الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ظلاميتهم وظلاميتنا: قرون من الجهل والتخلف وازدراء الإنسان.

سعيد عطا

2022 / 7 / 19
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


جرفتني دروب الحياة ومسالكها هذه المرة لأعيش موقفا فجر كل سواكني ودفعني للتفكير مرغما بعدما قررت أن أخلد للراحة أياما قليلة، فالمسكون بهموم الوطن لا يمكنه أن يستكين لمثل هذه المواقف ولا يمكن أن يمر عليها مر الكرام، موقف عشته وأنا أحتسي قهوتي في مقهى الحي الذي أسكنه كعادتي، لاحظت مجموعات متفرقة على طاولات تلعب لعبة الورق بمختلف أنواعها، غارقة في حسابات الربح والخسارة، في المقابل تلفاز من النوع الرفيع يعرض لصورة الكون التي التقطتها وكالة الفضاء الأمريكية نازا بواسطة مسبارها جيمس ويب من سلالة تلسكوب هابل، لم يعر أحد من الحاضرين اهتماما لهذا المشهد العلمي بل كان الصراخ يتعالى وقهقهات النصر تصل إلى عنان السماء، وأصوات ضربات قاسية على الطاولات تُحْدِتُهَا لكمات أو راحة اليد من فينة لأخرى، مصحوبة بكلمات منتقاة من قاموس ألعاب الورق (أرشم، بواحد، بخمسة، بعشرة، روندة، ترينگة، سويفي، تريو، كوباس، باصدوص)، في هذه اللحظة بالذات كان الرئيس الأمريكي يعلن عن الفتح العظيم في ميدان الفضاء، وكانت الجماعات المنهمكة في لعب الورق تنتشي بنصرها أو تنعت الآخرين بالغش والتدليس، وما بين نصر بايدن ونصر فارس لعبة الورق وجدت نفسي أطرح السؤال: "هل نحن خير أمة أخرجت للناس؟؟؟".
ما بين الأمس واليوم تغيرت المشاهد وتحولت الريادة وتبدلت الأدوار، فأوربا التي عاشت عصورها المظلمة عشرة قرون متتالية من القرن الخامس، وبالضبط من سنة 476 م تاريخ سقوط روما على يد القبائل الجرمانية، إلى القرن الخامس عشر إبان سقوط القسطنطينية في 29 ماي 1453م على يد محمد الفاتح، دخلت عصورها المظلمة وتقوقعت على نفسها ضمن نظام اجتماعي اعتمد فئتين اجتماعيتين، النبلاء (ملاكو الأرض) المكونة من السيد والفرسان ورجال الكنيسة، والأقنان الطبقة العاملة في الأرض، واعتمد هذا النظام على ركيزتين أساسيتين اقتصادية وتعتمد على الأرض وتشريعية وتتمثل في الفكر الكنسي الذي كان الفكر المسيطر على جميع فروع المعرفة علمية كانت أم إنسانية أم اجتماعية، فرجل الكنيسة هو وحده المخول في الخوض في التنظير بفلسفة اعتنقتها الكنيسة وجعلتها الفكر الأسما الذي لا يعلو عليه فكر، كانت الفلسفة السكولاستيكية الكنسية تخوض في علوم الدين كما تخوض في علوم الدنيا، وكان العالم والأديب والمؤرخ وعالم الاجتماع وعالم الاقتصاد والطبيب هو رجل الكنيسة بامتياز، وكل قولة أو نظرية تبنتها الكنيسة تصبح نظرية مقدسة لا يمكن لأحد الخروج عليها، ومن يتجرأ على ذلك ينعت بالزندقة والهرطقة والكفر والإلحاد، وهي أحكام جاهزة تؤدي بصاحبها إلى القتل شنقا أو حرقا أو بتر الأيدي أو الأرجل أو الرجم بالحجارة أو السجن أو النفي وهلما جرا من صنوف التعذيب الوحشي الذي كانت الكنيسة تتفنن فيه باحترافية، والتاريخ يحتفظ لنا بعدة أمثلة في هذا الباب، ولعل تغيير فكرة مركزية الأرض بمركزية الشمس والتي جاء بها العالم والفزيائي الألماني يوهانس كيبلر، قلبت المفاهيم الفيزيائية التي كانت تعتمد عليها الكنيسة، ولقد عزز غاليلو هذا الطرح بنظريات جديدة في علم الفلك تقول بدوران الأرض، الشيء الذي جعل الكنيسة تقوم ضده وتحكم عليه بالكفر والإلحاد ليقضي بقية حياته سجينا في بيته بعد أن اعتذر للبابا أربان الثامن علانية وهو جاثم على ركبتيه أمام عرشه، لم يسلم العالم جوردانو برونو من الكنيسة أيضا حينا جاء بفرضية علمية جديدة، وصف الكون من خلالها على أنه لامتناهي أو "لا نهائي" هذه الفرضية العلمية التي جَرَّتْ عليه غضب الكنيسة حيث حاكمته لمدة تقارب ثماني سنوات مع تعذيبه عذابا شديدا لانتزاع اعترافه بعدم صدقية فرضيته، لكن بورونو ناضل من أجل إثبات فرضيته وكان مصيرة أن حكم عليه بالموت حرقا، ليس العلماء وحدهم من تعرضوا للمضايقة بل شملت هذه رجال الكنيسة نفسهم الذين كانوا يخالفون في الرأي الفلسفة الكنسية السائدة آنذاك، فجان ويكلف الذي قاوم فساد الكنيسة حكم عليه بالهرطقة وعاش معزولا منبوذا إلى أن مات ودفن في بهو الكنيسة، لكن الكنيسة قامت بأمر من البابا مارتن الخامس بنبش قبره وإخراج عظامه وحرقها، وألقي رمادها في نهر السويف، نفس المصير لاقاه المصلح الديني جان هيس انتقد الكنيسة انقادا شرسا ودعا إلى عدم تقديس البابوية، فحكم عليه بالإعدام بعد اتهامه بالهرطقة (الردة)، لم يسلم المصلح الديني الهولندي ديدي إيراسموس بعدما انتقد الرهبان المسيحيين لكونهم ظالمين وقساة استسلموا للخرافات حيث اتهم بالإلحاد وعاش منبوذا، جاء الدور بعدها على كل من كالفين سميث ومارتن لوتر اللذين قاما بثورة داخل الكنيسة واستطاعا شق الكنيسة بخلق ثيار جديد هو البروتستانتية ومعناها الاحتجاجية أي تيار ديني جديد في المسيحية يحتج على التيار التقليدي المعروف بالكاثوليكية، هذه الإصلاحات كان لها دور كبير في نزع شوكة التفكير اللاهوتي من الجسم الأوربي، وأن تجعل من العلم يستقل عن الدين وهو ما جعل أوربا تعرف نهضة في القرن السادس عشر إضافة إلى عصر الأنوار الذي كان ثورة فكرية ثانية أخرجت أوربا من سطوة الفكر الكنسي اللاهوتي، لا يمكن بالطبع أن نجزم أن ثورة كالفن سميث ومارتن لوثر وحدها هي ما أدى إلى دخول أوربا في عصور جديدة أدت في النهاية إلى تفوق حضارتها على باقي الحضارات في العالم، ولكن يمكن القول أن هذه الثورة إلى جانب ثورات أخرى كالثورة الفرنسية والثورة الصناعية والثورة الأمريكية بشقيها الشمالي واللاتيني والثورة البولشفية إضافة إلى ثورة فكرية قادتها الفلسفة وعلم الاجتماع والتاريخ، كلها تظافرت من أجل خلق دينامية علمية أفضت في النهاية إلى سيطرت الفكر العلمي بشقيه المادي والإنساني على باقي أنساق التفكير الأخرى، هذا الفكر الذي بسط سطوته على الاقتصاد والسياسة والاجتماع ليبني مؤسسات المجتمع المدني وفق آليات جديدة مؤطرة بنظريات علمية وفلسفية مخالفة لما كان سائدا في العصور الوسطى الأوربية. وعلينا أن لا ننسى دور الفلسفة الجديدة التي انطلقت من الإنسان وجعلته محوريا في إشكالياتها حيث كانت الأنسنة بكل نظرياتها هي ما قدمت للإنسان الأوربي حقوقه التي ستعرف فيما بعد بحقوق الإنسان، فالسياسة والقانون أصبحا مطابقين لهذه الفلسفة وأصبحا ينهلان كل جديدهما منها، وعلى العموم وبعد خلق محاكم التفتيش خصيصا لمحاكمة العلماء ورجال الدين، حكمت تلك المحاكم على تسعين ألفًا وثلاثة وعشرين عالمًا بأحكام مختلفة في الفترة ما بين سنة 1481م إلى سنة 1499م، أي في غضون 18 سنة، كما أصدرت قرارات تُحرِّم قراءة كتب جيوردانو برنو، ونيوتن لقوله بقانون الجاذبية، وتأمر بحرق كتبهم، وقد أحرق بالفعل الكاردينال إكيمنيس في غرناطة 8000 كتابًا مخطوطًا لمخالفتها آراء الكنيسة.
فظلامية الفكر الكنسي اللاهوتي إدن كانت مع كل الأسف مبنية على الإرهاب الفكري والجسدي، لا على الإقناع العلمي الذي يقارع الحجة بالمنطق، وديكتاتورية الفكر الكنسي خلقت مجتمعا خانعا مستسلما مشلول التفكير غير قادر على الخلق والإبداع، فهل استفاد العرب والمسلمون من هذا المعطى؟ وهل حاولوا تفاديه من أجل نهضة علمية عربية إسلامية تجعلنا نتلافى كل الأخطاء السابقة ونبني عليها من أجل تصحيح مسارتنا الفكرية؟ أم علينا أن ندخل نفس النفق الذي مرت منه أوربا خلال ألف سنة خلت؟ لربما الجواب عن هذه الأسئلة يكمن في حالنا المزري الذي نعيشه والأجوبة البليدة التي نعلق بها عندما تأتينا أخبار اكتشافات علمية جديدة، فمؤخرا حينما وصلنا خبر الاكتشاف العلمي الذي أعلن عنه الرئيس الأمريكي ذهب علماؤنا الأجلاء ليبحثوا في القرآن الكريم عن آيات تليق بالحدث، فكان على مقاسات علماء أرادوا لهذه الأمة أن تبقى جامدة مشلولة العقل والتفكير حيث علقوا على الصورة بجزء من الآية 12 من سورة فصلت "وزينا السماء الدنيا بمصابيح" متغافلين عن آية غاية في الأهمية من القرآن الكريم: "يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا في أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان" سورة الرحمن الآية 33، هذه الآية التي تُؤَوَّلُ كلمة سلطان فيها عند المفسرين بالعلم وأنا أقول دائما أن المقصود الإلاهي لكلمة سلطان هو العقل، فالمفسرون لا يريدوننا أن نُعْمِلَ عقلنا بل يذهبون بعيدا إلى العلم كمعطى جاهز على العلماء أن يخوضوا فيه دون استعمال عقلهم، واستعمال العقل هو ما يقض مضجع هؤلاء العلماء، لأنه مع استعمال العقل يبدأ طرح السؤال، ومع طرح السؤال تبدأ الحقيقة في الكشف عن مكنوناتها، وهذا هو البعبع الذي يخيفهم كما أخاف من قبلهم رجال الكنيسة، هؤلاء العلماء هم ورثة فقهاء الظلام الذين حَرَّضُوا على قتل الطبري الذي قضى آخر أيامه معزولا في بيته لاضطهاد الحنابلة له حتى لقي ربه، وقاموا بضرب الحلاج بالسياط نحوا من ألف سوط وقطعت يداه ورجلاه وضربت عنقه وأحرقت جثته بالنار ونصب رأسه للناس على سور الجسر الجديد وعلقت يداه ورجلاه إلى جانب رأسه، وأرغموا المعري على حبس نفسه لكثرة ما تعرض له من مضايقات وانتقادات ناتجة عن فكره، وأحلوا سفك دم جابر بن حيان وحرقوا كتب الغزالي وابن رشد والأصفهاني، ونفوا أبو الحسن ابن المنمر واستباحوا جميع أملاكه، وعُذِّبَ كثير من أقاربه بسببه، وكفروا الرازي وابن سينا والفارابي والغزالي والكندي وقطعوا أوصال ابن المقفع وقاموا بشيها أمامه وأرغموه على أكلها قبل أن يفارق الحياة، كما ذبحوا الجعد بن درهم يوم عيد الأضحى، وعلقوا رأس احمد بن نصر الخزاعي و مدوه و ضُرِبَ عنقه، وحملوا رأسه إلى بغداد، فنصب بالجانب الشرقي أيامأً، وفي الجانب الغربي أياماً، وقتلوا لسان الدين ابن الخطيب خنقا وأحرقوا جثته، وقصص أخرى كثيرة لعلماء وفلاسفة ومفكرين، فالفكر وحده هو ما كان يخيفهم ويلجؤون إلى كل السبل الشرعية وغير الشرعية من أجل إسكات أصحابه، ولا زلنا إلى يومنا هذا نسمع عن قصص اغتيال علماء ومفكرين على أيدي شبان استغلتهم آلة الإرهاب الظلامية وجندتهم ليصبحوا قنابل بشرية موقوته تنفجر في وجه المجتمع وعلمائه في كل لحظة وحين، آلة الإرهاب هاته ترى أن فكرها هو الفكر الجدير بالبقاء والأفكار الأخرى هي أفكار إلحادية وجب قتل معتنقيها ولا خيار ثالث إلا ما سبق.
فظلاميتهم إدن وظلاميتنا هي معضلة الإنسان في كل زمان ومكان، لا فرق بينها سوى في التسميات، فحينما يسود الفكر الظلامي فاعلم أن العلم سيصبح هو العدو الأول وأن العلماء سيعيشون في محنة كبيرة وسيكون الضحية الأول والأخير هو الإنسان الذي سيعمل الظلاميون على شل تفكيره من أجل استغلاله والظفر بالغنيمة الكبرى، ففي كل مجتمع يكمن الشر في الفكر الظلامي، وفي كل مجتمع لا زلنا نعيش مأساة الاغتيالات للعلماء والسياسيين الذين حملوا على عاتقهم مشعل تنوير الإنسانية ولا يمكن القضاء على الفكر الظلامي إلا بالفكر المستنير الذي هو نتاج العلم والتفكير الإنساني المتحرر من قيود التعصب والتطرف، فتشجيع العلم والرقي بالمدرسة أصبح من أوجب الواجبات التي على الدول إعطاءها الأولوية لتخريج أجيال متشبعة بأفكار التسامح، فالدين لم يخلق يوما ليفرق الإنسان عن أخيه الإنسان بل هو تحرر من قيود الجاهلية التي احتقرت الإنسان، وليس العدو هو من يعتنق دينا غير ديني بل العدو هو من يعتنق فكرا يكفر الجميع.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شاهد: المسيحيون الأرثوذوكس يحتفلون بـ-سبت النور- في روسيا


.. احتفال الكاتدرائية المرقسية بعيد القيامة المجيد | السبت 4




.. قداس عيد القيامة المجيد بالكاتدرائية المرقسية بالعباسية برئا


.. نبض أوروبا: تساؤلات في ألمانيا بعد مظاهرة للمطالبة بالشريعة




.. البابا تواضروس الثاني : المسيح طلب المغفرة لمن آذوه