الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لم تكن محقا يا بابا الفاتيكان.

عبداللطيف هسوف

2006 / 9 / 19
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


لم أكن لألتفت إلى تحريضات البعض المغرضة وإيحاءات البعض الآخر المسمومة، لم أكن لأرد على مستشرق يسترزق بكتابة أبحاث خارج السياق، لم أكن لأرد على صحفي يسكر مساء ليرى أمامه صورا من وحي هلوساته فيقرر أن يجعلها كاريكاتورا مستهجنا أو نص مقال حاقد على نبي الإسلام، لم أكن لأرد على رئيس أكبر دولة في العالم لا يفهم من الإسلام سوى غبار ترامى إلى مسمعه وسط جماعة من المحافظين الجدد المتشبعين بأفكار دينية متطرفة، لكن حين يتكلم من في مرتبة سماحة البابا، وهو الممثل الأعلى للمذهب الكاثوليكي المسيحي، يتغير الوضع ويصبح من واجب كل كاتب أن يحذر من انصياع من يفترض فيهم أن يكونوا حكماء هذا العالم، أن ينصاعوا وراء حسابات سياسية ضيقة لا تخدم لا المسيحيين الشرفاء ولا المسلمين الصادقين.
في محاضرتكم بجامعة ريغينسبورغ الألمانية يوم الثلاثاء، اقتبستم سماحة البابا بنديكت السادس عشر حوارا دار بين الإمبراطور البيزنطي مانويل الثاني باليولوجوس (1350-1425) مع رجل فارسي. ومما جاء في هذا الحوار هو أن كل ما جلبه النبي محمد كان شرا وغير إنساني مثل أمره بنشر الدين الذي يدعو إليه بحد السيف. وفي هذا الاقتباس الذي أشرتم فيما بعد إلى أنه لا يعبر عن رأيكم الخاص بخصوص الإسلام، في هذا الاقتباس ما يكفي من ملاحظات مشوبة بالارتياب إزاء ديننا الإسلام. إذ أوحيتم من خلال كلامكم إلى علاقة الإسلام بالعنف عبر مصطلح يخيفكم، ألا وهو الجهاد الذي جعلتموه يتعارض مع الطبيعة الإلهية وطبيعة الروح الرافضة للعنف. كما أشرتم سماحة البابا إلي أن فكرنا الإسلامي لا يرتبط بالعقل خلافا للمسيحية التي تغذت من الفلسفة الإغريقية.
لا نريد أن نصفكم بالصليبي المتعصب يا بابا الفاتيكان، لا نريد أن نجعلكم في خندق الحاقدين على الإسلام والمسلمين، لا نريد أن نقول إن تصريحاتكم تنم عن خفة عقل ، وأنه من المؤسف أن يكون زعيم المسيحيين بهذا الجهل وقلة الأدب كما ذهب إلى ذلك رئيس إيران السابق خاتمي، لا نريد أن نقول إنكم تملكون عقلية تعود إلي الصفحات المظلمة للقرون الوسطي، كما قال أحد الرؤساء العرب. لا نريد أن نقول إنكم تصبون الزيت علي النار في عالم يتزايد فيه خطر الصدام بين الديانات... بل كنا دائما ولازلنا نتأمل أن تتدخلوا لدى الحكام الغربيين للدعوة إلى رفع الحيف والظلم عن أبناء شعبنا المسلم في الشرق الأوسط. كنا دائما نأمل أن تتمكنوا من بناء علاقة ثقة بين الأديان السماوية الثلاثة عبر انتهاج خط يدعو للحوار والقبول بالآخر والدفاع على مبادئ إنسانية مشتركة بين الجميع وتفادي كل ما من شأنه إذكاء الخلافات المذهبية والعقائدية.
لست يا سماحة البابا في حاجة لدرس في التاريخ لتتعرف على من استخدم السيف والرمح ضد المسيحيين، وكان ذلك قبل مجيئ الإسلام بقرون. أليس اليهود والرومان هم من صلب المسيح عليه السلام (وإن شبه لهم)؟ ثم سنة 429 م، حين اجتاز الوندال، وهم من الجرمان أجدادك، حين اجتازوا جبل طارق ليدخلوا المغرب والجزائر ويستقروا بالقرب من عنابة الجزائرية، ألم يقتلوا سكان قرطاج عن بكرة أبيهم؟ وقد كان من بين الضحايا بامبنيانوس أسقف قيتا الذي قتله جند جفزريك بحراب متقدة بالنار. ثم ألم يقم الوندال أيضا بإحراق مانسيو يتوس أسقف أورستيا؟
وفي أثناء ذلك، كان القديس أغسطين، وهو بالمناسبة من أصل أمازيغي-أفريقي، يرقد داخل هيبو تلك المدينة التعسة وهو في حالة مرض شديد. ورغم وطأة المرض ظل الرجل يضرب المثل الطيب لمن كانوا من حوله، في الصبر وقوة الإيمان. وكان أغسطين يتمتم دوما: أنت العدل يا إلهي وحكمك هو عين الصواب ، ولكنه كان يتضرع إلي السماء كي تلهمه ورعيته جميل العزاء لكي يتحملوا التجربة القاسية. ولما دقت ساعة الخلاص من أوزار هذا العالم، صاح القديس على مسمع من تلاميذه: اللهم أطلق عبدك بسلام . وتلقف الجميع الصرخة وباتوا يتلونها من ورائه في صوت واحد. وفي الشهر الثالث من حصار الوندال لمدينة هيبو، فاضت روح أغسطين إلي بارئها، وكان ذلك في 28 من أغسطس لسنة 430 للميلاد، أي قبل مجيئ الإسلام بما يزيد عن قرن من الزمان. ولما سقطت هيبو كان نصيبها النار والدمار عن آخرها. وقبل أغسطين، هاهو القديس ترتوليان (ولد سنة 150 م) ينتقد بشدة الاضطهادات التي كانت تقوم بها روما عاصمة دولتكم اليوم ضد رجال الدين المسيحيين فيقول: إننا نتكاثر حينما تحصدوننا... وفيما تأخذونه علينا من عناد، عبرة لكم. فمن ذا الذي يشهده ولا يتزعزع ثم لا يبحث عن السر فيه، ومن ذا الذي يبحث فلا ينضم إلينا. ومن ذا الذي ينضم إلينا فلا يتوق للعذاب والموت في سبيل الحصول على الحياة الكاملة والعفو الشامل". أما القديس كايكيليوس سيبريان فقد سقط سنة 258 ميلادية ضحية تعسفات الإمبراطور فاليريان الذي أمر بقطع رأسه بعد محاولات للهرب والاختفاء. كانت، يا سماحة البابا، أحلك الفترات على المسيحيين قبل مجيئ الإسلام لا بعد مجيئه.
من جهة أخرى، أنتم على علم يا سماحة البابا بما فعله المسيحيون بالمسلمين حين امتلكوا القوة؟ هل انتهجوا نهج المسيح عليه السلام الداعي للتسامح والغفران؟ من استعمل العنف لتمسيح المسلمين بالأندلس؟ من حمل المسلمين عبيدا إلى أمريكا وأدخلهم في دين النصارى تحت تهديد القتل بحد السيف؟
أتحتاجون منا يا سماحة البابا لاستذكار في التاريخ؟ وليكن، إن الذكرى تنفع المؤمنين. ألم تكن المعاهدات التي أبرمها فرناندو المدافع عن النصرانية في وجه الإسلام، ألم تكن تلك المعاهدات حبراً على ورق سرعان ما انتقض ما فيها؟ ألم يذق النصارى الشعب الأندلسي ضروب العسف والهوان؟ ألم يقَمْعُ المسيحيون الموريسكيين بقسوةٍ بالغةِ الوحشية في ظلالِ مَحاكم التفتيش؟ مباشرة بعد سقوط غرناطة، بدأت حملات التنصير الإجباري للمسلمين. لكن الإسبان النصرانيين لاحظوا أن هؤلاء غالباً ما كانوا يظهرون المسيحية ويبطنون الإسلام، وبدأت محاكم التفتيش بمحاكمة وحرق من يشتبه فيه التنصير الظاهري فراح الكثير ضحايا هذه المحاكم التي أمرت بإنشائها الملكة إيزابيلا لتلتهم اليهود والمسلمين على حد سواء، وفيما بعد حتى النصارى الذين يشك في ولائهم المطلق للكنيسة الكاثوليكية، فاقترنت إيزابيلا بمحاكم التفتيش هذه في التاريخ. إيزابيلا هذه التي سمّاها شكسبير شاعر الإنكليز «ملكة ملكات الأرض» هي نفسها التي يبحث الفاتكان الآن في شأن رفعها إلى مستوى القديسة. هذه هي التي كانت سبباً في إبادة شعبين، المسلمين في الأندلس والهنود الحمر في أميركا التي عبر إليها كولمبس بأمر من إيزابيلا وزوجها فرديناند مبحراً من اشبيلية بأموال الغنائم التي غنمها الإسبان النصارى بعد سقوط الأندلس. وفي سنة 1502م صدر مرسوم ملكي يقضي بأن يُمنح المسلمون شهرين فقط لا غير لاعتناق المسيحية أو الطرد النهائي، فشهدت ساحات غرناطة إحراق آلاف الكتب العربية والتنصير الإجباري للمسلمين. وفي عام 1516م، أصدر شارل الخامس الذي كان يعرف بالبطش الشديد أمرا بتنصير كل من بقى من المسلمين على دينه ومن يرفض حددوا له مهلة لمغادرة أسبانيا ومن لا يغادر بعد المهلة يحكم عليه بالعبودية طيلة عمره. كما أمر هذا الصليبي بتحويل جميع المساجد إلى كنائس ومن يرجع إلى الإسلام من المسلمين الذين تنصروا كرها فإنه يقتل وتصادر جميع أمواله. كما أصدر قانونا لمن بقى من المسلمين على دينه بوضع شارات زرقاء على قلنسواته والسجود في الشوارع والطرقات إذا مر عليهم موكب من القساوسة والرهبان. كما أصدرت الأوامر للموريسكين بالتخلي عن اللغة العربية وأن لا يلبسوا الزي الإسلامي وأن يفتحوا أبواب منازلهم في أعيادهم ولا يتسموا بأسماء عربية وسمح لهم بارتداء الزي الإسلامي إذا دفعوا ضريبة للدولة نظير ذلك. وبقي العديد من الموريسكسسن بالأندلس الجريح، والذي يؤكد بقاء عدد كبير هناك، أنه وصلت في منتصف القرن الثامن عشر إخبارية إلى محاكم دواوين التفتيش مفادها أن عدد كبير من القساوسة والإداريين والعسكريين الأسبان يمارسون شعائر الدين الإسلامي سراً بمدينة غرناطة، فصدرت الأوامر العليا بالقبض عليهم جميعاً وقد تم القبض عليهم يوم الأربعاء الأول من أكتوبر عام 1727 ما بين الواحدة صباحاً حتى السادسة وقدموا للمحاكمة حيث قضت بسجنهم والاستيلاء على أملاكهم وحرقهم في وسط الكنائس، وقد تم إحراق هؤلاء الشهداء ما بين تاريخ 9/5/1728 و15/6/1730م والذي لفت الانتباه أن المحاكمة شملت 250 شخصاً.
سأكتفي هنا بما وقع في الأندلس دون ذكر القتل الذي ارتكبه النصارى خلال الحروب الصليبية بفلسطين، دون ذكر ما اقترفته أيدي الغربيين النصارى في أمريكا وصل حد الإبادة الجماعية للهنود الحمر، دون ذكر أن الاستعمار خلال بداية القرن العشرين في القارة الأفريقية سبقه تبشير نصراني مهد الطريق لجنود متعطشين للدماء قتلوا ملايين الأفراد من العرب المسلمين بالمغرب والجزائر وتونس وليبيا ومصر... دون ذكر ما يحدث اليوم في أفغانستان والعراق ولبنان وفلسطين تحت غطاء تحالف يهودي-مسيحي متطرف... أيكفيك هذا يا سماحة البابا أم أنت محتاج للمزيد من سفك الدماء لتدرك أن الظرف لا يحتمل مزيدا من نكئ الجراح، وأنك مطالب قبل غيرك بفتح صفحة لتحاور جدي يقارب بين الشعوب مهما كانت دياناتها، فأنت لست مسؤولا عن المسيحيين فقط، بل إنك مسؤول عن المستضعفين أينما كانوا. لو وجد بيننا اليوم سيدنا المسيح عليه السلام، ألم يكن لينصر مستضعفا مظلوما بغض النظر عن ديانته ؟ أظن الجواب سيكون بالإيجاب. إذن لتكن لك في نبيك أسوة حسنة ولا تدخل في ضيق أنت في غنى عنه.
المسلمون يجلون نبيكم المسيح عليه السلام يا سماحة البابا، ولا يتهجمون على دينكم، وأنتم تمعنون في المس بنبينا سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ولا تتركون فرصة تمر إلا وتنالون من دين الإسلام. أفيقوا من غفلتكم، فالإسلام الذي حيكت ضده المؤامرات منذ أوحى الله برسالته للنبي محمد الكريم باق ما بقي الكون، ما بقي نور في هذا الكون، لأنه وبكل بساطة، أي القرآن، تنزيل من رب العالمين، والله متم نوره ولو كره الكافرون.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. 155-Al-Baqarah


.. 156-Al-Baqarah




.. 157-Al-Baqarah


.. 158-Al-Baqarah




.. 159-Al-Baqarah