الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عبء الإثبات في الحوار الفلسفي - الفصل الثالث: الله و إبريق شاي راسل: الوجود الموضوعي الراسخ، و التصور الذاتي المُختلق

عادل عبدالله

2022 / 6 / 20
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


عبء الإثبات في الحوار الفلسفي - الفصل الثالث:
الله و إبريق شاي راسل:
الوجود الموضوعي الراسخ، و التصور الذاتي المُختلق

- التعريف و المعنى
إبريق راسل، تشبيه أو قياس بين فكرتين او افتراضيين مختلفين، اعتقدَ الفيلسوف الإنكليزي الشهير برتراند راسل 1872-1970 أنّ لهما ما يجمعهما و يسوّغ القياس بينهما، إنطلاقاً من عنصر التشابه الموجود بينهما.
أمّا الفكرتان أو الافتراضان اللذان اعتقد راسل التناظر بينهما، فهما: وجود الله، من جهة، و وجود إبريق شايٍ صيني يدور في فلك بين الأرض و المريخ، من جهةٍ أخرى.
و أمّا عنصر التشابه بين الفكرتين، و هو العنصر الذي يسمح بإجراء نوعِ قياسٍ كهذا، فهو – وفقاً لفهم راسل - : إنّ كلا الافتراضين يتأسس على مقدّمة مفادها: الادّعاء بوجود أشياء غير قابلة للدحض تجريبيّا.
بعبارة أخرى: بما أنّ الدليل الوحيد على وجود الله لدى المؤمنين يتأسس على مقدّمة مفادها، ادّعاؤهم بأنّ فرضية وجود الله غير قابلةً للدحض،
إذن: يمكن لراسل، أّنْ يدّعي "أنّ إبريقَ شايٍ، صغير جدًا بحيث لا يمكن رؤيته بواسطة التلسكوبات، يدور حول الشمس في مكان ما في الفضاء بين الأرض والمريخ." و هو نوع ادّعاء غير قابلٍ للدحض أيضا.
و معنى ذلك، أنّ كلا الادّعاءين غير قابلٍ للنقض، و معناه أيضا، أنّ عبء الإثبات يقعُ على الجهة التي تدّعي فحسب، لأنّ الجهة الأخرى ليس بوسعها نقض هذا الادعاء.
تقول الموسوعة، موضّحة ذلك:
إبريق شاي راسل، تشبيهٌ صاغه الفيلسوف الإنكليزي برتراند راسل (لتوضيح: أن العبء الفلسفي للإثبات يقع على عاتق الشخص الذي يقدم ادعاءات غير قابلة للدحض تجريبياً، بدلاً من تحويل عبء النقض disproof إلى الآخرين.
جاء ذلك في مقال لراسل عنوانه ?" "Is There a Godو كان حديثه موجّها على نحو خاص للأرثوذكس، يقول راسل في النص الكامل لمعنى قياسه:
" يتحدث العديد من الأرثوذكس كما لو كان من عملِ المتشككين دحضَ العقائد السائدة، بدلاً من الدوغمائيين لإثباتها.
هذا، بالطبع، خطأ. إذا كنتُ سأقترح أنه يوجد بين الأرض والمريخ إبريق شاي صيني يدور حول الشمس في مدار بيضوي الشكل، فلن يتمكّن أحدٌ من دحض تأكيدي، بشرط أن أكون حريصًا على إضافة أنّ إبريقَ الشاي صغيرٌ جدًا بحيث لا يمكن الكشف عنه حتى بواسطة أقوى مناظيرنا. لكن إذا كنت سأستمر في القول بادّعائي هذا - نظراً لأنّ تأكيدي لا يمكن دحضه - أنّه من غير المقبول لأي عقل بشري متزن أنْ يشكّك في صحته، فبالتأكيد يجب أنْ يعتبر الناسُ أنّ ما أتحدث عنه محض هراء.
تضيف الموسوعة: في عام 1958 ، أوضح راسل قياسه بين إبريق الشاي و المفاهيم الدينية، تحديدا، وجود الله، قائلاً:
يجب أنْ أدعو نفسي لا أدريا، لكن، لجميع الأغراض العملية، أنا ملحد. لا أعتقد أنّ وجود الله المسيحي أكثر احتمالًا من وجود آلهة أوليمبوس أو فالهالا. لنأخذ توضيحًا آخر: لا أحد يستطيع إثبات أنّه لا يوجد بين الأرض والمريخ إبريق شاي صيني يدور في مدار بيضاوي الشكل، لكن لا أحد يعتقد أنّ هذا من المحتمل بشكل كافٍ أنْ يؤخذ في الاعتبار في الممارسة العملية. أعتقد أن الله المسيحي غير محتمل.
ومعنى ذلك، وفقاً لفهم عالم الكيمياء "بيتر أتكينز" إن الهدف من إبريق شاي راسل هو أنّه لا يوجد عبء إثباتٍ على أيّ شخص لدحض التأكيدات، أيْ الادّعاء بوجود الله أو وجود ابريق الشاي.
- إبريق راسل، موضوعاً للنقد و التفنيد
رأى الكثير من الباحثين و الفلاسفة، أنّ فرضيّة "أبريق شاي راسل" أو قياسه مع مفهوم الله، تنطوي على عددٍ من المغالطات المنطقية، لذا كان من الطبيعي أنْ يكون ذلك النوع من القياس عرضة للنقد والتفنيد، يرد في الموسوعة – نقلاً عن مصادرها - على سبيل المثال:
يجادل الفيلسوف Brian Garvey في دراسته "Absence of Evidence, Evidence of Absence, and the Atheist s Teapot أيْ: غياب الدليل، و دليل الغياب، و إبريق شاي الملحد:
بأنّ تشبيه إبريق الشاي بمعتقد الدين يفشل، لأنّه، مع إبريق الشاي، يختلف المؤمن وغير المؤمن ببساطة حول عنصر واحد في الكون – الإبريق - وقد يشتركان في جميع المعتقدات الأخرى حول الكون، وهذا غير صحيح بين الملحد و المؤمن. لأنهما يختلفان في أشياء كثيرة جدا.
بعبارة توضّح القصد، إنّ Brian Garvey يجادل: بأنّ الأمر لا يتعلق باقتراحٍ مؤيد لوجود شيء ما، من جهةٍ، وأن الملحد ينكر ذلك، من جهة أخرى. من حيث أنّ الأمر ببساطة هو: أنّ كلاً منهما يؤكد تفسيرًا بديلاً لسبب وجود الكون والطريقة التي هو عليها، يقول Garvey: "الملحد لا ينكر فقط وجودًا يؤكده المؤمن - الملحد ملتزم بالإضافة إلى ذلك، بالرأي القائل بأنّ الكون ليس على ما هو عليه بسبب الله. بمعنى أنّ الكون، إمّا أنْ يكون موجوداً بسببِ شيء آخر غير الله، أو أنّه موجودٌ بلا سبب لذلك.
أمّا الفيلسوف Peter van Inwagen فيقول مجادلا: بأنّه في حين أنّ إبريق شاي راسل هو قطعة بلاغة رائعة، فإنّ شكلَ حجته المنطقية أقل وضوحاً، وأنّ محاولة توضيح ذلك تكشف أنّ حجّة إبريق الشاي بعيدة كل البعد عن أنْ تكون مقنعة.
في السياق نفسه، ينقل المصدر عن الفيلسوف الشهير Alvin Plantinga قوله: إنّ الباطل يكمن في قلب حجّة راسل. من حيث أنّ حجّته تفترض أنّه لا يوجد دليل ضد إبريق الشاي ، لكن بلانتينجا لا يوافق على ذلك، معلّقاً بما لا يخلو من السخرية:
من الواضح أنّ لدينا قدرًا كبيرًا من الأدلة ضدّ إبريق الشاي. على سبيل المثال، على حدّ علمنا، فإن الطريقة الوحيدة التي يمكن أنْ يدخل بها إبريق الشاي في مدار حول الشمس ستكون إذا قامت دولة ما لديها قدرات إطلاق فضائية متطورة بشكل كافٍ بإطلاق هذا الإبريق في المدار. لا توجد دولة لديها مثل هذه القدرات التافهة بما يكفي لإهدار مواردها بمحاولة إرسال إبريق شاي إلى المدار. فضلاً عن ذلك، إذا قام بلدٌ ما بفعل ذلك، لكان قد انتشر في جميع الأخبار؛ و سيكون من المؤكد أننا قد سمعنا عنها. غير أننا لم نسمع. وما إلى ذلك وهلم جرا. هناك الكثير من الأدلة ضد إبريق الشاي راسل.
أمّا الناقد الأدبي James Wood فيقول، إن الإيمان بالله "هو أكثر منطقية بكثير من الإيمان بإبريق الشاي" لأنّ الله "فكرة عظيمة وكبيرة" "لا يتم دحضها بشكل تناظري بالإشارة إلى أباريق الشاي السماوية أو المكانس الكهربائية، التي تفتقر إلى الكبر والعظمة اللازمتين "و" لأنّ الله لا يمكن أنْ يتجسّد، فإنه لا يمكن أنْ يتحول إلى مجرد شيء.
قبل أن أتحوّل الى مستوى آخر من نقد قياس "إبريق راسل" دعونا نتعرّف على تاريخ هذا النوع من القياس، كما يرد في الموسوعة نفسها.
- تاريخ الفكرة
يرد في موسوعة Wikipedia أنّ مفكرين آخرين افترضوا تشبيهات غير قابلة للدحض، كافتراض "جي بي بيري" في كتابه عام 1913 ، تاريخ حرية الفكر، حيث يرد:
يتكلّم بعضُ الناس كما لو لم يكن لدينا ما يبرر رفضنا لعقيدةٍ لاهوتية، ما لم نثبت أنها كاذبة. لكن عبء الإثبات لا يقع على الرافض .... إذا قيل لك أنه في كوكب معين يدور حول سيريوس هناك جنسٌ من الحمير يتحدثون اللغة الإنجليزية ويقضون وقتهم في مناقشة تحسين النسل، لا يمكنك دحض البيان، ولكن هل سيكون لهذا الزعم، على وفق هذا الوصف، أية مطالبة يمكن تصديقها؟ قد تكون بعض العقول على استعداد لقبولها، إذا تكررت مرارًا وتكرارًا .
في السياق نفسه، تقول الموسوعة: قدّم عالم الفلك كارل ساجان في كتابه عام 1995 The Demon-Haunted World قياساً مشابهًا غير قابل للدحض يسمى التنين في المرآب كمثال على التفكير المتشكك. يقول ساغان في مثاله: إذا ادّعى ساجان أنّ هناك تنينًا في مرآبه، فقد ترغب في التحقق من ذلك بنفسك ولكن إذا كان من المستحيل اكتشاف تنّين ساجان. الآن، ما الفرق بين التنين غير المرئي، غير المادي، التنّين العائم الذي يبصق نارًا بلا حرارة، و بين عدم وجود تنين على الإطلاق؟ إذا لم تكن هناك طريقة لدحض قضيتي الخلافية، و لا توجد تجربة يمكن تصورها من شأنها أنْ تُحسب ضدّها، فماذا يعني أنْ أقول، إنّ تنيني موجود؟
جدير بالذكر أنّ إبريق شاي راسل، قد كان له تأثير ثقافي كبير بين الاوساط الملحدة، حيث أدّى الى ظهور مفاهيم محاكاة ساخرة للدين مثل وحيد القرن الوردي الخفي Invisible Pink Unicorn و وحش السباكيتي الطائر Flying Spaghetti Monster. بل أنّ Daevid Allen وهو موسيقي و شاعر – مدمن مخدرات - من الفرقة Gong كان أنْ استخدم في الستينيات صورة إبريق شاي طائر في ثلاثية ألبوم له، يشير بها إلى إبريق شاي Russell في عمله Gong Dreaming .

- وجود الله و وجود إبريق راسل: صفقةٌ من جانب واحد.
بعد أنْ تعرّفنا بالتفصيل على أغلب الأفكار التي وعدنا في مقدمة هذا الكتاب في الحديث عنها، و كان من بينها تاريخ الفكرة و تحولات استخدامها، ثم التعريف بأساليب نقد بعض الفلاسفة لها، أجد أنّ من المناسب إضافة مدخل جديد من النقد لها، سيكون على النحو التالي، مع التأكيد أنّها أسئلة ستؤدي بنا الى نتائج لم يضعها راسل في ظنّه :
أوّلاً: قدر تعلّق الأمر بـ " حمير المؤرّخ البريطاني John Bagnell Bury " ذلك النوع الحيواني الذي يتحدّث اللغة الإنكليزية، و يقيم في كوكب ما، يدور حول سيريوس، من جهة، أو قدر تعلّقه بإبريق شاي راسل، الذي " يوجد بين الأرض والمريخ و يدور حول الشمس في مدار بيضاوي الشكل " من جهة أخرى، إذا افترضنا جدلاً، أنهما موجودان بالفعل، فلا بدّ لنا من السؤال إذن، عن الكيفية أو الوسيلة التي تعرّف من خلالها كلٌّ من البريطانيَين، المؤرّخ و الفيلسوف، على وجود ذلك الجنس من الحمير، بالنسبة للمؤرّخ، وعلى وجود ذلك الإبريق، بالنسبة للفيلسوف؟
هل اتصلَ أحدٌ من أفراد ذلك الجنس بالمؤرخ البريطاني، ليخبره بما هو عليه واقعُ حالهم في ذلك الكوكب المجهول؟ أمْ تمكّن راسل من مشاهدة ذلك الإبريق الصغير الذي يدور بين الأرض و المريخ، بعينه المجرّدة فحسب، على الرغم من اقراره المشروط بأن إبريقه الصغير لا يمكن الكشف عنه حتى بواسطة أقوى مناظيرنا؟
من الواضح القول، إنّ أيّاً من فرضَي الاتصال و المشاهدة الحسيّة لم يحدثا، بل و لا يمكن حدوثه أيضا، حتّى في حال وجودهما بالفعل. و هو الأمر الذي يؤدّي الى القول بالضرورة، إنّ الزعم بوجود ذلك الجنس من الحيوانات، أو الادعاء بوجود ذلك الابريق، ما هما في حقيقة الأمر سوى افتراضين مختَلقتَين يعرف صاحباهما مسبقاً، و على نحو يقيني، بأنهما – مع الاعتذار للفظ - كذبتان صريحتان، و أنّ ذلك الجنس من الحمير لا وجود له، تماما كما هو الحال مع ذلك الإبريق الفلكي الصغير.
لماذا إذن عمدَ المؤرّخ و الفيلسوف الى وضع افتراضيهما المختلَقين أولاً، ثم طلبا من الناس من بعد و بصيغة متحدّية، تقديم الدليل التجريبي على إثبات أنّ ما يدّعيان كذبا؟
أعني أ ليس في معرفتهما على نحو الدقّة و اليقين، بأنّ ما يدّعيان هو محض افتراض كاذب لا غير، ما يكفي و يعفي الآخرين من تقديم أدلتهم التجريبية على أنّ ما يزعمانه افتراضا كاذبا؟
أثمة فرقٌ من نوع ما، بين اعتقادي المطلق بأنّ ما أقوله كذباً، و بين اعتقاد الآخرين – المطلق أيضا- بأن ذلك الذي قلته كان كذبا؟
أ يمكنُ لكذبة مفضوحة ما، يطلقها الإنسان، و هو على علمٍ بأنها كذبة، أنْ تكون بحاجة ضرورية الى تأكيد الناس له بأنها كذبة؟
يبدو لي - وسيكون الحديث هنا عن ابريق راسل وحده، بوصفه مثالا يشمل القياسات كلّها-:
إن الغاية من وضع ذلك القياس لا تتمثل بإثبات وجود ذلك الإبريق أو عدم وجوده، إنّما تتمثل حصرا بالنيل من فرضية وجود الله في أذهان المؤمنين، عن طريق اختلاق فرضيّة خاصةٍ كهذه.
لذا فإنّ دحض الادّعاء لا يمكن أنّ يتمثّل بقدرة المؤمنين على دحض وجود ذلك الابريق او وجود ذلك الجنس من الحمير، بسببٍ من أنّ كلا طرفي الحوار المتقابلين في قضيّة الابريق، يعرفان مسبقاً و على نحو يقيني بأن موضوع الحوار، ايْ الابريق، لا وجود له أصلا.
مما يعني، أنّ هناك موضوعَين للحوار، لا موضوعاً واحدأ فحسب، أمّا الموضوعان فهما: وجود الله، و وجود الابريق، من جهة، و إمكان دحض الفرضية أو استحالة دحضها، من جهة أخرى.
أمّا السبب الذي يستدعي مثل هذا النوع من التفريق بين نوعَي الحوار، فهو:
إنّ راسل يساوي بين نوعَي تصوّر الموضوعين: وجود الله و وجود الابريق، من حيث أنّ كليهما غير موجود بالنسبة له، أمّا المؤمنون فليس لديهم مثل هذا التصوّر عن الموضوعين نفسيهما، من حيث أنهم يعتقدون – و ربّما على نحو إيماني يقيني – بأنّ الله موجود، و أنّ ذلك الابريق لا وجود له.
لذا فإنّ ما يترتّب على راسل فعله أولاً – أيْ قبل شروعه بعقد مقارنته بين وجود الله و وجود الابريق – إقناع المؤمنين بطريقة تستوجب إقرارهم، بأنّ إلاههم لا وجود له، و أنّ جميع أدلّتهم على وجوده باطله، بوصف إجرائه هذا مقدّمة تؤدي الى نتيجة مفادها: إذنْ لم يبق للمؤمنين من ادّعاء على وجود إلاههم– بعد الأخذ بالاعتبار تفنيد راسل المفترض لأدلتهم الأخرى – سوى زعمهم معاندين: أنّ وجود الله لا يمكن دحضه. و هو الأمر الذي يسمح لراسل من بعد، بعقد نوع قياسه بين وجود الله الذي لا دليل عليه سوى قول المؤمنين بإنه فرضية لا يمكن دحضها، و وجود الابريق الذي يتّصف بنوع الفرضية نفسها.
لكن هل فعل راسل شيئا من هذا؟ أعني هل حاور المؤمين في قضيّة وجود الله بما يثبت لهم عدم وجوده بأدلّة قاطعة، لا تبقي لهم من حجّة على نوع وجوده سوى القول بأنها فرضية لا يمكن دحضها؟ أمْ أنّ مثل هذا الاجراء كان مصادرة على المطلوب، قفزاً على المقدمة من أجل الوصول الى النتيجة من دون أيّ مقدمات تسمح بالوصول اليها؟
لما تقدّم، أحسب أنّ ثمة فرقاً من نوعٍ ما، لا بدّ من تعيينه بين نوع الحوارين، الحوار في وجود الله، و وجود الابريق – بالفعل - ام عدم وجودهما من جهة، و الحوار في صدق الفرضية ام زيفها، من جهة أخرى.
مع ذلك كلّه، لا بدّ لنا من السؤال عن الغاية القصوى التي سعى قياس راسل لبلوغها، ما هي الغاية هذه؟
يبدو لي أنّ راسل يريد القول على نحو مباشر: إنّ مضمون الادّعاء بوجود ذلك الابريق، هو اختلاقٌ محض لا غير، و كذا هي فكرة وجود الله من حيث كونها مجرد اختلاق محض.
غير أنّ مثل هذه النتيجة التي تساوي بين الافتراضين تضمّ فرقا جوهريا لا بدّ لنا من أخذه بالاعتبار، مفاده: أنّ أصحاب الادّعاء الاول – المؤرخ و الفيلسوف – يعرفان مسبقاً و على نحو مطلق، بأنّ ذلك الابريق و ذلك الجنس من الحمير لا وجود له، و أنهما أشاعا هذا الادّعاء على الرغم من معرفتهما بذلك. بل أنّهما أسقطا هذا الفهم نفسه على مفهوم الله الذي لا يخضع و لا يمتّ لمنطقهِ بأيّة صلة تُذكر، فكان الأمر نتيجة لذلك هو عقد الصفقة و توقيعها من جانب واحد، نيابة عن نوع اعتقاد المؤمنين بوجود إلاههم، عن طريق استبداله خلسة بنوع اعتقاد راسل عن ذلك الإله نفسه.
و هذا وضع فكري و أخلاقي و نفسي يختلف على نحو جوهري عن موقف اصحاب الادعاء بوجود الله، من حيث أنّ ادّعاءهم لا يتأسس مطلقا على أيّة معرفة مسبقة تشير لهم بأنّ ما يدّعون هو نوع من الكذب، إنّما تشير لهم فحسب، أنّ جميع الحقائق الممكنة و الادلة المتاحة، بأنّ ما يدّعون و يعتقدون به هو حقيقة راسخة عريقة، حتّى و إنْ شحّت الادلة على وجودها أو انعدمت على نحو كلي. أمّا اذا كان المؤرخ و الفيلسوف و عالم الفلك كارل ساغان و جميع اصحاب الادعاءات الشبيهة كارنب عيد الفصح و جنية الاسنان ... يريدون إثبات أنّ قضية وجود الله هي نوع من الوهم لا غير، فاحسبُ أنّ الطريقة الصحيحة العقلانية لدحض وهم المؤمنين بربّهم لا يمكن إنجازها بمثل هذا النوع من الحجاج الخرافي المضحك الذي يتأسس على الاختلاق.
ثانياً: ما الذي يسمح بقياس فكرة وجود ذلك الإبريق مع فكرة وجود الله؟ على الأخص إذا كنّا نعلم مسبقا أنّ فكرة وجود الإبريق هي فكرة ذاتية خاصة بمرجعية مطلقة تعود لذهنية راسل، من جهة، و أنّ فكرة وجود الله هي فكرة موضوعية لم يسبق لأحد أنْ ادّعى أنها وليدة خلقٍ ذاتي له فحسب؟
بعبارة اخرى، نحن نعلم، و من خلال راسل نفسه، أنّ فكرة إبريقه، فكرة ذاتية، عملَ على انشائها بنفسه، فإذا كان الأمر كذلك، فهل يستطيع راسل أو أي أحد غيره أنْ يخبرنا بالتحديد عن تاريخ نشوء فكرة الله، او عن تسمية ذلك العقل الانساني الذي قال بها أولاً، بوصفها فكرة ذاتية خاصة به أصلا؟
يبدو لي أنّ وجود الكون بكل هذا الاتساع و التناسق، و وجود الحياة بكل هذا التعقيد و التنظيم و التنوّع و الدهشة، هو المصدر الاول و الرئيس للقول بفكرة وجود الله، و ربّما قبل وجود الأديان و الأنبياء و الكتب المقدّسة، فإذا كان الأمر كذلك، فهل يصح القياس بين فكرة ذاتية مختلقة و بين فكرة كلّية شاملة أوحى بها الكون و الحياة؟
ربما هناك من يردّ أو يعترض بالقول: إنّ قياس راسل لا يخصّ هذا الموضوع، إنّما يتعلق حصرا بطريقة تمثّل ذلك الايحاء فحسب، من حيث كونه يؤدي إلى افتراض وجود الله.
فإذا كان الأمر كذلك، ينبغي إذن، أنْ يكون موضوع القياس من نوع آخر بالضرورة، وربما يكون مفاده: هل يمكن لوجود الكون و الحياة أنْ يؤديا الى فرضية وجود الله أم لا؟
لكلّ ما تقدّم، دعونا نعقد هذه المقارنة بين نوعي وجود الله، و وجود إبريق راسل، فإن كان لهما نفس خصائص الوجود، فلا لوم على راسل إذن في إطلاق فرضيته القائلة بأنهما معاً يشتركان بقضية عنوانها و مبررها الوحيد، هو، استحالة القدرة على دحضها، و كالتالي :
أ‌- إذا افترضنا جدلاً فحسب، بإنّ إبريق شاي راسل موجود بالفعل، و هذه المرّة لا نسأل عن الوسائل المتاحة التي تعرّف راسل على وجوده من خلالها، إنّما نسأل حصراً عن: نوع تأثير وجود هذا الإبريق على حياة الناس و سلوكهم و أخلاقهم و معاملاتهم و نمط تفكيرهم العلمي – الفيزيائي و الكيميائي و البيولوجي – و استدلالتهم العقلية الفلسفية على أصل الكون و الحياة... الخ، أقول هل لوجود ذلك الإبريق أو عدم وجوده، أيّ تأثير، و من أيّ نوع على أيّ من القضايا التي تخصّ وجود الإنسان على نحو جوهري؟
يبدو لي أنّ الإجابة العاقلة المنصفة تنصّ مع سبق الإصرار على أنّ وجود ذلك الإبريق أو عدم وجوده، لا علاقة له و لا تأثير، لا من قريب و لا من بعيد، بنوع حياة الإنسان العملية و النظرية على حدّ سواء، مما يعني خلاصة لذلك، أنّ الإنسان – أيّ إنسانٍ على مختلف المستويات و الرُتب – غير معني و بأيّ مقدار مؤثر، بوجود ذلك الإبريق أو عدم وجوده.
لكن، هل يمكن لموقف الإنسان غير المكترث من وجود الابريق أو عدم وجوده، أنْ يستوي من حيث التأثير و التغيير في حياة الإنسان، في المجالات التي تمّ لنا ذكرها، مع موقفه من وجود الله أم عدم وجوده؟
أحسبُ أنّ مجرّد التفكير بمقارنة بين نوعي التأثيرين، أمرٌ منافٍ للعقل و جهد باطل لا طائل وراءه و لا جدوى منه.
لما تقدم، أحسبُ واثقاً، أنّ نوع وجود إبريق راسل ينتمي على نحو حميم الى نوع وجود حمير المؤرخ البريطاني، تماماً كما ينتمي لنوع وجود تنّين ساغان، و وحش سباكيتي داوكنز، و أرنب عيد الفصح و جنّية الإسنان و وحش البحيرة، و صاحب القَدَم الكبيرة، من جهة، و معنى هذا أنه نوع وجود مفارق على نحو مطلق عن نوع وجود الله، بل عن فكرة وجود الله من حيث تأثيرها في حياة البشر، سواء أ كانت أدياناً سماوية، أو أدياناً وضعية حتّى.
ب‌- : يعتقد المؤمنون بالله، أنّ هناك بالفعل أدلّة تاريخية متوارثة، عقلية و نقليّة، علمية و فلسفية، ترجّح وجود الله، و تشير لهم على نحو ما: بإنّ الله موجود، أيْ أنّ وجود الله لم يتحصّل لديهم من خلال إدّعاء وحيد مفاده: عدم القدرة على دحض هذا الوجود، كما يظنّ راسل. فإذا كان الأمر كذلك، فما هي نوع الأدلة على وجود إبريق راسل أو عدم وجوده أيضا؟ الأمر الذي يعني: أنّ الادعاء بتشابه نوعي الادعاءين و جمعهما في قياس واحد، مفاده، اشتركهما في قضية انتفاء القدرة على دحضهما، ادّعاء خاطئ، لا مبرر له و لا يمكن السماح به تحت أية ذريعة و من أيّ نوع.
ج- إذا كان المعنى الافتراضي لمفهوم "الصفقة" لا يمكن تحققه عمليّاً إلّا بوجود طرفين حاضرين فيها، فيبدو أنّ راسل قد عقد العزم على إبرام " صفقة الإبريق " مع نفسه وحدها، بعد أنْ رفض الآخرون دعوته لعقد هذه الصفقة معه.
أقول ذلك بناءً على المعطيات الفكرية و الواقعية التالية:
حين افترض راسل، أنّ القياس بين وجود الله و وجود الإبريق ممكنٌ و صحيح، فإنّ نوع افتراضه الغريب هذا يتأسس على نحو كلّي على مسوّغ و قناعة ذاتية مفادها: انّ المؤمنين بوجود الله لا يمتلكون من الأدلّة على صحّة هذه الفرضيّة سوى ادّعائهم بأنّ حجّتهم لا يمكن دحضها.
و لمّا كان الأمر كذلك – حسب اعتقاده – سمح لنفسه بالمقارنة بين وجود الله و وجود الإبريق الكوني، من خلال ميزة مشتركة بينهما هي: أنّ كلا نوع الوجودَين لا يمكن دحضه، فحسب.
مما يعني أنّ راسل قد تجاهل – بعلمٍ منه أو بغير علمٍ – جميع أدلّة المؤمنين الممكنة التي من شأنها أنْ ترجّح فرضية وجود الله على فرضية عدم وجوده، و أنّه لم يبقِ منها سوى الدليل الذي يصلح لعقد الصفقة بين وجود الله و وجود إبريقه الكوني، و هي الصفة المشتركة بين نوعي الوجودين و التي مفادها، أنّ المؤمنين لا يمتلكون من الأدلة على وجود الله سوى ادّعائهم باستحالة دحض هذه الفرضية. بعباراتٍ أُخر:
حين اقتنع راسل: بأنّ دليل المؤمنين الوحيد على وجود الله هو، أنّ فكرة وجود الله لا يمكن دحضها، و هذه هي المقدّمة الأولى.
ثمّ، كانت مثل هذه الفرضية زائفة – حسب اعتقاده – و هذه هي المقدّمة الثانية.
إذن، فالنتيجة المترتّبة على هاتين المقدّمتن هي: إثبات صحّة اعتقاده المتمثّل بالقول:
إنّ الفرضية التي لا دليل على صحتها، سوى الادّعاء بإنها قضية لا يمكن دحضها، هي قضيّة خاطئة.
لكن، هل فعل راسل شيئاً من ذلك؟
أعني: هل أثبت لنا بطريقة منطقية محكمة، أنّ القضية التي " لا دليل على صحتها سوى الادّعاء بأنها قضيةٌ لا يمكن دحضها " هي قضيّة زائفة؟ أمْ أنّه فعل شيئاً آخر على سبيل دحضها؟
في حقيقة الأمر: إنّ الإجراء الوحيد الذي قدّمه راسل بوصفه حجّةً على دحض قضيّة مفادها أنّ " الاعتقاد بصحّة وجود شيءٍ بسببٍ من عدم القدرة على دحضه " هو اعتقاد خاطئ، هو:
عرضُ قضيّة أخرى، شبيهة بهذا الاعتقاد نفسه، مفادها، وجود إبريقٍ كوني يدور بين الأرض و المريخ.
فهل يمكن دحضُ قضيّةٍ ما و إثباتُ زيفها، عن طريق تقديم قضيّة أخرى شبيهة بها، تجري على مثالها و تحمل نفس نوع حجّتها بالضبط؟
بعبارة أخرى مباشرة: حين أراد راسل أنْ يدحض اعتقاد المؤمنين بوجود الله، و هو اعتقاد لا دليل لهم عليه – من وجهة نظره – سوى زعمهم بأنه فرضيةٌ لا يمكن دحضها، قدّم بدوره فرضيّة أخرى، مفادها، وجود إبريق كوني، لا دليلَ لأحدٍ على وجوده، سوى الاعتقاد بأنه فرضية لا يمكن لأحد دحضها هي الأخرى؟
السؤال مرّة أخرى: من الناحية المنطقية المحض فحسب، هل يمكن دحض فرضيّة ما – و لنفترض أنها غير معقولة – عن طريق تقديم حجّة منطقية، غير معقولة هي الأخرى، أي شبيهة و مماثلة لنوعها بالضبط؟
دعونا نضرب المثال التالي لتوضيح ما نقول: لنفترض أنني أدّعي، وجود شجرة في حديقة بيتي، شجرة تُثمرُ حُليّا من الذهب في كلّ موسمِ حَملٍ لها، فهل يمكنُ لصديقٍ حدّثته عنها، أنْ يدحض ادّعائي بالقول: أنه يمتلك في حديقة بيته شجرة مثلها، أو شجرة تثمرُ ياقوتا و أحجارا كريمة؟
أعني: هل يمكن عدّ ردّ صديقي على نوع ادّعائي، حجّةً منطقية مُحكَمة على دحض و تفنيد مضمون زعمي بوجود تلك الشجرة؟
هذا هو واقع حال " إبريق راسل " و هذه هي نوع حجّته و قدرتها على دحض اعتقاد المؤمنين بوجود الله من غير دليلٍ لهم على ذلك سوى الزعم بأنها فرضيّة لا يمكن لأحد دحضها.
بعبارة مباشرة، تجري على لسان راسل: إذا كنتم تدّعون وجود الله من غير دليل لكم على ذلك، سوى اعتقادكم بأنه ادّعاءٌ لا يمكن دحضه، فهاكم الدليل المنطقي المحكم الذي يثبتْ زيف حجتكم، و هو: ادّعائي بوجود "إبريقي الكوني " الشبيه بادّعاكم من حيث لا يمكن لأحدٍ دحضه هو الآخر!!
السؤال نفسه، مرّة ثالثة و على نحو عام: هل يمكن من الناحية المنطقية السليمة، دحض حجّة زائفة عن طريق تقديم حجّة شبيهةٍ بها؟
أحسبُ أنّه سؤال بسيط و مشروع، لمن يرغب بالدفاع عن " ابريق راسل " بوصفه حجّة على دحض ادّعاء المؤمنين بوجود الله، قدر تعلّق الأمر – حصراً - بالعامل المشترك الذي يجمع الادّعاءين، و هو، إنّ كلا الادعاءين لا يمكن دحضهما.
- إبريق راسل، موضوعاً لنقد الفيلسوفين: وليم كريج و ألستر مكغراث
في حوار مصوّر ضمّ عددا من المفكرين المعاصرين، بينهم الفيلسوف " وليم لين كريج" و هو واحد من أكبر علماء اللاهوت في العالم الغربي، يقول "كريج" في معرض تفنيده لادّعا إبريق راسل:
ماذا عن زعم الملحدين: أنّ غياب الدليل على وجود الله، مبرِّرٌ لادّعائهم بعدم وجوده؟
في الحقيقة تفشل هذه الادعاءات لأنني عندما أؤمن بأنني لستُ كنغراً، ليس بسبب غياب دليل على ذلك، بل بالعكس، لأنه يوجد دليل إيجابي على أنني لست بكنغر.
لدينا دليل يثبت بأننا بشر عاقلون. كذلك الحال بالنسبة لفشل مثال الابريق، لأنّ سبب عدم اعتقادنا بوجود ابريق يدور في مدار حول الارض ليس هو عدم وجود دليل عليه، بل لأننا نملك دليلا جيدا يثبت عدم وجود قطعة صينية أُرسلت الى الفضاء، أو أنّ الكائنات الفضائية وضعته هناك.
إذن فالمبرر هو وجود دليل مضاد، لكننا لم نسمع الليلة دليلا يضاد وجود الله، و هذه قاعدة بدْهيّة في المنطق، فلا يمكن نفي الافتراض بمجرّد غياب الدليل. فقد يظلّ الافتراض صحيحا حتّى مع غياب الدليل، لكن لا يمكننا معرفة الأمر فحسب.... إنّ سبب عدم إيمان الكبار – البالغين - بسانتا كلوز، ليس ببساطة هو عدم وجود دليل على ذلك، بل لأننا نملك دليلا جيدا يثبت انه لا يوجد ايّ دليلٍ ايجابي ضدّ ذلك الافتراض، لا يوجد شخص يعيش في القطب الشمالي، يطير عشيةَ عيد الميلاد موزّعا الهدايا.
إذن، لا يمكن مجرّد الاكتفاء بغياب الدليل على وجود الله مبررا للالحاد. فكما يقرر علمُ الجرائم: غياب الدليل، لا يُعدّ دليلا على الغياب.
في سياق اخر يقول Alister E. McGrath فيلسوف اكسفورد و مؤرخ اللاهوت الشهير، في فقرة من كتابه The Dawkins DELUSION عنوانها " الإيمان الصبياني:
كما يعلم أيُّ شخصٍ مطّلع على الجدل المناهض للدين، فإن الانتقاد الإلحادي المتكرر للمعتقد الديني هو أنّه صبياني - وهمٌ طفوليٌ يجب أنْ يختفي مع بلوغ الإنسانية مرحلة النضج. طوّر دوكينز، طوال حياته المهنية، نقدًا مماثلاً، معتمداً على تشبيهٍ إلحادي طويل الأمد. أكّد في أعمال سابقة أنّ الإيمان بالله يشبه تمامًا الإيمان بجنّية الأسنان أو سانتا كلوز. يقول داوكنز، هذه معتقدات صبيانية يتم التخلي عنها بمجرد أن نكون قادرين على التفكير القائم على الأدلة. وكذلك هو الله.
الأمر واضح، أليس كذلك؟ كما أشار دوكينز في حديثه "التفكير من أجل اليوم" على إذاعة بي بي سي عام 2003 ، قائلاً: يمكن للبشرية أنْ تغادرمرحلة الطفل البكّاء، لتبلغ سن الرشد في النهاية. "هذا التفسير الطفولي " ينتمي إلى حقبة خرافية سابقة في تاريخ البشرية، تمّ لنا تجاوزها.
يجيب مكغراث على حديث داوكنز الاذاعي:
Hmmm. مثل العديد من مقارنات دوكينز، تمّ بناءُ هذا مع وضعِ أجندة محددة في الاعتبار، هي في هذه الحالة، السخرية من الدين. ومع ذلك، من الواضح أنّ هذا القياس معيب. كم عدد الأشخاص الذين تعرفهم والذين بدأوا يؤمنون بسانتا كلوز في مرحلة البلوغ؟
أو من ذا الذي وجدَ الإيمانَ في جنية الأسنان مع تقدم العمر؟ لقد آمنت بسانتا كلوز حتى بلغت الخامسة من عمري، ولم أؤمن بالله حتى بدأتُ في الذهاب إلى الجامعة. أولئك الذين يستخدمون هذه الحجة الصبيانية، يجب أنْ يشرحوا: لماذا يكتشف الكثيرُ من الناس وجود الله في وقت لاحق من حياتهم، مع التأكيد أنهم لا يعتبرون هذا الخيار ممثلاً لأيّ نوع من التراجع، أو الشذوذ أو الانحطاط. و لعلّنا نجد خير مثال على ذلك فيما قدمه أنتوني فلو (مواليد 1923) ، الفيلسوف الملحد المعروف، الذي بدأ يؤمن بالله في الثمانينيات من عمره.
- الاختلاق، بوصفة وسيلة لترويج البضاعة.
في موضوعٍ دقيقٍ كهذا الذي نبحثُ فيه، أعني" عبء الإثبات في الحوار الفلسفي، تحديداً، في قضية وجود الله أمْ عدم وجوده، ليس من الصحيح أنْ نعتقد بأنّ فكرة وجود الله أو عدم وجوده، مجرّد فكرة طارئة قدحتْ على نحو مفاجئ في ذهن أحد طرفي الحوار – أو في ذهنهما معاً – ثمّ أعقبَ حضورها في الذهن أصدار حكم أحدهما: بوجود الله أو عدم وجوده.
إنّما هي في حقيقة وصفها المنصف لها: نوع قضيّةٍ عميقة الجذور، بالغة الأهمية و التأثير في حياة الإنسان و أسلوب عيشه و نمط تفكيره. الأمر الذي يعني أولاً، و من دون أدنى شكّ، بأنّ لهذه الفكرة الكبيرة مقدّماتها النفسيّة و الثقافية و الفكرية و التربوية و العلمية و التاريخية و الحضارية و الاقتصادية و نوع علاقتها بالدين أو بالأديان السائدة في مجتمع المتحاورين.
ثم يعني من بعدُ، أنّ تفكيراً مسبقاً، بحثاً عميقا و استقصاءً فكرياً و أخلاقياً و ثقافيا.... الخ كان قد سبق و بالضرورة لحظة إطلاق هذا الحكم أو ذاك بين المتحاورين في القضية.
مما يعني أخيراً: انّ إطلاق ذلك الحكم بوجود الله أو عدم وجود، يمثُلُ في الحوار، بوصفه نتيجةً لمفدّمات متشابكة هي: خبرات طويلة متراكمة – نفسية و أخلاقية و فكرية و جسدّية حتّى – قد تستحضر في الحوار نفسه بوصفها حججاً و أدلة تُطرح لصالح ترجيح هذا الحُكم أو ذاك.
فلئن كان الأمر كذلك، فليس من المعقول أنْ نعتقد: بأنّ مطالبة أحد طرفي الحوار للآخر بتقديم "عبء الاثبات" على صحّة حكمه، عملٌ عابث طارئ مقطوع عن مقدّماته و جذوره المتشابكة التي تمّ لنا ذكرُ بعضها، إنّما المعقول هو: أنْ نعدّ "عبء الإثبات" و ننظر إليه بوصفه، أحدَ وسائل الحوار المرتبطة على نحو وثيق جداً بتلك المقدّمات و الأصول و الخبرات المتراكمة، و معنى هذا التصوّر و نتيجة له أولاً، أنّ مَن يتخلّى عن تقديم "عبء إثباته" بما يعتقد، فكأنّما يتخلّى عن تاريخه الشخصي، و عن جميع وسائل دفاعه الممكنة عن قضيته،
و معناه أيضاً، أنّ قاعدة "افتراض الإلحاد" التي إعتقد الملحدون إعفاءهم بموجبها عن تقديم عبء إثباتهم، على نحو مطلق و غير مشروط، إنّما هي نوع قاعدة تضرّ على نحو بالغ بقضيّة الدفاع عن اعتقادهم بعدم وجود الله في حال التزامهم بها، و لذا فهم يريدون من خصومهم في الرأي و الحوار، أن يكونوا المتحدث و المدافع الوحيد عن قضيّته، و ربّما سيوسمون، جرّاء خيارٍ كهذا، بالعجز و التقاعس عن الدفاع عمّا يدّعون حتّى من قبل اتباعهم من الملحدين أو من قبل اللا أدرين ممن يرقّب صيرورة الحوار المتقابل بينهما.
هذه هي القضيّة التي أشار لها ثومبسون، نقلاً عن رئيس الأساقفة، ريتشارد واتيلي Richard Whateley في كتابه المدرسي عناصر الخطابة Elements of Rhetoric الصادر عام 1846 ، لكن على نحو عام، لم ترد فيه أغلب التفاصيل التي سيتمّ لي عرضها، يقول ثومبسون، ناقلاً و مفسّرا إحدى أفكار Whateley:
بالنظر إلى ما قلناه سابقًا حول هذه الفكرة ، قد لا يُنظر إلى مسألة من يجب أنْ يتحمل عبء الإثبات على أنها مشكلة عميقة إلى حد ما في النظرة الأولى.
لماذا قد يفوّت / يتنازل او يستغني pass up أيٌّ من طرفي النزاع عن فرصة تقديم قضية ذات مصداقية لصالح مطالبات كلّ منهما، وبالتالي تحقيق النجاح من خلالها؟
هذا هو السؤال الذي طرحه رئيس الأساقفة ريتشارد واتيلي Richard Whateley في كتابه المدرسي عام 1846 ، عناصر الخطابة Elements of Rhetoric.
في هذا العمل الفاصل، يقدم Whateley نظرة تكتيكية لعبء الاثبات، يأخذ كنقطة انطلاقٍ وجهةَ النظر القائلة بأنّه في حالات الجدل، توجد علاقة عكسية بين ما أسماه "الافتراض" presumption وعبء الإثبات.
يتمثل موقف Whateley في أنّ مصطلح "افتراض" لا يشير إلى مجرد الاحتمال لصالح الافتراض في حد ذاته، ولكنه يشير إلى شخصية per occupation بالاساس، كما يوحي بأنّه يجب أنْ يظل جيدًا، حتى يتم تقديم سبب كاف ضده "( Whateley 112).
وهذا يعني – و القول لثومبسون - أنّ هناك، كما يعتقد Whateley ، موقفًا محددًا مسبقًا، يتمّ اعتباره موقفًا افتراضيًا يتبناه الناس بشأن قضية ما ويتم تقديمهم له مع أسبابٍ لتغيير نظرتهم (راجع Quine Web 9-19).
يجادل Whateley بأنّ أيّة قضية يمكن تحديدها بشكل وثيق مع هذا الموقف الافتراضي، تتمتع بما يسميه "الافتراض" (Whateley 112).
و تستند تعليقات Whateley أيضًا إلى الاعتقاد بأن مهمة دحض الموقف من قضية ما أسهل من مهمة بناء حالة إيجابية لصالحها (Whateley 113-114).
بهذا الصدد، يقول ثومبسون، أعتقد أنّ موقف Whateley هو الصحيح.
يبدو لي أنّ شرح ثومبسون لفكرة رئيس الأساقفة، ريتشارد واتيلي Richard Whateley في كتابه المدرسي عناصر الخطابة Elements of Rhetoric الصادر عام 1846 و مفادها السؤال:
لماذا قد يفوّت / يتنازل او يستغني pass up أيّ من طرفي الحوار – المؤمن و الملحد - عن فرصةِ تقديمِ قضيةٍ ذات مصداقية لصالح مطالبات كلّ منهما، وبالتالي تحقيق النجاح من خلالها؟
تتضمّن في محتواها من الأهمية قدْراً يستحق الفحص و التقييم و المعاينة، وهو الأمر الذي سأشرع في بيانه على النحو التالي:
لماذا يتمسّك الملحدُ بقاعدة "افتراض الإلحاد"؟ لماذا يدافعُ عن صحّتها بضراوة منقطعة النظير؟ و لماذا يطالبُ بأنْ تكون هي القاعدة الوحيدة الصحيحة لعقد الحوار في قضيّة وجود الله أو عدم وجوده؟
يبدو لي أنّ الإجابة الصحيحة المنصفة عن هذه الأسئلة كلّها تتمثّل بالقول: إنّ دفاع الملحدين عن هذه القاعدة، إنّما يتمثّل باعتقادهم، انّ مضمون هذه القاعدة يعفيهم من تحمّل مسؤولية "عبء الإثبات " في الدفاع عن قضيّتهم، في ذات الوقت الذي يحمّل المؤمنين وحدهم هذه المسؤولية نفسها.
لكن، لماذا يريدُ الملحدون، بل و يطالبون بإعفاء أنفسهم من تحمّل "عبء إثبات " قضيّتهم المركزية التي تقول بعدم وجود الله؟
بصياغة أخرى، تطرح مضمون السؤال نفسه، و تؤدي الى إجابةٍ صحيحة عنه:
هل يمتلك الملحدون بالفعل نوع "عبء إثبات " حقيقي، فاعلٍ و مؤثر، من شأنِ طرحه في حوارهم مع المؤمنين أنْ يعزز موقفهم، أو يثبتَ لخصومهم في الحوار، أنّ اعتقادهم بعدم وجود الله صحيح، و أنّ اعتقاد خصومهم بوجود هذا الكائن المتعالي، هو اعتقاد خاطئ و زائف، حتّى يمكن أنْ نتصوّر أحدهم يقول: هذا هو اعتقادنا، و إليكم الدليل على صحّة ما نقول، أيْ على صحة اعتقادنا بعدم وجود الله من جهة، و خطأ اعتقاد المؤمنين بوجوده، من جهة أخرى، ثم يشرع في تقديم أدلته لإثبات ذلك؟
لماذا يميلُ الملحدون الى الوقوف و الانتماء الى الجهة التي ليس فيها "عبء إثبات" يقع عليهم، و تفضيلها على الجهة الأخرى التي يكون فيها عبء الإثبات من مسؤوليتهم؟
أيمكن لهذا الوضع في الخيار بين الجهتين – جهة تحمّلهم لعبء الإثبات، و جهة استثنائهم منه – أنْ يكون قائما بنفس نوعَي خياريه، إنْ كان الملحدون يمتلكون أدلّة جيدة و حججاً دامغة من شأنها أنْ تثبت صحة اعتقادهم بعدم وجود الله؟
إذا كان الأمر كذلك، أعني: إذا كان الملحدون يمتلكون بالفعل أدلّة مقنعة و حججاً بالغة على عدم وجود الله، فلماذا يفضلّون خيار السكوت عليها بموجب قاعدة "افتراض الإلحاد" على خيار عرضها في مواجهة حجج خصومهم في الحوار، من أجل دحضها و تفنيد ادّعائها بوجود الله؟ ثم هل يمكن لحجةٍ مسكوتٍ عنها، أو لدليلٍ لا رغبة لصاحبه بعرضه، أنْ يوكل لهما مهمة دحض رأي مقابل له يستفزّ على نحو جوهري ذلك المضمون المسكوت عنه؟
أحسب أنّ مثل هذا الوضع كلّه، يمكن التعبير عنه بطريقة مباشرة، و هو تعبير يمكن عدّه إجابة عن كلّ تلك الأسئلة، بنصّ مفاده: إنّ تفضيل الملحدون و ميلهم للتمسّك بقاعدة عب الإثبات و هي القاعدة التي تشرّع اعفاءهم من تحمّل عبء الإثبات، إنّما يأتي بسبب عدم امتلاكهم لأيّ دليل على الإطلاق، سواءٌ أ كان من شأن هذا الدليل أن يعزز فرضيتهم بعدم وجود الله، أو يقوّض ادّعاء خصومهم بوجوده، و إلّا فبماذا يمكن أن نفسّر سكوت إنسانٍ عن تقديم دليل قوّي في قضيّة يعتقدها، و امتناعه عن عرضه في حوار مخصصٍ لدحض ذلك المضمون الذي يعتقد به و الذي يسعى الى إشاعته؟
لما تقدّم في هذه الفقرة، أعتقد أنّ الملحدين لا يمتلكون أيّ دليلٍ على عدم وجود الله، و من هنا فهُم يفضّلون و يرغبون في استثناء أنفسهم من تحمّل مسؤولية عبء الإثبات، بإلقاء المسؤولية كلّها على خصومهم، ربّما حفظاً لماء وجه الموقف الإلحادي و رغبةً في بقائه قائماً عزيزاً حتّى مع غياب جميع الأدلة التي تبرر اتخاذه و تبنّيه خيارا عقائديا في الحياة سلوكاً و فكرا.
خلاصة القول: يمكن لمن راقبَ واقع الحال هذا عن كثب، أنْ يكتب مطمئنا: بأنّ مضامين حوار الملحدين قد أصبحت ممهورةً بالخداع، تماما كما أصبح افتعال الأدلة الزائفة علامة فارقة لنموذج حوارهم الفلسفي، بسببٍ من عدم امتلاكهم لأيّ دليل متماسك و قوي يثبت لنا و لهم، على نحو مُقنعٍ بأنّ الله لا وجود له، و هذا هو المسوّغ العقلي و النفسي الذي يبرر المواقف المعلنة لهم:
- متذرّعين مرةً: بأنّ قضايا السلب، لا يمكن إثباتها منطقيّاً، و هي ذريعة واهية لا دليل لهم عليها، من حيث أنّ قضايا السلب في المنطق، يمكن إثباتها بسهولة بالغة، كما مرّ بنا ذلك.
- مدّعين أخرى: بإنّ قاعدة "افتراض الإلحاد " لأنطوني فلو تعفيهم على نحو غير مشروط من تحمّل عبء إثباتهم، و هذا نوع ادّعاء آخر لا صحة له على الاطلاق، لأنّ هذه القاعدة المقترحة لا تعفي أحداً من طرفي الحوار من تقديم عبء إثباته، كما يفصّل انطوني فلو ذلك بنفسه، و كما سيبيّن الفصل الثاني من كتابنا هذه المسالة ذاتها.
- مفترضين مرةً ثالثة: بأنّ قضية وجود الله لا تستمدّ صدقها إلّا من خلال زعم المؤمنين، بأنّها قضيّة لا يمكن دحضها، و هو افتراض تم تفنيده على نحو مفصّل خلال منافشتنا لـ " إبريق راسل الكوني"
- مختلقين مرّة رابعة: سؤالاً رأوا فيه آخر القلاع التي يلوذون بها مبرراً لإلحادهم، و هو " إذا كان الله قد خلق العالم، فمن هو الذي خلق الله؟" و قد أثبتنا على نحو بالغ الدقّة، بأنّ هذا السؤال مليئ بالمغالطات المنطقية، مسكون بالمفارقات اللغوية و التعبيرية، و لا يصحّ لعقل راجح طرحه أبدا. كما بيّنا كلّ ذلك في كتابٍ لنا يحمل عنوان السؤال نفسه. و لأنّ هذا الكتاب سينشر قريباً جداً، يمكن للقارئ تصفّح مواقع الانترنيت التي تثبت بهذا القدر أو ذاك بطلان السؤال و لا عقلانيته، من خلال بعض حججِ الباحثين في المسألة.

مقاربة منطقية: بين إبريق راسل، و تنّين ساغان
في دراسة منشورة على أحد المواقع الالكترونية ترد العبارة التالية:
"معنى ما يقوله برتراند راسل عن الدين هو كما يلي: إذا كان من المستحيل الوصول إلى شيء ما بطريقة منطقية أو إظهاره ، فهذا غير موجود وليس له الحق في الوجود"
في حقيقة الأمر، يمكن عدّ مضمون هذه العبارة قراءة صحيحة و دقيقة، قدر تعلّق الأمر بالغاية من وضع راسل لمثال إبريقه الكوني، على الرغم من عدم وجود هذا المعنى على نحو صريح معلن.
أقول ذلك، لأنّ هذا المضمون نفسه قد تمّ التعبير عن معناه بطريقة دقيقية و معلنة، في عبارة عالم الفلك "كارل ساغان " حين عرض في كتابه عام 1995 The Demon-Haunted World قياساً مشابهًا غير قابل للدحض يسمى التنين في المرآب كمثال على التفكير المتشكك.
يقول ساغان في مثاله: إذا ادّعى ساجان أن هناك تنينًا في مرآبه، فقد ترغب في التحقق من ذلك بنفسك ولكن إذا كان من المستحيل اكتشاف تنين ساجان: الآن، ما الفرق بين التنين غير المرئي، غير المادي، التنّين العائم الذي يبصق نارًا بلا حرارة، و بين عدم وجود تنين على الإطلاق؟ إذا لم تكن هناك طريقة لدحض قضيتي الخلافية، و لا توجد تجربة يمكن تصورها من شأنها أن تحسب ضدها، فماذا يعني أن أقول إن تنيني موجود؟
عبارة كارل ساغان التي تتطابق في معناها مع معنى العبارة التي تصدّرتْ هذه الفقرة هي: ما الفرق بين التنين غير المرئي ... و بين عدم وجود تنين على الإطلاق؟ إذا لم تكن هناك طريقة لدحض قضيتي الخلافية، و لا توجد تجربة يمكن تصورها من شأنها أن تحسب ضدها، فماذا يعني أن أقول إن تنيني موجود؟
و معنى ذلك: إذا لم يكن لديك أيّ دليل تجريبي من شأنه أنْ يدحض وجود ذلك التنّين، فلا معنى لقولك، إنّ ذلك التنّين موجود، أو بعبارة أخرى: لا فرق بين وجود ذلك التنّين أو عدم وجوده، ما دمنا غير قادرين بأية طريقة ممكنة على التحقق من وجوده.
أمّا إذا أردنا قياس مضمون " تنّين ساغان " على قضيّة وجود الله، فإن المعنى سيكون: بما أنّنا لا نستطيع و بأية طريقة تجريبية التحقق من وجود الله، فلا معنى للقول بأنّ الله موجود، و من هنا يستوي الادّعاء بوجود الله أو عدم وجوده.
من الواضح القول: إنّ نوع قياس ساغان سواءٌ أ تعلق الأمر بوجود الله أو وجود التنّين يتبع و يجري على وفق "مبدأ التحقق" الشهير الذي أقرّته "الوضعية المنطقية" بوصفه قاعدةً وحيدةً للفصل بين القضايا الواقعية الحقيقية و بين أشباه القضايا أو القضايا الزائفة التي لا يمكن التحقق منها، أي جميع القضايا الميتافيزيقة.
لكن، هل يمكن المقارنة بين نوع وجود الله من جهة، و بين نوع وجود إبريق راسل، أو تنّين ساغان من جهة أخرى؟ و أنا أطرح هذا السؤال مرّة أخرى على الرغم من إجابتي المفصّلة عنه في فقرة سابقة.
لنضع هذه المسألة حاضرة في الذهن مؤقتاً، من أجل الانتقال الى موضوع آخر يتصّل بها على نحو وثيق، على الرغم من كونه يخصّ مناسبة حديث من نوع آخر.
في مناظرة إذاعية بُثّها راديو "بي بي سي" عام 1948 بين برتراند راسل وفريدريك كوبليستون، و هو قسيس يسوعي، و مدير كلية هيثروب وبروفيسور في تاريخ الفلسفة في جامعة لندن.
كان موقف كوبليستون هو أنّ وجود الله يمكن إثباته فلسفيًا، من خلال الإمكان. ورأى أنّ وجود الله فقط هو الذي سيعطي تجربة أخلاقية ودينية للإنسان. مفسّرا حجّته الفلسفية بالقول: إن اللانهاية لسلسلة الكائنات العرضية، حتى لو تم إثباتها، لن تكون ذات صلة بشيء موجود، لذلك يجب أنْ يكون هناك شيء يفسّر هذه الحقيقة، كائن خارج سلسلة الكائنات العرضية. مشكلة وجود الله هي مشكلة وجودية بينما التحليل المنطقي لا يتعامل بشكل مباشر مع مشاكل الوجود."
بإزاء ذلك، وجد راسل أنّ كل حجج خصمه في المناضرة غير مقنعة. قائلاً: إن حجة كوبليستون من الإمكان هي مغالطة.

في السياق نفسه، ترد في موقع " شبكة الإلحاد العربيُ" ترجمة كاملة لتلك المناظرة، ننتخب منها للغاية نفسها ما يلي:
إنّ راسل وكابليستون ناقشا ما يسمى في بعض الأحيان "البرهان من الحدث المحتمل" و ستتم الإشارة الى كوبلسون بالحرف C أمّا الإشاراة لراسل فستكون بالحرف R .
- C: حسناً، موقفي هو الموقف الإيجابي (المؤيد) أنّ مثل هذا الكائن موجود بالفعل، وأنّ وجوده يمكن انْ يُثبت فلسفياً. أعني، هل من الممكن أنْ تقول: إنّ عدم وجود الله يمكن انْ يثبت؟
- R: لا، لا ينبغي أن أقول هذا: موقفي هو اللا أدرية.
- C: يجب أن أقول، نحن نعلم أنّ هناك على الأقل بعض الكائنات في العالم التي لا تحتوي في حدّ ذاتها سببَ وجودها. على سبيل المثال، أنا أعتمد على والدي، والآن على الهواء، وعلى الطعام، وهلم جرا. ثانياً، إن العالم ببساطة هو الكلية الحقيقية أو المتوهمة أو مجموع الأشياء الفردية، لا أحد منهم يحتوي في نفسه وحدها سببَ وجوده.
ولذلك، ينبغي أنْ أقول، بما أنّ الأشياء أو الأحداث موجودة، وبما أنّه لا يوجد شيء مجرّب يحتوي في ذاته سبب وجوده، لهذا السبب، فإن مجمل الأشياء، يجب أنْ يكون لها سبب خارج عن نفسها. وهذا السبب يجب أنْ يكون كائناً موجودا.
لذلك، أود أنْ أقول، من أجل شرح الوجود، يجب أنْ نأتي إلى الكائن الذي يحتوي في داخله سبب وجوده الخاص، وهذا يعني بالقول، أنه لا يمكن إلّا أنْ يوجد.
الاقتراح، أنه إذا كان هناك كائناً محتملا، فإنه يتبع من الضرورة أن يكون هناك كائن ضروري.
R: صعوبة هذا البرهان هو أنني لا أعترف بفكرة كائن ضروري، وأنا لا أعترف بأنه هناك أي معنى خاص في ادعاء الكائنات الأخرى "محتملة." هذه العبارات بالنسبة لي ليس لها أهمية إلا في المنطق الذي أرفضه.
- C: هل تعني أنك ترفض هذه الشروط لأنها لن تتناسب مع ما يسمى بـ "المنطق الحديث"؟
- R: حسناً، لا يمكنني العثور على أيّ شيء يمكن أنْ يعنيه ذلك. الكلمة "ضروري"، كما يبدو لي، هي كلمة عديمة الجدوى، باستثناء ما ينطبق على الافتراضات التحليلية، وليس لأشياء.
R: بالتأكيد، سأقول أن ما قلته يعيدنا إلى البداية، كما يبدو لي، إلى البرهان الأنطولوجي أنه هناك كائناً الذي جوهره يشمل وجوده، بحيث أنّ وجوده تحليلي. هذا يبدو لي على أنه مستحيل.
C: ضعها في شكل سؤال: "هل يوجد للعالم سبب؟" أو "هل أنّ سببا ما للعالم موجود؟" معظم الناس بالتأكيد سوف يفهموا السؤال، حتى لو لم يتفقوا على الجواب.
R: حسناً، بالتأكيد السؤال "هل سبب العالم موجود؟" هو سؤال له معنى. ولكن إذا قلتَ "نعم، الله هو سبب العالم" فأنت تستخدم الله كاسم مناسب؛ إذن "الله موجود" لن يكون بيان له معنى؛ هذا هو الموضع الذي أتحفّظ عليه.
C: ولكن نقطتك العامة، إذن، سيد راسل، هو أنه من غير المنطقي حتى طرح السؤال عن سبب العالم؟
- R: نعم، هذا هو موقفي.
إنّ الخلاصة التي يمكن أن تشير لها هذه المقاطع المنتخبة من حوار القس اليسوعي كوبليستون و برتراند راسل، هي:
إن برتراند راسل يرفض – أولاً - على نحو قطعي وجود علّة أولى لخلق العالم هي الله.
ثمّ يرفض – من بعد - و على نحو قطعي أيضا، الاقرار بصحّة مضمون حجّة الإمكان و الاحتمال التي قد تفسّر وجود الله.
و لمّا كان راسل قد استحضر مضمون قياس "الإبريق الكوني" في هذه المحاضرة نفسها، من أجل دحض فكرة القدّيس القائلة بإمكان وجود الله،
أمكن الاستنتاج من خلال هذه المعطيات الثلاثة، و على نحو بالغ الوضوح: بإنّ راسل سمح لنفسه القياسَ بين نوع وجود الله و نوع وجود الإبريق الكوني، من حيث أنّ كلا نوعي الوجود لا دليل عليه و لا دليل على دحضه، الأمر الذي يؤدّي نتيجة مفادها: إنّ القول بوجودهما أو عدم وجودهما قولٌ سواء. و هذا هو المضمون الكامل لمعنى قياس ساغان المتمثّل بتنّينه غير المرئي الذي يدّعي وجوده في مرآبه.
أخيراً، لا بدّ لي من القول: بإنّ وصفَ راسل لنفسه في هذه المناظرة – و في غيرها من المناسبات – بإنه لا أدريٌ، هو نوع وصفٍ لا صحة له أبدا، بسببٍ من أنّ عباراتهِ و أفكاره التي وردت في هذه المناظرة تشير الى كونه " ملحدأ إيجابيّا " مدافعاً عن عقيدته بشدّة، و ليس لا أدريّاً كما ادّعى ذلك.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الاحتلال يطلق قنابل دُخّانية على بوابة مستشفى كمال عدوان شما


.. إعادة انتخاب قيس سعيّد رئيسا لتونس بنسبة 90.69 بالمئة من الأ




.. عاجل | إسرائيل تحذر اللبنانيين من التواجد بالمنطقة البحرية ا


.. نتنياهو: سنواصل القتال وسننتصر من أجل الأجيال القادمة والإنس




.. تصوير جوي يظهر حجم الدمار في بلدة يارون جنوبي لبنان