الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مع دوستويفسكي في سجنه1/ 2

داود السلمان

2022 / 7 / 14
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


لماذا تكون السجون من أصعب المحن التي يواجهها الإنسان؟، سواء الذي أُدخل السّجن ظلمًا وعدوانًا، أي عن طريق مكيدة مقصودة، أو عن طريق ارتكاب هذا الإنسان حماقة قتل أو جناية اعتداء، فسببت هذه الحماقة في دخوله للسجن، لينال جزائه لما اقترفت يديه من ذنب شنيع، أو فعل قبيح أو جريمة يستحق عليها أن يدخل ظلمات السّجن، ليكون عبرة لغيره كي لا يرتكب، هو الآخر مثل كذا جرائم تعاقب عليها جميع القوانين والأعراف.
وتكمُن صعوبة وقسوة دخول السّجن، كون الإنسان في داخل السجن يفقد حريته بالكامل، وطالما الإنسان ولد حرًا فيجب أن يعيش كذلك، وحين يفقد حريته ويصبح يُعامل معاملة القن أو الأسير، وأخذ يشعر بفقدان كل ما يمتلك في حياته ويحط من إنسانيته؛ فالحرية تُعد أعزّ ما يملك الإنسان، والبعض ممن تعرض لقسوة السجن يتمنى الموت من كل قلبه مفضلا على العيش بدون حرية، فالسجن، والحال هذه، هو أقسى محنة يمر بها الإنسان، فهي شيء لا يوصف.
ومنها يرى دوستويفسكي وهو يفلسف أحوال الإنسان الراقد في السجن: " إن من يُرسل إلى السجن من عامة الناس يجد نفسه في مجتمعه، بل ربما حتى في مجتمع أرقى. قد يفتقد كثيرًا ذلك الركن الذي ولد فيه وأسرته، ولكن بيئته تظل هي ذاتها. أما الرجل المثقف الذي حكم عليه القانون بالعقوبة نفسها التي حكم بها على رجل من عامة الشعب، فإنه يتألم بما لا يقاس بألم هذا الرجل الأخير، ينبغي عليه أن يخنق حاجاته، وجميع عاداته، ولابد أن ينزل إلى مستوى أدنى لا يرتضيه".
والتهمة التي دخل دوستويفسكي بسببها السجن، هو انتمائه إلى حزب ليبرالي محظور من قبل الحكومة القيصرية، آنذاك. فحكم عليه بالإعدام رميًا بالرصاص، وقبل التنفيذ بدقائق أصدر القيصر قرارًا بتخفيف الحكم (من إعدام إلى اربع سنوات سجن مع اشغال شاقة) فُنقل دوستويفسكي إلى سجن رهيب في سيبيريا. وهناك عاش - هذا الأديب العظيم - مع مجموعة من مجرمين محترفين، وقتلة لا يخفق لهم جنان وهم يفتكون بضحية، ولعل اهونهم ينحر طفلا كما يُنحر الكبش في عيد (الأضحى) عند المسلمين.
وبعد خروجه من السّجن ألف الكاتب هذه رواية العظيمة تحت عنوان(مذكرات من منازل الأموات).
لذلك يكتب الروائي وهو يشير إلى أن العقوبة التي ينالها المجرم لا تجدي نفعا به، ولا بها يرجى اصلاحه: " ليس في وسع الإنسان أن يحكم على الجريمة وفقًا لآراء جاهزة، وفلسفة الإنسان في الحكم على الجريمة أعقد قليلاً مما نتوهم. ومن الثابت المحقق أنه لا السجون ولا المعتقلات ولا نظام الأشغال الشاقة، لا شيء من هذا كله بقادر على إصلاح المجرم، إن هذه العقوبات لا تزيد على أن تنزل فيه قصاصًا وتقي المجتمع من الجرائم التي قد يقارفها إبان ذلك".
فيتحدث دوستويفسكي، في هذه الرواية، عن الظلم والمأساة التي وقعت عليه في داخل السجن، حيث العذاب الذي ما بعده عذاب، عذاب نفسي وجسدي ونقص في المأكل والمشرب وفي توافر أبسط الاشياء التي يحتجها البشر على اعتباره إنسان يحتاج الى ابسط مقومات الحياة، وفوق هذا وذاك هو انعدام الحرية، فالسجين بلا شكّ معدومة حريته بالمرّة لأن ذلك جزء من العقوبة التي ينالها إثر جنايته، فلا يتحرك أبسط حركته، لحاجة ما إلّا بأوامر من السجان.
يصف الكاتب حجم المأساة التي تقع على كاهل هؤلاء المساجين، وهم يرفلون بعذاب مستديم من السجان، والقوانين الصارمة التي تُطبق عليهم بحذافيرها، فهم يرقدون إلى مضاجعهم في ساعة معينة، وينهضون في الساعات الأولى من الصباح ليذهبوا إلى الأعمال الشاقة كعقوبة اضافية، وهي حمل الصخور من مكان إلى آخر، بعد تهشيم هذه الصخور من الجبال بفؤوس معدة لهذا الغرض، حتى يأخذ التعب منهم كل مأخذ، وينالون عذابهم كعقوبة جسدية نتيجة لما اقترفت ايديهم من جرائم بحق الإنسانية.
يقول الكاتب وهو يوصف المجرمين الذين قاموا بتلك الأفعال الاجرامية، ممن جلس معهم وحدثوه بها وجهًا لوجه، بقوله: "إن هناك يصعب على المرء أن يتصورها من شدة الغرابة في اقترافها؛ وإنما أقول ذلك لأن الجرائم التي يرتكبها أفراد من الشعب تكون أسبابها باعثة على الدهشة في كثير من الأحيان".
ويضيف في مكان آخر في رائعته هذه: " إن كل سجين يعرف حق المعرفة أنه سجين ويعرف حق المعرفة أنه منبوذ ممقوت مكروه، ويعرف المسافة التي تفصل بين وبين رؤسائه. لكن لا القضبان ولا الأغلال تنسيه أنه إنسان فلابد أن يعامل إذن معاملة إنسانية. رباه! ألّا إن في استطاعة معاملة إنسانية أن تنقذ من الهوة حتى ذلك الذي اختفت من نفسه صورة الله منذ زمن طويل".
ويركز دوستويفسكي على بعض الشخصيات التي عاش معها في السجن بشكل مركّز مثل النزيل (آكيم آكيمتش) ويصفه بغريب الأطوار، وأنه شخصية مركبة عجيبة، أذا تنظر اليه أول وهلة ستقول أنه ساذج بليد لا يقر على رأي صائب، ولا قرار حكيم، واحيانًا يصفه أنه صامت لا يتكلم يصفن طويلا، وأحيانا يثرثر؛ ويقول عنه دوستويفسكي تارة أخرى أنه شهم شجاع صبور!، يتدخل في الذي يعنيه والذي لا يعنيه، حتى أنه إذا رأى سجين تُعتدى عليه من قبل سجين آخر فيلحق به ضربًا وتنكيلا، تجد آكيم يتدخل فيقف ويساند المُعتدى عليه فيلقن المعتدي درسه عظيمًا، في الشجاعة والبسالة والأخلاق، فهذه الشخصية عجيبة، شخصية مركبة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صور أقمار اصطناعية تظهر النزوح الكبير من رفح بعد بدء الهجوم


.. الفيفا يتعهد بإجراء مشورة قانونية بشأن طلب فلسطين تجميد عضوي




.. مجلس النواب الأمريكي يبطل قرار بايدن بوقف مد إسرائيل ببعض ال


.. مصر وإسرائيل.. معضلة معبر رفح!| #الظهيرة




.. إسرائيل للعدل الدولية: رفح هي -نقطة محورية لنشاط إرهابي مستم