد حسب رغباتنا ,اواهمية الوعي بها وادراكنا لها او عدم ادراكنا لها, فالطبيعة والاشياء والموجودات جميعها موجودة بمعزل عنا وعن اهمية ادراكنا لها او الوعي والتفكير بها او في عدمه. فوجود الشيء باستقلالية عن الفكر لا يعني انتفاء وجوده اوبطلان الحاجة له كما يرغب هوسرل.
وجود الشيء لا تحدده الرغبة الذاتية في اهميته من عدمها.وما يدركه انسان لا يشترط ادراكه من غيره . فمثلا اللون الاحمر يدركه البصيربينما لا يدركه المحروم من نعمة البصر, وفي كلا الحالتين فالاحمر موجود في استقلالية عنا, حتى لو لم يدركه الاثنان البصير والاعمى.
فعدم ادراك الشيء لا يلغي وجوده المادي المستقل , والفكرالعقلاني او الخيالي لا يخلق وجود الاشياء بمجرد رغبة التفكير بها. ووجود الشيء يسبق اهمية الوعي به وادراكه. وان كل ما لا يدركه انسان لا يلغي عدم وجوده في الواقع او الخيال من قبل مختلف الناس ومستويات وعيهم وتفكيرهم المنوّع في اختياراتهم المتنوعة العديدة للمواضيع والاشياء.
كل ما ذكرناه يؤكد اهمية وضرورة فصل الذات عن الموضوع كي تكتسب فعالية التفكير واقعيتها واهميتها وضرورتها, وفي قول هوسرل (التصاق الذات بالموضوع يعطي اهمية التفكير), منطق سليم ومشروط اوضحناه في سطور سابقة ,فلا يؤخذ به الا في ان يكون للذات وعيها المستقل عن موضوعها وليس في اندماجهما معا كما يذهب له هوسرل.
ان في تغييبنا استقلالية وجود الشيء عن التفكير به , لا يلغي وجوده ولا يلغي اهمية ووجوب التفكير به. وفي غياب الذات لايغيب الموضوع او الشيء المستقل عن الذات وجودا, كما في غياب الموضوع لا تغيب الذات أيضا,فمثلا غياب الذات المفكّرة عند المجنون او فاقد الوعي او الانفصامي لا يلغي وجود الاشياء ولا الاخرين من حوله؟ حتى لو جرى تغييب الموضوع قسرا واراديا من فرد واحد او عدة افراد, فأن وجود الاشياء خارج مدركاتهم لا ينفي وجودها المادي او الحاجة لها موضوعا تفكيريا, وأن تلازم الذات والموضوع لا تحدده الرغبة الذاتية العاقلة والمفكرّة في الاشياء.
ونؤكد ان استقلالية الذات وادراكها لنفسها لا يتأتى من غير الوجود المستقل للموضوع عنها, وفي ذلك فقط يكون التفكير بالاشياء ممكنا, وانه لا ذات مفكّرة او واعية بدون موضوع, والمواضيع والاشياء وجود ازلي قائم بذاته سواء تناولها تفكير الانسان ام لم يتناولها الى ما شاء من العصور.
علي محمد اليوسف/الموصل
• كمثال على النظرة المثالية المتطرفة ان الفيلسوف بيركلي كان يقول لجلسائه انه متى ما تعطّلت عندي حواس ادراكي لكم من نظر وسمع وكلام ,فانتم غير موجودين أصلا معي الان, فسألوه من الذي يحدد وجودنا في تعطيل حواسك في ادراكنا ؟ اجابهم الله.
الهوامش:
1.نقلاعن مقالة د.جميل حمداوي/موقع المثقف العربي/حزيران/17/6/2018
2. نفس المصدر السابق
3. نفس المصدر السابق
4. حبيب الشاروني/ فلسفة سارتر ص 65








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مراسلة الجزيرة ترصد مخرجات اجتماع مجلس الحرب الإسرائيلي


.. غالانت: إسرائيل تتعامل مع عدد من البدائل كي يتمكن سكان الشما




.. صوتوا ضده واتهموه بالتجسس.. مشرعون أميركيون يحتفظون بحسابات


.. حصانة الرؤساء السابقين أمام المحكمة العليا الأميركية وترقب ك




.. انهيار أشرعة الطاحونة الحمراء في باريس من فوق أشهر صالة عروض