الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مقابلة صحفية مع الله - الحلقة الثامنة

سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي

(Saoud Salem)

2022 / 6 / 26
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


٨

وهنا انقطع الخط فجأة ورفعت رأسي متوقفا عن الكتابة، عندما دخل صاحب المقهى حاملا كرسيه الخشبي وهو يشتم ويلعن عباد الله وينفض ملابسه من الغبار الذي سببه، على ما يبدو مرور السيارات المسرعة والذي تزايد بطريقة ملحوظة في هذا الوقت. وقال وهو يضع كرسيه في مكان غير بعيد: حيوانات، حيوانات، وظل يردد ذلك حتى رفعت رأسي مرة ثانية ونظرت إليه متسائلا، فقال وهو ينظر إلى الخارج مشيرا بيده إلى الشارع : والله الحيوانات أحسن. فقلت له محاولا تهدئة الأمر: يا راجل، مساكين هذه الحيوانات، إنهم حقا يسوقون بسرعة هذه الآلات المزعجة، ولكنهم ليسوا مسؤولين عن الغبار والطرق الغير معبدة، وواصل متظاهرا بأنه لم يسمعني : حيوانات.. همج .. حمير. فواصلت مؤكدا على فكرتي : خلليك منهم يا راجل، شوفلك مصلحة الطرق أو رئيس البلدية أو أي مسؤول آخر. فهز رأسه عدة مرات وهو يقول بمرارة: خرّف، خرّف يا صاحبي، والله لو تأتي لهم بأحسن مدير شركة في العالم فإنه لن يستطيع تنظيم هذا القطيع. فقلت له معاندا: دعك من الغضب على هؤلاء المساكين وانظر إلى الجوانب الحسنة لهذا القطيع حسب قولك، أنظر إلى القطعان الحقيقية التي تحترم تحديد السرعة والإشارات الضوئية وتتوقف في الطابور كما يجب، أما هؤلاء المساكين فإنهم ليسوا قطيعا ويتمتعون بحرية إيجابية ولا يطيعون الأوامر ويرفضون أن يكونوا قطيعا. فنهض من كرسيه واقترب من طاولتي وهو يردد: أووه يا صديقي، إنني لست ذكيا إلى هذا الحد، ليس لدرجة أن أقتنع بأن الذين وصلوا للقمر وصنعوا الطائرات ومركبات الفضاء متخلفون لأنهم يحترمون الإشارات الضوئية وتحديد السرعة واحترام بعضهم البعض. فقلت له محاولا تهدئة الوضع : لا لا لم أقل ذلك، لم أقل أنهم متخلفون، إنني فقط أؤكد أنهم قطيع، قطيع حقيقي، يطيعون الأوامر ولا يخرجون عن الطريق المرسومة من قبل رئيس القطيع. فقال وهو يضحك: ما تلخبطنيش يا صاحبي، إذا كانوا هم يتصرفون كقطيع فماذا نكون نحن إذا؟ قطيع لا يعرف قوانين القطعان؟ يبدو أنك فكرت في هذا الموضوع أما أنا فإنني أرى هؤلاء البشر وأعرفهم واحدا واحدا وأراقب تصرفاتهم وأعمالهم منذ سنوات إنهم حيوانات، حيوانات ولا يمكن أن يتطوروا حتى بمعجزة. فقلت له محاولا أن أفهم ما يعنيه بالمعجزة: هذا كلام متشائم للغاية، لا يجب أن نفقد الأمل في الإنسان، فوراء هذه القشور المهترئة وهذه الملابس المغبرة سيظهر في يوم ما القلب الحقيقي المشع ضياء والمتألق بالحب والأمل الإنساني، وكعاصفة سيقلبون الدنيا رأسا على عقب، وسترى قيمة الإنسان الحقيقية في ذلك الوقت. فبدت على وجهه علامات الحيرة للحظة تم تمالك نفسه وقال وهو يتكئ بكلتا يديه على الطاولة متحاشيا أن تلمس يداه الكراسة المفتوحة : لا أعرف ما تقصده بالضبط، ولكنني لا أفهم، أنت إنسان متعلم، تكتب أو تقرأ وتشرب الشاي، بدلا من أن تجلس في هذه القرية الملعونة التي يسكنها قطيع من الغنم الأجرب وتتحدث مع جاهل مثلي، لماذا لا تذهب إلى المدينة، هناك حيث الطرق المعبدة والأضواء والنساء والويسكي و.. فقاطعته: إنه العمل، العمل يا صديقي من أجل خبز العيال، بكل بساطة أتيت إلى هنا للشغل. وبقي صامتا للحظات وكأنه ينتظرا المزيد من التفاصيل، فواصلت : إنني أحاول كتابة مقال للجريدة التي أشتغل بها والتي تعاني من أزمة مادية كبيرة ومهددة بالتوقف عن الصدور إذا لم نتمكن من زيادة عدد القراء. فقال وهو يجذب كرسيه ويجلس قبالتي مأكدا رغبته في مواصلة الحديث: صحفي، أنت صحفي، كما ترى لا توجد جرائد هنا، ولا أي شئ آخر يمكن قرائته، القليل يقرأ الجرائد هنا، ليس لأنه لا توجد جرائد تهتم بنا ولكن لأنه حتى في حالة وجودها فإنهم غير قادرين على قول الحقيقة. وظيفة الصحافة هي نشر الكذب وتغطية الحقائق، هل تتفق معي في ذلك؟ فقلت له بصراحة: هذا صحيح ولكن إلى حد ما. فقال مقاطعا: أنت من جماعة "نعم .. ولكن" دائما الشئ وضده، تريد إرضاء الجميع وتعتبر الإستثناء مهما كالقاعدة، فعن ماذا تكتب إذا سمحت لي بهذا السؤال، ولماذا في هذا المكان وفي قهوتي بالذات؟ فقلت له: لا أدري وربما بالصدفة، في الحقيقة الله أعلم. فقال متحيرا: الله أعلم .. الله أعلم، ولكن لابد أنك تعلم أنت أيضا لماذا تجلس هنا وليس في مكان آخر ؟ حسب علمي أنت لم تأت إلى هذا المقهى من قبل. وترددت عدة لحظات قبل أن أقرر بأن أقول له الحقيقة : بالتأكيد أعلم، ولكنني متردد في قول السبب الحقيقي خشية أن تسئ فهمي، فعندما قلت لك الله أعلم كان ذلك عين الحقيقة، أما أنا فلم أعرف بعد لماذا أختار هذا المكان. فقال مستغربا: وما دخل الله في الموضوع يا صاحبي؟ فقلت له: لأن الموضوع بأكمله يتعلق به، فهو الذي حدد المكان والزمان. ورفع حاجبيه متسائلا دون أن ينطق بكلمة، فواصلت وأنا أتظاهر بتصفح كراستي: أعني مكان وزمان موعد المقابلة الصحفية، وأضفت بتردد: اللقاء الذي كلفني بها رئيس تحرير الجريدة. كان الآن واقفا حاملا كرسيه في يده اليمنى، فوضعه على الأرض بهدوء وظل للحظة متكئا وناظرا إليه ثم رفع رأسه وانفجر ضاحكا في قهقهة طويلة صادقة وضحكت معه بدوري ضحكة يشوبها بعض القلق، وقال وهو يشير إلي بسبابته ويميل رأسه جانبا: لا لا لا، لا تحاول أن تسخر مني، إنها نكتة جيدة، ولكن لا تسخر مني. فقلت له مطمئنا: أبدا أبدا أنا لا أسخر منك، إنها الحقيقة لقد كنت منهمكا في كتابة هذه المقابلة مع الله قبل أن تقطع حديثنا، وعلي على كل حال يجب مواصلة الحوار إذا سمحت. فقال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم أعوذ بالله وأخذ كرسيه وخرج للحظات قصيرة ثم عاد وهو ما يزال يتمتم بينه وبين نفسه، وذهب وراء الكونتوار وبدأ في تنظيف بعض الكؤوس وترتيب بعض الصحون والزجاجات مرددا أعوذ بالله أعوذ بالله.

يتبع








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بعد -الزلزال- الانتخابي.. كيف تبدو فرنسا؟| المسائية


.. الدورة الأولى للانتخابات التشريعية الفرنسية.. تزوير وحريق رف




.. -بيريل-.. إعصار -كارثي محتمل- من الفئة الخامسة يضرب منطقة ال


.. كأس أمم أوروبا: فرنسا تنتزع بطاقة التأهل لربع النهائي بفوز ص




.. كأس أمم أوروبا: البرتغال لمواجهة فرنسا في ربع النهائي بعد فو