الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التوراة بين بشرية النص وعنف الإله

باسم عبدالله
كاتب، صحفي ومترجم

(Basim Abdulla)

2022 / 7 / 4
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


امتدت الوثنية في تاريخ البشرية عدة قرون، وتحول الصراع بين الملل والنحل الى اشده حتى صارت شرائع القتل الطريقة الاسمى في حسابات الواقع والغيب، فلقد وجدوا في النص الديني ما يشبع رغبة الإنتقام فيوضع الغل والحقد على إله بعيد، في الملا الأعلى فهو الذي المشرع للقتل وبإسمه تزهق الأرواح كل يوم، ان مأساة البشرية تنطلق من افكار النص البشري فتتحول الى وجدان روحاني يستشف من المغيب مطامع الذات التي لا تستقر على قناعة ولا تستفيق على نقد ذاتي ولا رادع يمنع عنها الإثم، فما دام الموت قد شرعه إله لا تراه العيون فلماذا لا تستمر مشاعل الموت والدمار، اننا اليوم نقلب النصوص الدينية في كتاب التوراة فهمي المرجع الأقدم في روحانية الأديان الإبراهيمية في تبرير القتل وانتهاك الحرمات الأخلاقية، وتكاد تملأ التوراة كل اسفاره، حتى ان اسم ” يهوه ” قد حفل به العبرانيون إلهاً، إله الجنود والحرب. تفيدنا قوائم القتل الجماعي بإسم الإله يهوه ما دار في سفر يشوع، الاصحاح 10 ” فقال الرب ليشوع ... وبينما هم هاربون من أمام إسرائيل و هم في منحدر بيت حورون رماهم الرب بحجارة عظيمة من السماء إلى عزيقة فماتوا و الذين ماتوا بحجارة البرد هم أكثر من الذين قتلهم بنو إسرائيل بالسيف حينئذ كلم يشوع الرب يوم اسلم الرب الاموريين أمام بني إسرائيل و قال أمام عيون إسرائيل يا شمس دومي على جبعون و يا قمر على وادي ايلون فدامت الشمس ووقف القمر حتى انتقم الشعب من اعدائه أليس هذا مكتوبا في سفر ياشر فوقفت الشمس في كبد السماء و لم تعجل للغروب نحو يوم كامل ... فهذا الرب حارب عن اسرائيل ” في سفر حزقيال الاصحاح 9 يطالعنا نص مماثل” وقال لاولئك في سمعي اعبروا في المدينة وراءه واضربوا لا تشفق اعينكم ولا تعفوا الشيخ والشاب والعذراء والطفل و النساء اقتلوا للهلاك ولا تقربوا من انسان عليه السمة وابتدئوا من مقدسي فابتداوا بالرجال الشيوخ الذين أمام البيت وقال لهم نجسوا البيت و املاوا الدور قتلى اخرجوا فخرجوا و قتلوا في المدينة .. ” فهذا تعميم الإله في شرعية القتل، شيوخ، شباب، اطفال، نساء، عذارى. الهدف القتل، هذا الأمر الصريح في القتل تعكس عقلية الإله في مدى تعطشه للدم، فما الذي يقدمه هذا الإله لشعبه؟ لقد علمهم فنون القتل والقتال. في سفر ارميا تتوسع دلالة القتل، في الاصحاح 48 ” مَلْعُونٌ مَنْ يَعْمَلُ عَمَلَ الرَّبِّ بِرِخَاءٍ، وَمَلْعُونٌ مَنْ يَمْنَعُ سَيْفَهُ عَنِ الدَّمِ ” نص صريح فيه الدعوة للقتل تسكب عليه لعنات الرب ان منع سيفه عن اراقة الدماء.
وفي سفر الخروج تتوزع تعاليم القتل في كل الاصحاحات تقريبا، ففي الاصحاح 32 على سبيل المثال كان يعلّم إله اسرائيل كيفية قتل المقربين من الاهل ومن يعيشون الى جوارهم ” فقال لهم هكذا قال الرب اله إسرائيل ضعوا كل واحد سيفه على فخذه و مروا و ارجعوا من باب إلى باب في المحلة و اقتلوا كل واحد اخاه وكل واحد صاحبه وكل واحد قريبه ففعل بنو لاوي بحسب قول موسى ووقع من الشعب في ذلك اليوم نحو ثلاثة الاف رجل وقال موسى املاوا ايديكم اليوم للرب حتى كل واحد بابنه و باخيه فيعطيكم اليوم بركة .. ” فسبط لاوي من نسل النبي موسى، وهؤلاء قومه لكن عمل فيهم السيف بحسب المعتقد اللآهوتي للإله. لقد فعلوا بما اراد موسى منهم، وتطبيقاً لتعاليمه.
في سفر العدد 25 يمر علينا مشهد الدم اكثر بشاعة ارضاء لما يريده إله اسرائيل، رؤيا الدم ” ... فقال الرب لموسى خذ جميع رؤوس الشعب وعلقهم للرب مقابل الشمس فيرتد حمو غضب الرب عن إسرائيل فقال موسى لقضاة إسرائيل اقتلوا كل واحد قومه المتعلقين ببعل فغور ” فهذا امر حتى يذهب غضب الرب. في الاصحاح 20 من سفر التثنية امر إله اسرائيل فتح المدينة وعندما يعطيها الله اليهم ” ... فاَضْرِبوا كُلَ ذكَرٍ فيها بِحَدِّ السَّيفِ. وأمَّا النِّساءُ والأطفالُ والبَهائِمُ وجميعُ ما في المدينةِ مِنْ غَنيمةٍ، فاَغْنَموها لأنْفُسِكُم وتمَتَّعوا بِغَنيمةِ أعدائِكُمُ التي أعطاكُمُ الرّبُّ إلهُكُم. هكذا تفعَلونَ بجميعِ المُدُنِ البعيدةِ مِنكُم جدُا، التي لا تخصُّ هؤلاءِ الأُمَمَ هُنا. وأمَّا مُدُنُ هؤلاءِ الأُمَمِ التي يُعطيها لكُمُ الرّبُّ إلهُكُم مُلْكًا، فلا تُبقوا أحدًا مِنها حيُا بل تُحَلِّلونَ إبادَتَهُم، وهُمُ الحِثِّيّونَ والأموريُّونَ والكنعانِيُّونَ والفِرِّزيُّونَ والحوِّيُّونَ واليَبوسيُّونَ، كما أمركُمُ الرّبُّ إلهُكُم” لقد شمل اطلاق اليد في القتل جميع الاقوام غير بني اسرائيل، لقد استمرت اهوال الدماء في قوائم الموت ان امر بذبح كل ذكر بحد السيف، ففي سفر اصحاح حزقيال 11 التحريض على القتل بالسيف “ ... قد فزعتم من السيف فالسيف اجلبه عليكم يقول السيد الرب... بالسيف تسقطون في تخم إسرائيل اقضي عليكم فتعلمون اني أنا الرب ” يتكرر مشهد التحريض على القتل في الاصحاح 12 ” فيعلمون اني أنا الرب حين ابددهم بين الامم و اذريهم في الاراضي وابقي منهم رجالا معدودين من السيف ومن الجوع ومن الوباء لكي يحدثوا بكل رجاساتهم بين الامم التي ياتون اليها فيعلمون اني أنا الرب و كانت إلي كلمة الرب قائلة يا ابن ادم كل خبزك بارتعاش واشرب ماءك بارتعاد وغم ” ولعل تعاليم الإله صارت امراً للخطف والاغتصاب، ففي سفر القضاة يتجدد مشهد العنف ” ... واوصوا بني بنيامين قائلين امضوا واكمنوا في الكروم وانظروا فاذا خرجت بنات شيلوه ليدرن في الرقص فاخرجوا انتم من الكروم واخطفوا لانفسكم كل واحد امراته من بنات شيلوه واذهبوا الى ارض بنيامين.” صار خطف النساء من الاعراف التوراتية للإله، وهذا التحريض يتوزع على مساحة هائلة في النصوص التوراتية.
في سفر صموئيل الاول من الاصحاح 15 امر بإلابادة الجماعية “ ... هكذا يقول رب الجنود اني قد افتقدت ما عمل عماليق بإسرائيل حين وقف له في الطريق عند صعوده من مصر فالآن اذهب و اضرب عماليق و حرموا كل ما له و لا تعف عنهم بل اقتل رجلا وامراة طفلا ورضيعا بقرا وغنما جملا وحمارا ” هذا العنف يتكرر في عموم التوراة مؤسس على النظرة القاسية للإنسان والشعوب، النساء، الحيوانات، الاطفال، وكل مشاهد الحياة الطبيعية، هي قصص صيغت اساساً لتبرير القتل، فتلك اللعنات صنعت تاريخ الشعوب بالاحقاد والحروب، وتعلمت من الإله البعيد في الأعالي ما لم يسنه القانون المدني، فيوم الرب شامل بحقده كل الأرض، فهو يوم رهيب قادم كخراب من القادر على كل شي ”هكذا لم يختلف سفر الدم في اشعيا عن بقية الأسفار في دعوته للدم، ففي الاصحاح 13 يتكرر المشهد كغيره من الاسفار” ولولوا لان يوم الرب قريب قادم كخراب من القادر على كل شيء، لذلك ترتخي كل الايادي ويذوب كل قلب انسان .. ” يذوب كل قلب خوفاً ورعباً فهذا الإله القدير اختار يومه خراباً للشعوب. في الفقرات التالية لهذا السفر ” كل من وجد يطعن بالسيف وتحطم اطفالهم امام عيونهم وتنهب بيوتهم وتفضح نسائهم، فهذا المعنى في فضح النساء تشريع اغتصابهن ثم قتلهن بعد الاغتصاب.
لم يقف تعامل إله اسرائيل القتل بالسيف، بل انحرف عن القيم الأخلاقية التي يفترض ان تكون سائدة في حضارة اليهود تلك التي ساد فيها انبياء دعوا للصلاح، لكن دعوة الإله كانت دائما عكس المسار الأخلاقي، ففي سفر هوشع، من الاصحاح الاول ” اول ما كلم الرب هوشع قال الرب لهوشع اذهب خذ لنفسك امراة زنى وأولاد زنى لان الأرض قد زنت زنى تاركة الرب ... ” شجّع الإله على الزنى، فالكل اولاد زنى، كل الأرض زنت، بهذا القياس تعامل إله اسرائيل فهو القدوة التي لم تجعل للقيم الأخلاقية حتى في ملف انبيائه من الحشمة والوقار، فلا سبيل امامهم الا ان يكون صورة إلههم. في الاصحاح 13 يعمم شره ارجاء المعمورة ، ماهو جزاء سكان السامرة من إلههم؟ ” تجازى السامرة لانها قد تمردت على الهها بالسيف يسقطون تحطم اطفالهم والحوامل تشق ” فهذا تكليف الإله لنبيه هوشع ” شق” بطون النساء الحوامل. دعوة صريحة لشق بطون الحوامل؟ في سفر العدد 31 يتكرر المشهد لماساة الشعوب “ الآنَ اَقْتُلوا كُلَ ذَكَرٍ مِنَ الأطفالِ وكُلَ اَمرأةٍ ضاجعَت رَجلاً، وأمَّا الإناثُ مِنَ الأطفالِ والنِّساءِ اللَّواتي لم يُضاجعْنَ رَجلاً فاَسْتَبقوهُنَّ لكُم. " اذ امر بقتل كل ذكر وطفل وامرأة، ودعاهم ان يعرفوا اي النساء لم تضاجعن رجالاً، فليس امام قياس رجاله من معرفة عدم مضاجعتهن رجالاً آخرين الا بعلاقة جنسية. هذا الأمر المشاع يستحيل تقبل عقيدة لاهوتية تكون بهذا الحجم من الفضاعة الأخلاقية ان يكون من إله له وجود ذلك ان عقليته القبلية والثأرية تجعل الناحية الروحانية تستحيل وجودها بهذا التطرف في الملأ الأعلى، لكنها عقلية بشرية صاغت عدوانية النص وجعلته في إطار إلهي لا غير.
لقد قدم موسى ديناً مختصاً لبني اسرائيل، دون سواهم، مما جعل امر التطور اللاهوتي للعقيدة الدينية يختلف عن غيره في بقية الأديان الابراهيمية، اختصهم كشعب واورثم لاهوتاً ارض فلسطين، في سفر التكوين، الاصحاح 12 ” وظهر الرب لابرام وقال لنسلك اعطي هذه الأرض فبنى هناك مذبحا للرب الذي ظهر له ” فهذا التفويض الإلهي قد جعل العقلية العنصرية ترى ارضها بحسب سفر التكوين 18 ” فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ عَقَدَ اللهُ مِيثَاقاً مَعْ أَبْرَامَ قَائِلاً: «سَأُعْطِي نَسْلَكَ هَذِهِ الأَرْضَ مِنْ وَادِي الْعَرِيشِ إِلَى النَّهْرِ الْكَبِيرِ، نَهْرِ الْفُرَاتِ. أَرْضَ الْقَيْنِيِّينَ وَالْقَنِزِّيِّينَ، وَالْقَدْمُونِيِّينَ وَالْحِثِّيِّينَ وَالْفَرِزِّيِّينَ وَالرَّفَائِيِّينَ وَالأَمُورِيِّينَ وَالْكَنْعَانِيِّينَ وَالْجِرْجَاشِيِّينَ وَالْيَبُوسِيِّينَ” نحن امام مفترث طرق بين ان تطبق الدولة العبرية احلام النصوص التوراتية، عبر التاريخ، وتسعى اكثر الى التوسع واغتصاب الحقوق، او ان تؤسس دولة مدنية ليبرالية.
إشكالية العلاقة بين الدين والدولة وكذلك بين الدين والتشريع، عندما ننتقل من المفهوم اللاهوتي للدين الى مفهوم السياسة، فما زالت القيم الدينية للدولة العبرية رغم مرور عشرات السنين على تأسيسها لم تستطع الدولة الدينية في اسرائيل وضع دستور ينهي النزاع بين العلمانيين ورجال الدين، وبين الفلسطينيين واليهود، اذ بقي تعريف الدولة الديني يتعامل مع جميع طبقات الدولة الفكرية على اساس ديني عرقي تفوقي، وكما نرى العنف التوراتي في كل اسفار العهد القديم، الصفة السائدة فيه طابع العنف وتجريد الشعوب من حقوقهم، بقي النزاع الديني بين عرب فلسطين واليهود ليس على اساس دولة يهودية، انما على اساس حدودها المترامية الاطراف قبل السبي البابلي، عقلية تستلهم من عنف التشريع الديني فرض احلام التوسع والهيمنة، الى جعل العقلية التوراتية في حكمها على بقية الشعوب المتاخمة امراً يفرض نفسه، ان النزاع ليس على اساس الدين فدولة اسرائيل اليوم هي الدولة التي تجسد وجسدت مظالم الصراع في عقلية اصحاب الأسفار فهم جميعا متوحدون في تاريخ الماضي والحاضر استمرارية تأجيج الصراع كما فعل النص التوراتي، فالصراع لم ينسجم مع النص المقدس ولا مع شريعة موسى، اعتبر المؤرخون النبي عزرا كاتب الشريعة اليهودية، لقد اعاد العنصرية والتمييز للدين اليهودي، يذكر سفر عزرا ، الاصحاح 7 في الفقرة 6 ” عزرا هذا صعد من بابل، وهو كاتب ماهر في شريعة موسى التي أعطاها الرب إله إسرائيل، وأعطاه الملك حسب يد الرب إلهه عليه، كل سؤله ” لقد تمت صياغة الأفكار العنصرية قياساً على اساس المنطقات النظرية والوجدانية للنبي عزرا. في المسلك الديني الذي امتد آلاف السنين، ذكر التاريخ مفاسد ملوك اليهود، وقد عاد عزرا لبناء الهيكل فاكتشف خطيئة الزرع المقدس، ماذا يعني هذا؟ تذكر القرينة في سفر عزرا، الاصحاح 9 ” ولما كملت هذه تقدم إلي الرؤساء قائلين: لم ينفصل شعب إسرائيل والكهنة واللاويون من شعوب الأراضي حسب رجاساتهم، من الكنعانيين والحثيين والفرزيين واليبوسيين والعمونيين والموآبيين والمصريين والأموريين لأنهم اتخذوا من بناتهم لأنفسهم ولبنيهم، واختلط الزرع المقدس بشعوب الأراضي. وكانت يد الرؤساء والولاة في هذه الخيانة أولا ... ” فهذا الإختلاط في الزرع المقدس قد جعل الوجدان العنصري منذ اعادة بناء الهيكل الى يومنا هذا تدفع ثمنه شعوب واقوام على خط التماس مع اليهود. يبقى معنى الدولة المدنية شكلاً لا مضموناً، حتى ان الانغلاق الديني قد انسحب على دعوة المسيح السلمية في تاريخ اليهود مما ادى الى معاداته وقتله. بقيت اليهودية، عكس المسيحية والإسلام ديناً منغلقاً على الاسرائيليين، وبقيت طقوسهم في الهيكل الذي بناه سليمان ومازالوا يبحثون عن إلههم ليومنا هذا. ان هدف المقال تاسيس الفكر الديمقراطي القائم على العدالة الاجتماعية ونبذ العنصرية الدينية، بتأسيس دولة مدنية حقيقية تمنع الصراع الاقليمي والطائفي وتؤسس قيم الخير على اساس العدالة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي