الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مقابر و منازل (2)

خليل قانصوه
طبيب متقاعد

(Khalil Kansou)

2022 / 7 / 19
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


لقد تحولت و تغيرت مقبرة القرية ، بل أكاد أقول أنها تنكرت لأصلها فتبدو صلة الوصل المعروفة ، بين القرية و المقبرة ، مضطربة يعتريها الغموض ، فكأن القرية قحلت و ان المقبرة أرض مبوّرة تتسع باستمرار ، حيث صارت تغمر اربعة اضعاف مساحة المقبرة ما قبل الطوفان . بكلام آخر تحولت إلى مقبرة توسعية بلاحدود ، مثل الكثير من أوجه العيش و مظاهره التي باتت ميزتها الرئيسية في هذا الزمان ، المبالغة غير المحدودة و اللامنطق ، و الغرابة .
يصعب على المرء أن يتخيّل المساحة التي من المحتمل أن يغمرها " طوفان مقبرة " القرية في الخمسين سنة القادمة . فتمددها متواصل دون توقف ، إلى حد أنها اقتربت من البيوت في قلب القرية القديمة ، الأصليبة و باتت تهدد حواكيرها . رُصّت القبور الرخامية رصا فلم تُترك بقعة للعشب او لشجر السرو و الكينا ، ناهيك من أن بعض الفراغات بين القبور رصفت هي أيضا بالبلاط .طبعا ردمت بئر الحمير ، فلقد خلت القرية تقريبا من الماشية و غيرها من الحيوانات الأليفة.
تبدل القبر شكلا و باطنا ، حيث استبدل الحجر الصخري بالحجر اللإسمنتي في بناء تجويف المدفن و بالتالي ضاقت الشقوق في سطحه و جدرانه عما قبل .
و اللافت للإنتباه أيضا في مقاربة هذه المتغيرات التي طرأت على مخطط المقبرة ، أو ما أسميناه " المجمّع " ، هو تشييد نادِِ حسيني ثانِِ ، . أ غلب الظن أن ذلك تحقق بمساهمات مالية و عينية ( مواد بناء ) قدمها اشخاص أثرياء و مؤسسات إجتماعية و تجارية و سياسية ، ليس من سكان القرية و حسب وإنما من خارجها أيضا ، على عكس النادي الأول الذي تحمّل كلفة بنائه السكان العاديون ، الفلاحون و صغار الموظفين ، بالعملة الوطنية .
تجدر الملاحظة في هذا السياق ، انه ليس مستغربا ، منذ سنوات 1980 ، توازيا مع تراجع قوات الإحتلال و انسحابها ، أن يرى المرء صورة " الزعيم " معلقة على الحائط في صدر النادي ، فوق المنبر و فوق رأس المتكلم في مناسبة دينية أو غير دينية ، خصوصا و أن التماهي بين السلطة الدينية و سلطة الحكم بلغ منذ ذلك التاريح أقصى درجاته . تحسن الإشارة أيضا إلى أن قوات الغزو دخلت قرى جبل عامل و نواديها و أعتقلت أبناءها في معسكر التجميع الذي أقامته على ارض بلدة إنصار ، و هدمت في كل قرية تقريبا ، عددا من المنازل إرهابا .
نصل بعد استعراض هذا المشهد ، بين اليوم و الأمس ، إلى تحديد الإشكالية التي قادت إليه و إلى تلمس انعكاساته على مجتمع القرية نفسها التي ألمحنا إلى أنها قحِطت ، شأنها في ذلك شأن البلاد عموما . و لكن كما نبهنا أعلاه إلى أننا لا ندعي الإلمام بعلوم لا نلم بها ، و أن ما نحن بصدده هو مقاربة " مواطنية " إذا جاز التعبير ، انطلاقا من فرضية أن ما نثيره من تساؤلات تعني المواطن عموما ، ينبني عليه أن دراستنا لا تعدو كونها مقدمة للنقاش و الحوار . فنحن لا ندعي أن أراءنا علمية مثبتة و مؤكدة.
يحق لنا إذن أن نتساءل أين سيتوقف تمدد المقبرة ، فهل يعقل أن تسير الأمور على هذا المنوال دون البحث عن حل عقلاني ؟ السؤال الثاني هو عما إذا كان يوجد حجة أو مبرر للإستغناء عن الشجر و عن الحجر الصخري في هيكلة السرداب الداخلي للقبر ، يشمل السؤال أيضا رصف الممرات بالبلاط ؟ و هذه كلها عوامل تطيل مدة احتباس الرطوبة و العفن في التربة . و هناك سؤال ثالث ذو صلة ، بخصوص النادي الحسيني الثاني الذي تظهر عليه ، دون شك في ذلك ، معالم فخامة السلطة الدينية ، أضف إلى التبرعات جاءت في أغلب الظن من جهات بعضها " لا يُعرف من اين لها هذا "
خلاصة القول في هده النقطة ، أن مسألة المقبرة هي في الوقت نفسه مسألة مؤهلات لتولي الإدارة و التنطيم . أما فيما يتعلق بالناديين ، فإنهما يعبران عن الإزدواجية المعروفة ، الموروثة ، عائلتان ، حزبان ، سلطتان ، و عن ميل معروف أيضا إلى طلب المساعدة من أية جهة بصرف النظر عن أصلها و فصلها و عن مصادر لأموالها ، وعدم الإعتماد على النفس .
يمكننا توازيا مع المتغيرات و المتبدلات التي استوقفتنا في هذا البحث ، أن نلاحظ انعكاساتها في خطط البناء و التنطيم المدني . فاللافت للنظر أن السكان يهجرون القرية القديمة الأصلية و يطلبون السكن في منازل جديدة مبنية على الأراضي الزراعية ، و أحيانا على أراض كانت مشاعا ، مخصصة لرعي الماشية . مجمل القول أن منازل الأحياء تقام على الارض الزراعية في حين أن حواكير البيوت القديمة تركت للموتى .
تتوجب الإشارة هنا إلى أن الكثير من المنازل تبدو من الخارج جميلة و فخمة ، ولكنها لا تكون احيانا متناسقة مع المهنة التي يمارسها المالك . بعضها يشبه القبور الرخامية ، المزركشة ، خصوصا تلك التي يحيط بها سور عال تضيئه ليل نهار عشرات المصابيح الكهربائية التي يغذيها مولد خاص ، بينما بيوت الناس من حوله غارقة في ظلام دامس .
و في مختلف الأحوال ، فإن إحتلال الأراضي الزراعية و مراعي الماشية ، حفّض الإنتاج الزراعي إلى أدنى مستوى ، أضف إلى أن سوء توزيع مياه الشفة ، شجع ،كما هو الحال في مسألة الطاقة الكهربائية ، القبضايات على استخراج المياه الجوفية ، و هي بالقطع ملوثة ، و بيعها للناس .
نحن لا نملك معلومات بيانية موضوعية عن الوضع الصحي ، و لكن على الأرجح ان المتوسط العمري في البلاد تراجع ، بسبب المواد الإستهلاكية العديمة الجودة ، يتجسد ذلك بازدياد الأصابة بالاورام الخبيثة و بامراض الشرايين ، ناهيك من تأثير تلوث البيئة على الصحة نتيجة عدم معالجة النفايات ، وخصخصة الكهرباء والمياه ، لصالح اصحاب الصهاريج و المولدات .(انتهى)










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. محمود ماهر يخسر التحدي ويقبل بالعقاب ????


.. لا توجد مناطق آمنة في قطاع غزة.. نزوح جديد للنازحين إلى رفح




.. ندى غندور: أوروبا الفينيقية تمثل لبنان في بينالي البندقية


.. إسرائيل تقصف شرق رفح وتغلق معبري رفح وكرم أبو سالم




.. أسعار خيالية لحضور مباراة سان جيرمان ودورتموند في حديقة الأم