الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سوسيولوجيا الخبرة: الباحث الجامعي والخبير (الجزء1)

نورالدين لشكر
باحث

(Noureddine Lachgar)

2022 / 7 / 24
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


تقديم:

    يساهم البحث العلمي بشكل قوي في تطور وتقدم المجتمعات، فمن خلاله يمكن حل مختلف المشكلات الاقتصادية والإجتماعية والتقنية، الشيء الذي تساهم فيه بشكل أكبر العلوم الإنسانية والاجتماعية، وقد أبانت المجتمعات الحديثة عن لهاته العلوم لتنظيم شؤونها وتحقيق تنميتها وتقدمها، وهو ما تمظهر مؤسساتيا من خلال مراكز وجامعات، استشارات وخبرات، هذه الأخيرة ستفرض نفسها بسبب التغيرات التي يعرفها المحيط السوسيواقتصادي، فالمؤسسات الحديثة عمومية/خاصة، من أجل إنضاج قراراتها وعقلنتها ستلجأ إلى مستجدات البحث العلمي عبر استشارات وخبرات تجريها مكاتب للدراسات أو مراكز للتفكير، فأصبحت العلوم وتحديدا الاجتماعية منها تتمظهر من خلال صورتين تبدوان متناقضتين أملتهما طبيعة المجتمع الحديث، فإذا كانت الجامعة هي القلعة الأساسية للدراسات والأبحاث العلمية، فإن المؤسسات التي تشرف على القطاعات الاجتماعية أو المالية أو تلك التي تعنى بالتنمية، ستدفع بقوة نحو استخدام آخر مستجدات البحث العلمي لتجويد قراراتها، فالوضع الاجتماعي المعقد مثلا، يعيق مجموعة تدخلات تروم تحقيق التنمية، وهو ما يرفع من الطلب على الخبرة، وأمام هذه الوضعية ستترسخ وضعية التناقض والقطبية تلك، بين جامعات تختص بالبحث العلمي وراكمت الشيء الكثير من الدراسات والأبحاث[1]، ومؤسسات محلية أو دولية تمول الخبرة والدراسات التطبيقية، وإذا كان هناك من يفترض أن هناك حدودا فاصلة بين الخبير والباحث باعتبار أن هذا الأخير مكانه الأساسي هو الجامعة، بينما الخبير له علاقة مباشرة بالمؤسسات العمومية والخاصة الممولة للخبرة، فإن هذا المقال يريد أن يتناول نقطة محددة تتعلق بطبيعة هاته الحدود بين الخبير والباحث وتأثيرها على واقع البحث العلمي من خلال ثلاث مطالب، فما طبيعة الحدود المفترضة بين الخبير والباحث؟ وما جذور التجاذب بينهما؟ وكيف يؤثر هذا التجاذب على نتائج البحث العلمي؟

    I.          الحدود بين الباحث والخبير
1.   الباحث: منتج مستقل للمعرفة

لتناول العلاقة بين الخبير والباحث وتأثير ذلك على البحث العلمي، لابد أولا من تحديد معنى الباحث ليتحدد معنى الخبير، فالباحث ينتج المعرفة ويمتلك الإمكانات المعرفية والمنهجية والمفاهيمية لذلك، بالإضافة إلى أن أفقه واسع ولا ينحصر في مجال محدد وضيق، فالباحث له اختصاص ومجال معرفي واضح ويساهم في تطويره وإنتاج وتجديد المعرفة والمناهج فيه، لكنه ليس بالضرورة خبيرا أو مهنيا، فيمكن أن يكون المرء باحثا دون أن يكون أستاذا مثلا، ويمكن أن يكون أستاذا جامعيا لكنه ليس باحثا، ويمكن أيضا أن يجمع بينها، أي له "بدلتان" بدلة الخبير وبدلة الباحث. هكذا يتبين أن أهم ما يتمتع به الباحث هو استقلاليته في اختيار موضوعه وتحديد إشكاله ومنهجية بحثه المعتمدة وفق شروط البحث العلمي الأكاديمي، الشيء الذي جعل "جاك رودريكيز" (Jacques Rodriguez) يعتبر أن الباحث "يرافقه طموح نظري لا يحضر عند الخبير"[2].

2.   الخبير: وسيط معرفي بين الواقع والمؤسسات

تطور مفهوم الخبرة مع التطور الذي عرفته المعرفة في العصر الحديث، وضمن علاقة تفاعلية بالسلطة والمؤسسات، فمع ظهور الدولة الحديثة برزت الحاجة للخبير كرجل عملي وقادر على تنفيذ مشاريع تقنية معقدة والتحكم فيها، فبظهوره كوسيط "تم خلق جسر بين ما هو فكري وبين ما هو اجتماعي وتنظيمي، وقبل كل شيء جسر مكاني بين الممارسين في المجال والرؤساء (عادة في لندن)، لإدارة العمل بطريقة موثوقة وخاضعة للرقابة"[3].

إن هذا الدور الوسيط سيفرض نفسه كنقطة مرور إلزامية بين المعارف والواقع وبين الواقع والنخب والمؤسسات. فالخبرة من منظور علم الاجتماع هي "إنتاج معرفة متخصصة تتجه بشكل عملي نحو إطار تقني أو مهني"[4]. لذلك فهي تتميز بطابعها المؤقت وغير المستقر، نظرا لارتباطها بصنع القرار. ووفقا للفيلسوف الفرنسي "ميشال فوكو"Michel Foucault))، فإن تطور الخبرات تاريخيا "مرتبط بصعود دولة الرفاه، وهو تطور ارتبط بدولة تقوم على تنظيم الخبرة عبر الرفع من كفاءة التسيير والتدريب، وتفعيل المعرفة والتكنولوجيا وجعل التدبير عقلانيا، وتمكين للمواطن وتفعيل للمواطنة"[5]. لكن فوكو يلاحظ أن هناك القليل جدا من العمل حول هذا المفهوم وتاريخه[6]. وحيث أن الخبرة مرتبطة بالتدخل سيصبح الخبير هو الذي يهيئ شروط التدخل للسلطة، ويحرص على إضفاء طابع الشرعية على "حقيقته-خبرته"[7].

3.   هل الخبير باحث "تحت الطلب"؟

     غالبا ما يتم نعت "الخبراء" الذين يقدمون خبرتهم للمؤسسات الطالبة للخبرة بأنهم "خبراء تحت الطلب"، ولا يخفى ما في هذا الوصف من نعوت قدحية تتهم "الخبير" في جوهر معرفته، لكن لا يخفى أيضا ما تتسم به هذه النعوت من إطلاقية وأحكام جاهزة. فالخبير "مختص ومهني في مجاله ويُختار لكفاءته وقدرته على إيجاد أجوبة معرفية، إن له رصيدا معرفيا في مجال معين ويستغل معرفته، لكنه لا ينتج معرفة أخرى بل يراكمها، والجهة الراعية هي التي تحدد طبيعة المنتوج الذي ينبغي على الخبير أن يقدمه"[8].

 إن راعي الخبرة "مؤسسة، وزارة، منظمة، إلخ"، يقدم طلبا للخبير ليقدم له تقريرا حول وضع ما حتى يتمكن من اتخاذ قرار ما، في بعض الأحيان لصالحه وفي بعض الأحيان لصالح طرف ثالث، وهنا تنفصل الخبرة عن السلطة والقرار. ولذلك فالخبرة أملتها الحاجة والطلب المؤسساتي الحديث لها، لكنها تمثل تحديا للبحث العلمي الأكاديمي وهذا ما ينبغي مناقشته بدل إطلاق الأحكام الجاهزة. أما إذا تم التفكير في الإنتاجات المعرفية بالعالم العربي، ففي المغرب مثلا، وتحديدا في مجال السوسيولوجيا، يمكن طرح السؤال التالي:

من هم علماء الاجتماع المغاربة وطنيا ودوليا الذين كانوا فقط أكاديميين ولم يشاركوا في التدخل بأفكارهم؟ سنجد أن هناك أسماء عديدة اشتغلت في الحقلين معا[9]، اشتغلوا بشكل لامع في المجال الأكاديمي وبلوروا أفكار وكتابات، وقدموا أيضا الإستشارات وساهموا في صياغة التقارير والخبرات لصالح المؤسسات الوطنية والدولية، فمن الناحية المبدئية ليس هناك قطيعة بين مجال البحث الجامعي ومجال الخبرة بل هناك تواصل يحدثه الباحث أو الخبير وتغذية راجعة تتحقق بين المجالين. ومع ذلك فهذا التمييز لا يعني نفي التجاذب بين الباحث والخبير، لأن إنتاج الخبير مفيد للباحث ويصبح مدخلا من مدخلات المعرفة التي يمكن استعمالها لإنتاج فكرة ما.

4.   وماذا عن "المهني المعرفي"؟

لكن ألا يمكن تغيير زاوية النظر للموضوع والتوجه بالسؤال نحو الباحثين المستقلين ومدى مساهمتهم في البحث العلمي، ذلك أن التحدي الذي تمثله الخبرة معرفيا أعمق مما تم الحديث عنه سابقا، فمن السهل اتهام الخبراء واعتبارهم أنهم باحثون "تحت الطلب". غير أن تفحص مفهوم الخبرة وسياقات تشكله سيدفع إلى اعتبار أن هناك ثغرة بينه وبين المعرفة الأكاديمية، فعدد من المؤسسات الدولية كالبنك الدولي مثلا، تشغل باحثين كثر كخبراء وقد اشتغلوا في التدخل مرة أو مرتين، لكن سقفهم كان محدودا في مجال الخبرة، ففي الجامعة هناك علماء لامعون وهناك أشخاص متوسطي القدرة، وفي مجال الخبرة عموما وخاصة في مستوى معين منها الأمر يتطلب قدرات، إذ أن هناك من لديه مشاكل في اللغة، في التحليل، في التفكير واستخدام تقنيات البحث، إلخ، لذلك فقد سبق التفكير في هذا الموضوع في فرنسا مثلا، منذ ثمانينيات القرن الماضي، وتم اعتبار الخبرة قادرة على تحديد جودة الجامعة، وأن دورها يكمن "في فرض رؤية للتعليم العالي موجهة نحو الغايات الاقتصادية"[10]، ومن ثمة استبعاد "المهنيين المعرفين"[11] الذين يزاولون مهنة التدريس في الجامعة، وتمر عليهم السنوات وهم يتقاضون أجرتهم دون أي مساءلة حول حصيلتهم العلمية ومدى مساهمتهم في تطوير البحث العلمي، بل إن الباحثين الفرنسيين رأوا في هؤلاء "المهنيين المعرفيين" غير مؤهلين بالشكل الكافي الذي يتيح لهم تبرير ممارساتهم المنفصلة عن تلك الغايات الإقتصادية. وبعبارة أخرى لا ينبغي فصل الجامعة والبحث الأكاديمي عن رهانات الدولة الإقتصادية والإجتماعية.

5.     الخبير والباحث: بين الخدمة والتحدي العلمي

إن الخبرة هي من وضعت وبقوة الواقع العلمي والميداني بين "الخدمة" و"التحدي العلمي"، ذلك أنه وبدلا من تلك الإطلاقية في أحكام القيمة والإنطباعات التي تمت الإشارة إليها سابقا، والتي وصلت حد الإتهام، وجب الإعتراف للخبرة بهذا التموضع داخل الحقول المعرفية وما ينتج عنه من توتر وإشكالات، ناهيك عن شرط التمييز الذي ينبغي أن يتميز به الباحث في موضوع شائك يتعلق بالخبرة حتى لا يسقط في التعميم.

وهذا الحذر في إطلاق الأحكام المسبقة لا يمنع من القول إن عددا من "الخبراء" يؤدون الخدمة للجهات الراعية بمواصفات تفرغهم من محتواهم كباحثين. ف"الخبير تحت الطلب" يؤدي خدمته وهو لا يحمل معه أي من معداته السوسيولوجية، كالتساؤل، الشك، الموضوعية، الحيادية، النقد، إلخ، بل يحمل معه معدات البحث التقليدية (آلة تصوير، مذكرة، مسجل صوتي، تطبيقات رقمية، إلخ)، ومطوق بالتوجيهات والأهداف المحددة سلفا من الجهة الراعية، وينهي خدمته بتسلمه أجرته المتفق عليه. لذا خبرته مشروطة بفرضيات وآمال وأحكام مسبقة وملتمسات قد تكون مناقضة للواقع الميداني ومختلفة حسب سياقات طلب الخبرة، وبالرغم من ذلك ينبغي القول إن هناك افتراض يقول بوجود عدد من الخبراء تتأرجح وضعيتهم في علاقتهم مع الجهات الراعية بين خبير "تحت الطلب" يؤدي "الخبرة كخدمة"، وبين خبير يجعل من خبرته مشروعا علميا جديدا يطور من خلاله معرفته وحسه السوسيولوجي، وتحيين معطياته حول القضية التي يشتغل عليها مما يسهم في تغذية معرفية جديدة للطلبة والباحثين. فالخبرة وظيفة وليست مهنة دائمة، ثم إن الباحث والخبير لهما وظيفتان مختلفتان، "فليس كل الباحثين خبراء، بالإضافة إلى أن الخبرة وظيفة في لحظة معينة، لا يمكن أن يملك صاحبها إجابات نهائية"[12]. (يتبع)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شهداء وجرحى بقصف منزل عائلة شاهين شمال رفح


.. يحيى سريع: نعلن تنفيذ المرحلة الرابعة من التصعيد باستهداف ال




.. تواصل اعتصام طلاب جامعة جورج واشنطن لليوم الثامن على التوالي


.. دول البلطيق في حالة قلق خشية مصير أوكرانيا




.. الجيش السوداني يقصف تجمعات للدعم السريع شمالي الخرطوم