الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


طاليس بين الحقيقة الأنطولوجية و الحكمة الإستفهامية

بوشعيب بن ايجا
- كاتب و باحث مغربي في الفلسفة و التربية

2022 / 8 / 3
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


ان الفلسفة على مر العصور كانت و سوف تبقى هي أم العلوم ، و التي من خلالها عرف الإنسان الطريق الى المعرفة ، و البرهنة و الاستدلال ، لاسيما و أنها هي التي جعلت الانسان يصل الى ارقى درجات التفكير ، باستخدام منهج العقل، ذاك الذي اوصل ديكارت الى الحقائق اليقينية التي لاشك فيها ، و الذي سار بالإمام الغزالي الى تأليف كتاب " المنقذ من الضلال و المفصح بالأحوال " ، بهذا المعنى فالفلسفة فكر تأملي ، و حل لجميع المشكلات ، كم تناسبني تلك الفاتنة ، و نجد أن افضل لحظة في تاريخها عندما قطعت مع الخرافات ، و الاساطير التي تقيد العقل بالجمود و التقليد ، و كما قال جون بيير فرنو " ان التفكير إنتقل من الكلام الشفوي ، و الشعر الى المكتوب و المنظم " حيث تركت افكار حضارات الشرق الادنى القديم ، المليئة بالخرافات، بالرغم من انه لا يمكن انكار الدور الفعال الذي لعبته في ظهور الفكر الفلسفي العقلاني ، لهذا يقول يوسف كرم " الفلسفة فالشرقيون فيها مختلفون ، المصريون و العبرانيون ، و البابليين و الصينيين " ؛ فالفراعنة بنوا الاهرامات ، لكنهم اعتمدوا على الهندسة التطبيقية ، و البابليون عرفوا التقويم القمري لكنه كان ممزوجا بالسحر ، بالإضافة الى الصينيين و الهندوس الذين عرفوا التأمل ، غير انه لم يكن خالصا ، بل كانت له مرجعية دينية ، لهذا فالفلسفة الشرقية لم تكن خالصة ، و عقلانية ، و يقول غوته بأن الفلسفة ظهرت مع الهندوس ، غير ان هذا لا يمكن الجزم به ، لان الفكر الفلسفي يلوذ الى العقل . هذا الاخير الذي بدأ مع الفلسفة اليونانية ، باعتبارها منبع إزدهار الفلسفة ، خصوصا مع اول فيلسوف عقلاني قطع مع الاساطير و بنى المعرفة على أساس اللوغوس ، فقد درس طاليس على يد الكهنة في مصر، و أخد منهم علومهم الهندسية ، و الفلكية ، لكنه لم يأخذ عنهم الفكر الخرافي ، حيث تأثر في مبدئه الانطولوجي بأسطورة خليقة الاشمونيين، التي تقول انه في البدء كان هناك محيط مائي ازلي ظهر منه ما يسمى بالثامون الالهي ، هكذا بدأت الفلسفة العقلانية مع الفيلسوف الاول في التاريخ، و يعتبر مؤسس المدرسة الملطية ، لهذا يقول هيرودوت أن طاليس ينحدر من اصل فينيقي ، و لعل هذا القول كان سببه التأثر بأعماله في مجال الملاحة ، حيث وضع نظام للملاحة ساعد البحارة على تحديد الاتجاهات ، بالإضافة الى اعماله الفلكية ، و التي جعلته يتنبأ بالكسوف ، كل هذه الاشارات لا تجعل من طاليس فينيقيا ، بل ملطيا ، اصيلا ، و في سفره الى بلاد مصر أكد على دراسة الهندسة التحليلية ، حيث قام بقياس ارتفاع الاهرامات من خلال ظلها ،فالعلم بدأ بحل معضلات الحياة ، و في هذا الصدد يقول جورج سارتون في كتابه تاريخ العلم " متى بدأ العلم ، بدأ العلم عندما عهد الناس حل العديد من معضلات الحياة " فتلك الروح العلمية ، و البحث في المبدأ الاول الذي يحكم الكون ، ناهيك عن موقفه السياسي الذي كان متأثرا بالمصريين القدماء ، هي التي جعلت طاليس أهم الفلاسفة السبعة ، و الحكماء الطبيعيين.
و عند العودة الى الفلسفة اليونانية نطرح سؤال طالما شغل المشتغلين بالفكر الفلسفي اليوناني هو كيف بدأت من الناحية المعرفية ؟ ، و المقصود من السؤال ، ما هو الهاجس الفكري الذي شغل الانسان اليوناني فأدت به الى ابداع الفلسفة، فنجد ان السؤال الذي شغل اليوناني الاول طاليس يمكن ان نقسمه الى قسمين؛ سؤال الاصل و يعبر عنه باللفظ الاغريقي الارخي ، و الذي يعني ارجاع تعدد ظواهر الكون الى عنصر منظم و مفسر و هو الواحد ، فقد جعل مبدأ واحد يسير عليه الوجود ، و السؤال الثاني هو سؤال التغير الموجود في الوجود ، بهذا المعنى فإن الوعي الاغريقي القديم حاول تفسير الوجود لأنه بدا له ملغزا و غامضا ، و قد احببت ان اضيف كلمة فيلسوف التشاؤم شوبنهاور الذي اكد على انه كلما قل حظ المرء من الذكاء ، كلما بدا له الوجود اقل غموضا ، فالسؤال هو الاساس في التفكير الفلسفي ، فالذكاء يأتي من طرح الأسئلة ، فلو كانت البشرية تهتم بالجواب وحده ، لما تقدمنا و تطورنا من العصر الحجري،فالإنسان الحجري كان يقطع الاشياء بالحجر المسنن ، فعندما نكتفي بالجواب وحده نكون قد غيبنا القدرات المعرفية للعقل البشري ، و هنا تكمن المشكلة ، فالعقل ملكات متعددة فلا بد من غرس مبادئ الفكر النقذي فيه ، غير ان هذا العقل يرتمي فقط في أحضان المفاهيم التقليدية التي تقف عند الذاكرة ، لدا فالسؤال مهم في تجاوز الافكار المسبقة ، و عندما نعود الى نظرية طاليس الانطولوجية سوف نتساءل " أين تكمن قيمة هذه النظرية" اي ما الذي جعل طاليس يؤسس لصناعة معرفية هي في الاصل خاطئة ، فقد قال بأن اصل الوجود ماء فالأرض تتكون من الماء ، و كل شيء منه و ما منه يتغذى الشيء فهو أصله فعندما نجزم بها، اي الشذرة التي ذكرها طاليس ، هي خاطئة من الناحية الفيزيائية و الأكثر من ذلك تلميذه انكسماندر الذي جاء من بعده أثبت خطأ استاذه و ذلك من خلال تأكيده على ان الابيرون هو اصل الوجود ، و تجدر الاشارة الى ان انكسماندر هو أول فيلسوف ميتافيزيقي ، لأنه أول من قال بمبدأ ما وراء الطبيعة ، فضلا عن انكسمانس الذي أثبت خطأ استاذه بالهواء . هنا اعود و اشير الى ان الحكمة كانت في السؤال و ليس في الجواب ، فطرح الأسئلة هو الذي مكن طاليس من الوصول الى هذه المعرفة الهائلة ، و هنا أشير الى تفسير نيتشه الذي جعل القيمة الفلسفية لطاليس تكمن في العقل الكلي التوحيدي فالعقل الفلسفي لا يذهل من تعدد الاشياء و كثرتها، بل يستطيع ان يرجعها الى مبدأ واحد ، و قد مارس بهذه القاعدة تأثيره على اللذين جاءوا من بعده . على هذا الاساس كانت الفلسفة ما قبل السقراطية ، فلسفة توحيدية ترنو نحو الوحدانية و نبذ التعدد ، فطاليس كان يؤكد على عنصر واحد متحكم في العالم و الكون و هو الماء و بهذه الحقيقة الانطولوجية استطاع التأثير على من جاء بعده ، فساروا على نهجه في العناصر الاربعة، و عليه استحقوا لقب الحكماء السبعة بامتياز ، لأن حدهم من الذكاء كان فوق الأذكياء الذين يتظاهرون بالذكاء ، و الاغبياء منهم لذلك فالذكاء يكمن في طرح الأسئلة لا الاجوبة ، و منه تم الانتقال من بيداغوجيا المضامين و الاهداف التي تغلب فيها سلطة المعلم الى المقاربة بالكفايات ، و ذلك عن طريق الكشف عن القدرات الكامنة لدى المتعلم اثناء العملية التعليمية التعلمية و العمل على تنميتها و تطويرها ، لذلك فالفلسفة تهتم بسبر اغوار العقل البشري من خلال استجلاء الحقيقة وراء الاشياء المستترة الذي يعجز الانسان لاسيما اذا تشبع بالخرافات عن الكشف عنها ، فالإنسان كائن ميتافيزيقي على حد اعتبار الفيلسوف شوبنهاور يبحث عن الحقيقة خلف المجهول فالفلسفة بدأت غريبة و سوف تنتهي غريبة . فطاليس اول من ادرك الوحدة المتكاملة للوجود لاسيما و انه كان ينتمي الى الفلاسفة الماديين ... فالفلسفة اليونانية بعد فترة الشرق الادنى القديم تميزت بظهور نظام مكتوب و منظم ، و البحث عن المبدأ الواحد الذي يعني ارجاع تعدد ظواهر الكون الى عنصر منظم و مفسر و هو الواحد و قد كان هذا المبدأ حاضر في الفلسفات اللاحقة بإعتباره اساس عمليتي التجريد و التنظيم . فالسؤال ضروري في مجال البحث الفلسفي ، لان من خلاله يعمل العقل على تطوير مهارة التفكير النقذي لأن الجواب وحده لا يكفي من أجل التفكير الفلسفي .

ختاما يمكن القول أن الفلسفة اليونانية بدأت بالقطع مع الافكار المسبقة و الاسطورية التي كانت تحتضنها حضارات الشرق الادنى القديم من اجل تأسيس العقل الفلسفي مع طاليس الذي يقوم على البرهان و الاستدلال في تفسير الظواهر الطبيعية ، بالاضافة الى التفسير الانطولوجي الذي جعله حكيما ، و ذلك بسبب طرحه للسؤال ، و عدم الإكتفاء على الجواب فقط ، فالحكمة في السؤال و ليس في الجواب فهذه هي فطرة العقل البشري لأن الطفل لا يكتفي بالجواب بل يطرح أسئلة ميتافيزيقية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أصفهان... موطن المنشآت النووية الإيرانية | الأخبار


.. الرئيس الإيراني يعتبر عملية الوعد الصادق ضد إسرائيل مصدر فخر




.. بعد سقوط آخر الخطوط الحمراءالأميركية .. ما حدود ومستقبل المو


.. هل انتهت الجولة الأولى من الضربات المباشرة بين إسرائيل وإيرا




.. قراءة عسكرية.. ما الاستراتيجية التي يحاول جيش الاحتلال أن يت