الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


وخلقنا من الماء كل شيء حي ؟

سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي

(Saoud Salem)

2022 / 7 / 19
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


أركيولوجيا العدم
العودة المحزنة لبلاد اليونان
١٠ الماء أصل الكون

بطبيعة الحال، لابد أنه وُجِد قبل طاليس من فكّر وحاول تحليل نفس الظواهر التي كانت تحيّر المجتمع اليوناني آنذاك، فمن غير الممكن أن تولد ظاهرة مثل الفلسفة، هكذا تلقائيا ذات يوم من عقل إنسان واحد مهما كانت درجة وعيه الفكري وحدة بصيرته وحدسه، الفلسفة ليست وحيا من السماء وإنما تطور مستمر وتدريجي للفكر الإجتماعي السائد - الديني والأخلاقي والسياسي والأسطوري والفني .. إلخ، وطاليس بدأ في بناء ونسج شبكته النظرية من المواد المتاحة له والتي وجدها أمامه على الساحة الفكرية. الإعتقاد السائد في ذلك الوقت هو أن العالم المادي المحسوس يتكون حتما من عناصر أولية متواجدة في أغلب الظواهر التي تشكل العالم، وعناصر مثل الماء أو البخار والنار والطين والهواء كانت غالبا ما تشكل مدخلا لفهم الظواهر الكونية العامة وترتبط عموما بالظواهر الطبيعية الكبرى كالفيضانات والحرائق والبراكين والعواصف والزلازل وغيرها من الكوارث. وطاليس لاشك أنه كان يبحث عن نظام كوني غير الذي تخيله وصممه الشعراء ونقله هزيود وهوميروس. فهذا التعدد والتشتت النظري لا يتناسب مع ما نشاهده في الطبيعة من ثبات وإستمرارية، وبالتالي لا بد من وجود أصل أو عنصر واحد تتوحد فيه كل الظواهر والكائنات. فإذا كانت الأشياء في حركة دائمة، تتغير وتتبدل وتتشكل من جديد بدون إنقطاع فلابد من وجود سبب ثابت لهذا التغير المستمر. وكعالم طبيعي، لاحظ طاليس بدون شك، أن الماء والبخار والثلج والسحاب والمطر والأنهار والمحيطات ترجع جميعها إلى عنصر واحد، فلماذا لا يكون عنصر الماء هو مصدر كل الكائنات الأخرى، وبالذات حين لاحظ وجود الماء في تركيب كل الكائنات الحية.
فكرة الماء لم تكن فكرة سيئة على الإطلاق، لأن للماء إرتباط حقيقي بالحياة عموما، وكل الكائنات الحية تحتاج للماء والرطوبة وإلا مصيرها الموت والجفاف. ولا شك أن طاليس لم ينزل عليه الوحي ليكتشف هذه الفكرة النيرة، فالكثير من التفسيرات الأسطورية للكون تعطي لعنصر الماء دورا أساسيا مثل الأساطير البابلية والمصرية، لأن كلتا الحضارتين أعتمدتا على الماء وعلى الأنهار لتنمو وتقوى إقتصاديا وسياسيا. النيل ودجلة والفرات كانت عناصر أساسية في قصص الخلق والتكوين السومرية والبابلية والفرعونية. "آن" أو "آنو" أول إله ولد من البحر في الأساطير البابلية، وهو يمثل السماء العليا أو قبة السماء، ثم أختلط بالأرض "كي" لينتجا "إنليل" إله الهواء. في البداية كان العالم في عتمة مطلقة وظلام دامس، "إنليل" ظل حبيسا بين هذا الليل الأبدي بلا نجوم وبين سطح الأرض، حتى أنجب القمر "نانا" أو "سين"، والذي كان يركب زورقه كل يوم ليجلب الضاء إلى السموات، ثم أنجب "شمش" و"إنانا" أو عشتار آلهة الحب والحرب.
ولكن عنصر الماء له حضور أيضا في الحضارة اليونانية ذاتها، عند هزيود وهوميروس، فإن أوقيانوس، أقوى التيتان كان يجسد الماء المحيط بسطح الأرض وهو واهب الحياة. وحسب ما رواه بلوتارخ، فإن الكهنة المصريون يشيرون عادة إلى أن هوميروس وطاليس قد أستلهموا أفكارهم حول الماء من مصر. ولكن الذي يجب الإشارة إليه هو أن طاليس، إن كان حقا على دراية بالأساطير المصرية، وهو أمر شديد الإحتمال، إلا أنه خلص هذه الفكرة من جانبها الأسطوري والخرافي، فالماء الذي يتحدث عنه طاليس هو الماء الطبيعي الذي يمكن أن نشربه أو نسقي به النباتات الزراعية، هو ماء العيون والأنهار والبحار التي يمكن السباحة فيها أو الملاحة على سطحها، ولا علاقة له بالآلهة أو بالأرواح. رغم وجود بعض الآراء المغايرة والتي تريد ربط فكرة الماء عند طاليس بنوع من الرمزية الميثولوجية وأنه لا يجب النظر إلى الماء بالمادة السائلة المعروفة، وإنما يجب إعتباره رمزا يعبر عن عنصر أولي مبهم ومجرد مثل عنصر الخواء Chaos عند هزيود، وهو في رأينا رجوع للفكر ما قبل القلسفي، حيث كان العالم يتكون من عنصرين هما الأرض والخواء والذي يربطب بينهما عنصر ثالث هو الحب أو الإنجذاب وهي الفترة التي كان يختلط فيها اللوغوس بالميثولوجيا، والتي تجاوزها طاليس لأول مرة في تاريخ الفكر البشري.
وبنفس المنطق قال طاليس بأن الأرض ترتكز على الماء الذي يحيط بها، فالأرض يمكن أن تطفو كالخشب ويمكنها الإرتكاز على الماء، ولم يكن يستطيع أن يتخيل بأنها معلقة تعوم في الفراغ أو مرتكزة على الهواء، بل هي مثل سفينة راسية وسط المحيط. وكان من السهل على أرسطو فيما بعد أن يرى الشرخ والخلل في هذا المنطق الطفولي، إذا كانت الأرض ترتكز على الماء، فعلى ماذا يرتكز الماء ؟
كان طاليس يقضي أغلب وقته في الدراسة والإستكشاف ومراقبة السماء لدرجة سقوطه ذات يوم في حفرة وهو يراقب النجوم حسب ما تقول الأسطورة. وتعزو إليه الروايات المتواترة إدخال العلوم الرياضية والفلكية إلى بلاد اليونان. فعندما كان في مصر لدراسة الرياضيات تمكن من حساب ارتفاع هرم خوفو بقياس ظله في الفترة التي يكون فيها ظل أي شيء مساوياً لطوله، مستخدما طول قامته كوحدة قياسية لحساب ظل الهرم الأكبر، حسب نظرية تشابه المثلثات. ونتيجة لهذا العمل الدقيق فتحت السلطات الدينية المصرية أمامه أبواب المكتبات مما مكنه من دراسة العلوم المصرية من فلك ورياضيات وهندسة وزراعة. ولما عاد إلى أيونيا واصل دراسة الهندسة النظرية، وبحوثه في الحساب والرياضيات والفلك وطور طريقته في الإستدلال العلمي، وشرح كثير من النظريات التي جمعها إقليدس فيما بعد. وكما أن هذه النظريات كانت الأساس الذي قام عليه علم الهندسة النظرية اليونانية، كذلك كانت دراسته لعلم الفلك الأساس الذي قام عليه هذا العلم في الحضارة الغربية، بعد أن خلصه من التنجيم الذي كان له أهمية دينية كبرى في الشرق.
وتمكن بالـ"تنبؤ" أو بالأحرى حساب الوقت الذي سيحدث فيه كسوف الشمس، في الثامن والعشرين من شهر مايو 585 ق.م، والراجح أنه قد استند في حساباته على معلوماته المستقاة من السجلات المصرية وعلى الحسابات الفلكية البابلية، ويؤكد غوتليب في كتابه "حلم العقل" بأن طاليس لم يتنبأ بهذه الحادثة الفلكية وإنما "كان الأمر محض إفتراض مستنير مبني على معلومات"، وأن طاليس بعد إطلاعه على السجلات البابلية والفرعونية أستنتج بأن "هناك فرصة كبيرة لحدوث كسوف في مكان ما في وقت ما خلال عام ٥٨٥ قبل الميلاد. ولو أدعى طاليس أكثر من ذلك لأعتبره الناس دجالا". طاليس لم يكن فقط فيلسوفا نظريا، بل كان مهتما بالعلوم التطبيقية ويعتمد كثيرا على التجربة والملاحظة لبناء نظرياته، فكان كما سبق القول مهتما بالفلك وتسجيل حركات النجوم ومواقعها وذلك لإستخدامها في الملاحة، ويعتقد البعض بأنه هو الذي قسم السنة إلى الفصول الأربعة وحدد عدد أيام السنة ب ٣٦٥ يوما، وكذلك العديد من الأخبار الخاطئة والخرافات التي نسبت إليه بدون سند وثيق، وذلك لشهرته الكبيرة في ذلك الوقت.
أما فيما عدا هذا فإن نظريته في نظام الكون لا تختلف كثيراً على ما كان شائعاً عن هذا النظام عند المصريين والبابليين، فقد ظن أن العالم يتكون من نصف كرة يرتكز على منبسط من الماء لا نهاية له، وأن الأرض قرص مستوي طافٍ على السطح المستوي في داخل هذا الجسم النصف كروي، أي أن الأرض تشبه السفينة العائمة في المحيط، وأن سبب الزلازل هو الموج الناتج عن إهتزاز الماء. وقد حاول بإمكانياته المحدودة ذلك الوقت تفسير بعض الظواهر الغريبة مثل القوة المغناطيسية لبعض المعادن وكهرباء الإحتكاك أو الرائحة المنبعثة من أحجار الكهرمان أو العنبر. فالكهرمان هو عبارة عن مواد عُضويَّة نباتيَّة تحجرت مُنذ آلاف السنين من إفرازات صمغية لأشجار صنوبريَّة. ولا تُعتبر أحجار الكهرمان من الأحجار الكريمة المعدنيَّة التقليديَّة حيث إنَّها تكونت أساسا من مواد عضويَّة. يمتاز الكهرمان بكونَّهِ هشاً بالرغم من تركيبه الحجري وتنبعثُ منه رائحة الصنوبر عندما يتم إحراقه أو بمجرد فركه باليدين، كما يمكن أن تحتوي بعض أحجار الكهرمان على حشرات ومخلوقات مُنقرضة ألتصقت بالمادة الصمغية قبل أن تتحجر. وقد أطلق عليه اليونانيون إسم élektron - ἤλεκτρον - إيليكترون، وهو أصل كلمة "électricité - كهرباء"، وذلك بعد اكتشاف طاليس للخصائص الكهروستاتيكية للعنبر (كهرباء الاحتكاك). وأعتقد طاليس أن هذه العناصر القادرة على تحريك الأشياء وجذبها نحوها هي عناصر حية، حيث في رأيه أن الحركة التلقائية علامة من علامات الحياة.

يتبع








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - وجعلنا من الماء
كامل النجار ( 2022 / 7 / 19 - 14:19 )
أنا أقرأ أغلب مقالاتك وأجدها مفيدة جداً. استمر في التنوير. الآية القرآنية تقول (وجعلنا من الماء كل شيء حي). ولبس -خلقنا- كما ورد في المقال.
تحياتي لك


2 - شكرا على التصحيح
سعود سالم ( 2022 / 7 / 19 - 17:33 )
السيد كامل النجار ، شكرا على المتابعة وعلى التشجيع الذي نحتاج إليه، والذي .يجعلنا نتأكد من أننا نقوم بشيء له بعض الفائدة لهذا المجتمع.
وشكرا على تصحيح عنوان الموضوع، فقد أردت فعلا ذكر هذه الآية في البداية للتأكيد على أن هذه الفكرة ليست جديدة كما هو واضح في سياق النص
وشكرا مرة ـخرى ودمتم بخير

اخر الافلام

.. فيضانات عارمة تتسبب بفوضى كبيرة في جنوب ألمانيا


.. سرايا القدس: أبرز العمليات العسكرية التي نفذت خلال توغل قوات




.. ارتقاء زوجين وطفلهما من عائلة النبيه في غارة إسرائيلية على ش


.. اندلاع مواجهات بين أهالي قرية مادما ومستوطنين جنوبي نابلس




.. مراسل الجزيرة أنس الشريف يرصد جانبا من الدمار في شمال غزة