الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حكاية مصرع مأمور البداري

عطا درغام

2022 / 8 / 9
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


يقول عباس محمود العقاد في صحيفة الجهاد في عددها الصادر في التاسع عشر من ديسمبر 1932 :"لقد فضح الحكم في قضي البداري شيئًا قليلًا من أوزار هذا الزمان: ولو افتضحت كل أوزاره لعجب الناس- في غير هذه الأمة- كيف بقيت في نفوس المصريين سورة للعدل ..ونخوة للغضب الشريف"
هزت هذه القضية مصر في تلك الفترة ، وزلزت وزارة صدقي التي كانت تحكم بالحديد والنار ، ورأت فيها أنها ضد هيبة الدولة وتؤثر علي بقائهما في السلطة.
غادر البكباشي (المقدم) يوسف الشافعي- مأمور البداري- منزل صديقه المهندس" فهيم نصيف" بعد الغروب..ليتنزها علي الأقدام ، وسارا يتجاذبان أطراف الحديث،إلي أن بلغا دار المدرسة الابتدائية بالبلدة،فأصبحا في مرمي نيران بندقيتين مشرعتين للثأر، تتستران وراء دُغل من البوص.
وانطلق وابل من الرصاص يشق ظلام ليل الصعيد الكثيف بوهجه،ويخدش صمته بأزيره! وبقلب بارد تمامًا خرج"أحمد جعيدي" و"حسونة" من مكمنهما بين عيدان البوص إلي حيث سقطت الجثتين ، فوجدا مهندس الري لا يزال علي قيد الحياة،ولكن ذلك لم يعنيهما؛إذ لم يكن هو الهدف المطلوب.
وعندما اطمأنا إلي أن المأمور قد فارق الحياة، غادرا مكان الحادث مسرعين ،وعاد كل منهما إلي بيته،وأبدل ملابسه وجلس يتناول العشاء مع أسرته،وكان شيئًا لم يكن!
وكانا لا يزالان حول طبلية العشاء،حين اندلعت الزغاريد تشق أجواء الفضاء من كل بيوت "البداري"،وحين خرجا يستطلعان الخبر كان الناس يتبادلون التهاني وكل منهم يقول للآخر:
- مبروك"الشافعي أفندي"قثتل..!
وانقلبت الدنيا
فهمَّت الدولة معني الرصاصات التي أطلقت علي مأمور "البداري" والزغاريد التي انطلقت في شوارع المدينة عقب شيوع الخبر فهمًا صحيحًا..فالرصاصات تتوجه إليها والقتيل هو "النظام" وليس "يوسف الشافعي"، والزغاريد تلعلع تشفيًا فيها وتحذيرًا لها..طال رصاص المستذلين المهانين أعمدة النظام الحقيقية، وقطع إحدي أذرعته الضاربة.
وأنذر الآخرين في أنحاء مصر بأن يلتزموا بالقانون ويمارسوا سلطاتهم وفقًا له، وأن يكونوا هيئة نظامية تتبع حكومة نظامية، وإلا فالجزاء من جنس العمل.وأدرك النظام أن صمته علي ما حدث في البداري هو دعوة لكي يقاوم الناس بالبارود محاولة صدقي لإدخالهم إلي الشقوق، وقرر النظام أن يرد اللطمة.
وبدأ التحقيق هادئا: قبضت النيابة علي عدد من شبان "البداري" وعلي رأسهم 36 منهم كانوا مقيدين في قائمة المشبوهين، وبينهم"أحمد جعيدي" و"حسونة" واستدعت بعض الأعيان، وأنكر الجميع ان لهم علاقة بالحادث،وحددوا أماكن تواجدهم ساعة وقوعه..واستشهدوا بآخرين أيَّدوا صحة ما قالوه،واعتصم الجميع بالمكر الريفي التقليدي؛فتأسفوا لوقوع الجريمة
وذكروا أن المرحوم كان ماهرًا في اكتساب العداوات،ولابد أن أحد "اولاد الحرام" من غير أهل البداري هو الذي أطلق الرصاص انتقامًا منه.ولم يجد المحقق مبررًا قانونيًا لاحتجازهم ؛فأطلق سراحهم واوشك أن يغلق الملف.
لكن هذه الأنباء لم تكد تصل إلي القاهرة حتي ثار وزير الداخلية ورئيس الوزراء"إسماعيل صدقي" ،وأصدر تعليماته إلي حكمدارأسيوط- أعلي قيادة شرطية في المحافظة- بأن يتولي بنفسه العثور علي القاتل والإشراف علي جميع الأدلة ضده.
وأصدر وزير العدل- علي ماهر باشا- تعليمات لرئيس نيابة أسيوط بالإشراف علي التحقيق، وحتي يشعر الجميع بأن دماء المأمور عزيزة علي النظام بل إنها دماؤه هو ذاته.فقد عبر "صدقي باشا" بنفسه- في تصريح لجريدة "الأهرام"- عن أسفه لمقتل "يوسف الشافعي"وقال إنه كان مثالًا للكفاءة والحزم.
وأعلن أن الوزارة ستصرف للأسرة معونة عاجلة قدرها ألف جنيه، وأنها أعدت مذكرة لعرضها علي علي مجلس الوزراء لتقرير معاش استثنائي لها.
أدرك "صدقي" وأدرك"حكمدار أسيوط" وأدرك كل من له خبرة بالعلاقة بين الحكومة والفلاحين أن أهالي البداري" يعرفون القاتل ويتهامسون باسمه، وأن هذا المكر الفلاحي وتلك الشهادات المزورة التي أدلوا بها في محاضر تحقيقات النيابة، وتلك الزغاريد التي استقبلوا بها خبر مصرع المأمور لا معني لها إلا أن أهالي البداري لا يرون فيما فعل القاتل جريمة، بل ينظرون إلي مقتل المأمور باعتباره حكمًا للإعدام يعبِّر عن إرادتهم .لذلك تدافعوا يحمون الذي نفذه ، ويسعون بمكر الفلاحين لكي تشيع التهمة بين كثيرين؛ فيضيع دم المأمور هدرًا، وتضيع معه هيبة الحكم!!
بهذا الفهم غزا حكمدار أسوط مدينة"البداري" الصغيرة؛ليؤدب الشامتين في الحكومة ويعثر علي القاتل الذي يتواطئون ليفلتوه من العقاب فوزع قواته إلي ثلاثة أقسام:
حاصر الأول مداخل المدينة ليمنع الدخول إليها والخروج منها،وانتشر الثاني-وكان من جنود الهجانة الذين ينتمون إلي جنوب السودان- في شوارعها وطرقاتها؛فطاحوا في الناس بسياطهم،وأخلوا شوارع المدينة لقرار بحظر التجول.أما الفريق الثالث فكان مكلفًا بالتحقيق علي الطريقة الصدقية:الضرب بالسياط ومقابض البنادق، والإجبار علي شرب بول الخيل وأكل التبن.
بحكم ما بينهما من مشاكل قديمة وجه "العمدة همام" شبهات الحكمدار، وقادها لتتركز حول "أحمد جعيدي" و"حسونة"، فحاصرت قوات الهجانة منزليهما ، وأعادت القبض عليهما، وعلي بقية المشبوهين، و ربطتهم بالحبال إلي ذيول الخيول فسحبتهم علي أرض الشوارع الواقعة بين منازلهم ومبني المركز، وهم يضربون بالسياط لإحاطة أهل"البداري" علمًا بالطريقة التي سيجري بها التحقيق القانوني.
ولأن أحمد جعيدي" كان يدرك أن أحدًا لا يملك دليلًا ضده مهما قويت الشبهات، فقد أصر علي الإنكار، رغم التعذيب البشع الذي تعرض له، والذي تواصل ليل نهار، وسانده"حسونة" فأنكر هو الآخر.
آنذاك لجأ الحكمدار إلي وسيلة كان يعلم أنها لن تخيب، بل سوف تحملهما علي الاعتراف فورًا، فأمر قوات الهجانة فحاصرت بيت "آل جعيدي" وألقت القبض علي كل من يعيش بين جدرانه: الجد- الذي كان عمره أيامها ناهز المائة عام-والأب والأم وشقيقة "أحمد" الصغري..والأعمام والعمات.
وساقوا الجميع في موكل علني شق شوارع المدينة الصغيرة من بيتهم إلي مركز الشرطة؛ليجدوا "آل عاشور" قد سبقوهم إلي المركز في موكب مشابه..بينما كان المنادي يعلن أن نساء "آل عبد الحق"و"عاشور" سوف تخرجن من مركز الشرطة عاريات ملطخات الوجوه مربوطات بالحبال إلي ذيول الخيول كالسبايا!
واستدعي الحكمدار المتهمين وطالبهما-لآخر مرة- بأن يعترفا بما ارتكبا، ولما أصرا علي الإنكار أمر بعض الجنود في طلاء وجوه النساء باللون الأبيض ،وأمر آخرين بنزع ملابسهنن وقبل أن تنزع الأيادي ملابس الأمهات والشقيقات كان "احمد جعيدي" يصرخ، معلنًا انه سيتكلم بشرط أن تغادر النساء مبني المركز ويسمحوا لهن بمغادرة المدينة كلها، ووافق الحكمدار،واعترف "أحمد جعيدي" بأنه الذي أطلق النار علي المأمور،وقال إنه لم يقصد قتله، ولكنه أراد فقط تخويفه ليكف تعذيب أهالي المدينة وإهانة كرامتهم.
وهدأ الموقف، وخف توتر الحكمدار؛فاوقف جانبًا من الإجراءات الصارمة التي كان قد طبقها علي المدينة، وما أن اطمان "جعيدي" إلي أن نساء الأسرة قد غادرن "البداري" وأصبحن في مأمن حتي عدل عن اعترافه وقال للمحقق ببساطة:
-لقد عذبتموني، وكنت مستعدًا أن أعترف بأنني الذي ارتكبت كل جرائم القتل في مصر كلها لتتوقفوا عن تعذيبي!
في هذه المرة انهال الجميع علي "أحمد جعيدي" يركلونه بالأقدام ويضربونه بالسياط ويحشون فمه بالتبن، ويدفعون رأسه في آنية مليئة ببول الخيل، ويضعون العصي في دبره ويجبرونه علي أن يصيح أنا مرة، وهو يواصل إنكاره للاعتراف و"حسونة" يسانده في إنكاره، وارتفعت صرخات الشابين حتي إنها – كما قال"الشبخ جعيدي" والد"أحمد" في رسالة أرسلها للصحف فيما بعد- كانت تخترق الجدران من هول العذاب فيسمعها الناس علي مسافات بعيدة.
واشتد التعذيب بعد أن تقدم أحد الأعيان بإحدي البندقيتين اللتين ارتكب بهما الحادث، وذكر أن خادمة لديه شاهدت "جعيدي" وهو يخفيها في أحد أكوام القش ليلة الحادث..وهكذا انتهي التحقيق، واعترف القاتلان وضبطت أداة الجريمة..فعادر الحكمدار المدينة ونقل المتهمين معه إلي سجن أسيوط، لكنه ترك جانبًا من قواته في "البداري" ليواصل تطبيق الأحكام العرفية،
وينقل لنا صلاح عيسي بقلمه تلك الأحداث التي هزت مصر في تلك الفترة في كتابه (حكاية مصرع مأمور البداري في أربعة فصول تحمل عناوين، الدكتاتور، جناب المأمور، الفلاح المعجباني، وزير العدل








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شولتس يطلب الثقة الإثنين ويفتح الطريق أمام انتخابات مبكرة في


.. فارس سوري هزم باسل الأسد بالفروسية فسجن 21 عاما




.. اكتشاف مصنع للكبتاغون المخدر في منطقة دوما بريف دمشق


.. اشتباكات بين الأجهزة الأمنية ومقاومين في جنين شمال الضفة الغ




.. الجيش الإسرائيلي يواصل عملياته داخل المنطقة العازلة بالجولان