الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أناكسيماندر وتحرر العقل

سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي

(Saoud Salem)

2022 / 7 / 21
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


أركيولوجيا العدم
العودة المحزنة لبلاد اليونان
١١ أناكسيماندر

أناكسيمندريس Ἀναξίμανδρος / Anaxímandros - من أتباع طاليس، وليس مؤكدا بأنه كان تلميذا له، عاش في ملتية ما بين ٦١٠و٥٤٦ قبل الميلاد، وكان متعدد المعارف مهتما بكل شيء، ورغم أنه لم يبق مما كتبه سوى جزء من عبارة من كتاب "عن الطبيعة"، فثمة أدلة كافية على تأليفه لهذا الكتاب الموسوعي، بالإضافة إلى رسمه لخريطة تمثل الأجزاء المعروفة للأرض في ذلك الوقت. أناكسيماندر كان عقلا لا يكف عن البحث ولا يكل عن التساؤل في كل كبيرة أو صغيرة تتعلق بنشأة الكون والمباديء التي تتحكم في الظواهر الطبيعية وتركيب الشمس والقمر والنجوم وتأثيرها على الطقس والرياح والعواصف وغيرها من الظواهر التي كانت تهم مجتمعا بحريا يعيش معتمدا على الصيد والتجارة والتنقل البحري.
الفكرة الأساسية التي أتى بها أناكسيماندر هي أن الأسباب الحقيقية للظواهر ليست بالضرورة مدركة مباشرة بالعين المجردة، وأن تفسير الطبيعة والظواهر الطبيعية لا يعتمد دائما على الملاحظة المباشرة للأشياء.
ولم يكن متفقا مع طاليس على فكرة المبدأ أو العنصر الأول أو الوحيد كمصدر للعالم، إذا كان أصل كل الأشياء من الماء، فكيف تكونت النار ؟ لذلك تفتق ذهنه عن فكرة جديدة وهي أن الظواهر الأساسية مهما كانت متناقضة قد تكونت معا من المادة غير المحدودة واللانهائية بدون أفضلية مادة على أخرى. فهو يعتقد بأنه لو كان الماء أصل كل شيء لتحول العالم والكون بكامله إلى سائل أو بخار، ومن غير المنطقي في نظره أن يتحول الشيء إلى نقيضه بدون سبب. وذهب إلى أن أصل الكون ومصدر كل الأشياء لابد من أن يكون شيئا خارج هذه العناصر المادية المعروفة، ذلك أن خصوصية كل من هذه العناصر يشكل عقبة في إمكانية تحوله إلى العناصر الأخرى. ولذلك ظل يبحث عن جديد، شيء غير محدد وغير متناه لافي الكيف ولا في الكم، ويتميز بالثبات في نفس الوقت، ويختلف إختلافا نوعيا عن الكثرة المتغيرة المتناهية.
وقد أرجع الأشياء والكون إلى عنصر واحد سماه الأبايرون ἄπειρον / apeiron والذي يعني اللامحدود واللامتناهي واللامعّين، والأبايرون عنصر لا يمكن إدراكه بالحواس ولايمكن تحديده إلا سلبيا، فهو المادة ذاتها متصفة بصفات اللانهائية واللامحدودية والحركة الدائمة، أي أنها ذات خصائص لا يمكن إدراكها بالحواس مباشرة حتى يتسنى تفسير بقية الظواهر المادية المدركة بالحواس وفقا لها. فالأبيرون إذا مادة لا محدودة في الكيف ولا في الكم، ومن هذه المادة الأولية الغامضة "تنفصل" الأضداد، كالساخن والبارد، الجاف والرطب .. إلخ، ومن البارد نشأت الأرض ومن الساخن تشكلت النجوم. والأرض عبارة عن قرص مسطح أو إسطوانة غير كروية، بينما الشمس والقمر والنجوم تشبه عجلات من النار تدور حول الأرض محاطة بحلقات مجوفة من الضباب. والأرض من ناحية أخرى لا تستند على أي شيء، بل ثابتة في الفراغ مستندة على مركز الكون الذي يدور حوله كل شيء، بنوع من التوازن المحوري الميكانيكي أو الرياضي الذي يفسر عدم سقوط الأرض في الفراغ. وقد تخيل نشأة الحياة على الأرض بطريقة عقلية رائعة بعيدا عن الآلهة والخرافات والقوى الخارقة للطبيعة، فقد نشأت كل الكائنات الحية تلقائيا من المادة الدافئة الرطبة المنبثقة من الضباب البدائي الناتج عن الصراع بين الساخن والبارد. وقد بقيت هذه الفكرة منتشرة في الفكر الفلسفي الغربي حتى القرن التاسع عشر، حين جاء العلم بوسائل وإمكانيات جديدة. وتذهب بعض الروايات التي تبالغ في حدة بصيرة وذكاء أنيكسيماندر لدرجة القول بأنه أستبق نظرية التطور ونُسب إليه القول بنشأة الإنسان وتطوره من كائنات مختلفة النوع، لأنه كان يعتقد بأن الإنسان البدائي قد نشأ في أحشاء الأسماك.
وإذا كان ستيفين هوكنغ stephen Hawking في كتابه The Grand Design يدافع عن فكرة عدة عوالم وأكوان متعددة Multiverse، فإن أناكسيماندر كان يبشر بذلك أيضا منذ أكثر من خمسة وعشرين قرنا وقال بوجود عوالم لا حصر لها تولد وتتلاشى إلى ما لانهاية، وإن كان بصورة مغايرة بطبيعة الحال لنظرية تعدد الأكوان المعاصرة. وقد شاركه أناكسيمينيس في الدفاع عن نظرية العوالم المتعددة، وأقر بدوره وجود عدة عوالم، تولد وتتلاشى أو تموت في اللامتناهي الأبدي، وإن كان هناك خلاف بين المؤرخين حول طبيعة هذه العوالم المتعددة، هل هي متوازية أم متتابعة. عبد الرحمن بدوي يقول بهدا الخصوص : " أصح الآراء في هذا الصدد وأكثرها إحتمالا هو القول بأن هذه العوالم لا توجد معا وإنما هي توجد متتابعة، فإذا فني الواحد وجد الآخر الذي يليه وهكذا باستمرار" وذلك لأن أناكسيماندر يقول بأن الولادة تقتضي الفناء والكون يقتضي الفساد، فكل عالم يولد يقتضي أن يفنى ليولد عالم جديد، فهذا ما تقتضيه "العدالة"، من حيث أن الفناء تكفير عن خطيئة الوجود لأن الوجود يتطلب طرد موجود قائم والحلول محله.. تولد هذه العوالم بواسطة حركة أزلية تتكرر إلى الأبد والتي ينتج عنها ظاهرة "الإنفصال"، وهي الحركة الديناميكية التي تنبثق منها الأشياء، وأول ما ينشأ عن هذا الإنفصال من الآبايرون اللامحدود هو الحار والبارد، هذه الأضداد يؤثر أحدهما في الآخر بعد الإنفصال وينتج عن تقابلهما كل الظواهر الطبيعية الأخرى حسب قانون واحد هو "العدالة - Diké - Δίκη "، أو التوازن بين العناصر المتناقضة لتشكل في النهاية "الكل"، أي كل الكينونة.

يتبع








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. سيناتور أمريكي لنتنياهو: نقف بجانب إسرائيل في حربها ضد حماس


.. نحو نصف الديمقراطيين يدعمون استبدال الرئيس الأمريكي جو بايدن




.. ناشط يوثق اشتعال النيران في مستوطنة -كفار عتصيون- شمال الخلي


.. فوضى في شوارع العاصمة الهندية جراء سقوط أمطار قياسية




.. منافسو الرئيس الموريتاني يتهمونه باستغلال موارد الدولة لتحقي