الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


صورة الملك الفيلسوف عند أفلاطون

بوشعيب بن ايجا
- كاتب و باحث مغربي في الفلسفة و التربية

2022 / 8 / 9
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


وفقا للفيلسوف أفلاطون، فإن الملك الفيلسوف هو الحاكم الذي يمتلك كلا من حب الحكمة و الذكاء و الموثوقية ، و الإستعداد لعيش حياة بسيطة ، و في الكتاب السادس من الجمهورية عرف أفلاطون الفيلسوف أولا على أنه مهنته التي تحمل اسمها عاشق الحكمة ثم يميز بين من يحب المعرفة الحقيقية بالقول إن الفيلسوف هو الشخص الوحيد الذي يمكنه الوصول إلى الافكار النموذجية ، و من أجل أن يبين أن حكم الفلاسفة هو أفضل أنواع الحكم صاغ أفلاطون إستعارة سفينة الدولة و هي واحدة من أكثر أفكاره التي يستشهد بها كثيرا يقول أفلاطون " يجب على الطيار الحقيقي الانتباه بالضرورة إلى الفصول و السماء و النجوم و الرياح و كل ما يتعلق بالمركبة إذا كان حقا سوف يحكم السفينة" ، فبدلا من اتباع مسار سياسي ، اعتقد افلاطون أنه من المهم تثقيف رجال الدولة و العمل على إنشاء مدرسة لقيادة فلاسفة المستقبل ، حيث قام بتأسيس الاكاديمية ليصنع جيلا من الفلاسفة من أجل تولي حكم المدينة الفاضلة ، و يعتقد أفلاطون أن الملك هو كالنهر الاعظم تستمد منه الانهار الصغار فإن كان عذبا عذبت ، و إن كان مالحا ملحت و العدالة لدى أفلاطون تأتي من كونه لا يريد أن تكون الدولة ظالمة بحق أي شخص بعد كل ما حصل لسقراط العظيم ، إنه يريد أن يعاقب المجرم لا البريء و تكافئ الانسان الخير لا الشرير .
إن الصورة التراجيدية التي قام قلم أفلاطون برسمها لقضية التغيير الإجتماعي و السياسي للدولة ، لذلك كان لابد من البديل لتجاوز هذه الاحوال المتدهورة في الحكم ، هذا البديل هو مدينة أفلاطون الفاضلة التي يحكمها الفيلسوف الملك ، فكل شرور السياسة لا يمكن القضاء عليها إلا من خلال حكم الفلاسفة ، فتنتقل الفلسفة إلى عقول الحكام . لهذا نجد أفلاطون يؤكد على ضرورة تكوين فلاسفة في المقام الاول ، ثم توليتهم مقاليد الامور بعد اكتمال تكوينهم العقلي ، و لتنفيذ هذه الفكرة وضع أفلاطون منهاجا تربويا و تعليميا طويل المدى لإعداد الملك الفيلسوف الذي يحوز رجاحة العقل و سلامة الطبع و يسلك في رعيته مسلك الفضيلة و الخير و أول خطوة في سبيل إعداد الملك الفيلسوف تتم عن طريق وضع الدولة لخطة لإنجاب أطفال أقوياء نجباء ، و ذلك عن طريق اتصال رجال أقوياء بنساء صحيحات ، فذلك خير ضمان لصحة النسل ، ثم يؤخد هؤلاء الابناء من أجل تربيتهم تربية شيوعية ، و منذ الطفولة الباكرة يعلم الاطفال الموسيقا ، و الرياضة البدنية حتى يجمعوا بين رهافة الاحساس و الشجاعة و قوة الشكيمة ، و حتى إذا ما بلغوا الثامنة عشر من العمر توقفوا عن دراسة الموسيقا ، و انقطعوا لمزاولة التمارين الرياضية لمدة عامين ، و بعد بلوغ سن العشرين يبدأ الافراد في دراسة بعض العلوم غير التجريبية مثل الحساب و الهندسة ، الفلك و الموسيقا ، لأن هذه العلوم تنبه الحس الفلسفي لدى الطلاب و توجههم نحو تفسير الكون و الوجود تفسيرا رياضيا منطقيا ، و التي من خلالها يمتلكون ناصية المعارف الازلية و في المرحلة التعليمية الثالثة التي تبدأ بسن الثلاثين يواصل الطلاب ممن أثبتوا تفوقهم برنامجا تعليميا جديدا و يعزل عنهم بقية الطلاب ليكونوا مجرد حراس للدولة لا حكاما لها ، و في برنامج المرحلة الثالثة يتعمق الطلاب في دراسة الفلسفة و الجدل و يتمرسون على نظرية المثل و فيما بين الخامسة و الثلاثين و الخمسين من العمر توكل لهؤلاء الشباب بعض المهام الرئيسة في إدارة الدولة ، و الجيش، و بهذا يكتمل البرنامج الدراسي و التدريس الطويل و يصير هؤلاء الطلاب فلاسفة حقا و حكاما صالحين يتناوبون أداء مهام القيادة السياسية ، و قد يتناوبون الحكم واحدا تلو الآخر فيكون نظام الحكم ملكيا ، أو يتناوبونه جماعة فيصبح الحكم حينها ارستقراطيا ، و كلا النظامين يظن أفلاطون أنهما نظامين صالحين ، طالما ظل الحكام فلاسفة ممتازين بفضائل الكمال العقلي و النفسي ، و تعتبر فكرة الملك الفيلسوف أخطر الافكار التي يتضمنها عرض أفلاطون لفكرة المدينة الفاضلة، فلن يعرف العالم استقراره إلا إذا كان الحكم للملك الفيلسوف ، حيث نجد أفلاطون يسعى إلى تأسيس جيل من الفلاسفة يحكمون الدولة ، و ذلك لأنهم يتلقون تعليما متميزا و عاليا ، و يضحون بملذات الحياة و من خلاله يعرض أفلاطون لمراحل متدرجة في التربية حتى يتم الانتهاء إلى أعلى المراحل و هو الديالكتيك باعتباره أرقى ما يتعلمه الفيلسوف ، غير أن تحقيق فكرة الحاكم الفيلسوف لا يمكن أن تتأسس دون الدولة المثلى أو اليوتوبيا ، و نلاحظ في تفكير أفلاطون نوع من الدور المنطقي ، فالدولة المثلى لا تقوم إلا إذا أصبح الحكم في يد الفلاسفة ، و الحكم لا يمكن أن يصبح في أيدي الفلاسفة إلا إذا تحققت الدولة المثلى التي هي وحدها التربة لظهور الحكام الفلاسفة فأفلاطون يتجاوز الحكم القائم على الثروات و القوة الغامشة إلى حكم أكثر اتزان يقوم على العقل و الحكمة بأوسع معانيها و ليس الفلسفة المتخصصة فحسب ، فالحاكم عند أفلاطون وصي على المحكومين ، بل هو راع لهم و من أكثر التشبيهات تكرار في محاورة الجمهورية ذلك التشبيه الذي شبه فيه أفلاطون المحكومين بالقطيع و الحاكم بالراعي ، لأن العلاقة التي تجمع الحاكم بالمحكومين هي علاقة امتثال و خضوع. إن الفيلسوف عند أفلاطون هو قبل كل شيء مفكر باحث عن الحقيقة و ليس شخصا يملك الحقيقة ، إنه في حالة سعي مستمر وراء الحقيقة ، لهذا نجده يوجه اشد الانتقاد إلى النظام الديمقراطي الذي تسود فيه الفوضى ، و هنا نجد أفلاطون يقوم بالتفريق بين الفلاسفة الحقيقيون و الدجالين ، و من مزايا الفطرة السليمة الحقيقية
 الرغبة في الوصول إلى الحقيقة
 إحتقار اللذات الحسية
 سمو المدارك و حرية الفكر
 فطرة موسيقية قانونية متزنة
و مع ذلك فإن فكرة الملك الفيلسوف عند أفلاطون تمزقها تناقضاتها الداخلية ، و كان لحديث أفلاطون عن الفيلسوف السياسي الحكيم أثره في الفكر الفلسفي عموما ، فحكاه و نسج على منواله كثير من الفلاسفة ، و ظلت الجمهورية هي النموذج الذي يسعى إليه المفكرون هربا من واقعهم البائس و تطلعا إلى عالم أفضل حتى و لو في عالم الخيال و يمكن القول دون أدنى مبالغة أن عقدة سقراط هي التي شكلت فلسفة افلاطون ، و على هذا سوف يشكل سقراط نموذج الشخصية النمطية للفيلسوف الحاكم الذي جاهد أفلاطون من أجل تنصيبه في الواقع العملي ، إن عقدة سقراط و موته التراجيدي جعل أفلاطون يعيد النظر في مسألة الحكم ، لكن النفوذ الاثيني لم يستطع الفتك بسقراط النموذجي الحي في عالم المثل ، و ربما هذا يفسر لنا مكانة المثل في فلسفة أفلاطون ، و من ثم سعى أفلاطون إلى تكريس صورة سقراط كنموذج و مثال للفيلسوف الحق و رجل الدولة الذي ينبغي أن يتقلد مقاليد الحكم ، حيث أصبحت عقدة سقراط هي الموجه الحقيقي لفلسفة أفلاطون سواء في المثل أو حكم الدولة ، و منه اتجه إلى تأسيس فكرة الملك الفيلسوف فقد وضع أفلاطون سقراط على رأس الجمهورية ، و جعله محاطا بطبقة من الحراس الاشداء و العساكر الاقوياء حتى يطبق أفكاره في عالم خال من الشرور و المفاسد و هكذا يطرح أفلاطون من خلال أعماله السؤال التالي أيهما أفضل حكم الفرد أو حكم القانون ، و هو سؤال قديم متجدد مازال فلاسفة السياسة و فقهاء القانون مختلفين حوله و في الحقيقة ليس هناك جواب مقنع لهذا السؤال الخطير و المعقد ذلك أن المثل الاعلى للحكم في كتاب الجمهورية هو حكم الملك الفيلسوف، و إصرار أفلاطون على الفيلسوف الحاكم يعود إلى أن حكم غير الفلاسفة يقوم على الشهوات التي تؤدي إلى إنتشار الشرور في الدولة ، فمثل هذا الحاكم الفيلسوف هو الذي تتحقق في ظله الدولة المثالية التي ينشدها أفلاطون بعيدا عن الشرور و الآثام و يبدو تسلط عقدة سقراط على أفلاطون و سعيه الحميم إلى إقامة مدينة فاضلة على رأسها حاكم فيلسوف نموذج سقراط ، جعل أفلاطون ينسى المبادئ الحقيقية لفلسفة سقراط ، هذا ما عرضه لنقد عنيف من طرف مجموعة من الدارسين أمثال كارل بوبر و جورج سارتون ؛ فكارل بوبر يعقد مقارنة طويلة بين أفكار أفلاطون عن حكم الفلاسفة في المدينة الفاضلة ، و بين أفكار سقراط فعلى حين أن سقراط كان يؤكد أن العدل هو المساواة و يؤمن بالنزعة الفردية . لقد كان سقراط يؤمن أن الأكثر شجاعة هو الذي يحكم ، و يتفق جورج سارتون مع كارل بوبر في خروج أفلاطون على مبادئ سقراط و تغييره إياها لدرجة أنه يتهمه بخيانة أستاذه فيقول : " لقد جعل أفلاطون أستاذه القديم يقول عكس ما علم ، فهل بلغ خداع النفس عنده حدا لم يستطع معه أن يميز بين سقراط الحقيقي و سقراط الذي خلقه وهمه " و قد حدد أفلاطون مجموعة من الصفات النفسية و العقلية للفلاسفة باعتبارهم فئة ارقى تتمتع بمؤهلات وراثية فطروا عليها تمكنهم من قيادة الجماهير و توجيه شؤون الدولة ، و قد جاءت هذه الصفات داخل كتاب أفلاطون الجمهورية موضحا معالم الفيلسوف الملك ، و المقومات التي يحكم بها داخل المدينة الفاضلة ، أما محاورة رجل الدولة و هي ما كتب بعد الجمهورية ، فيتحدث عن رجل الدولة ، غير أن المصطلح هنا اختلف ، فهل كان هذا تراجعا منه عن حكم الفلاسفة لصالح السياسي ، ففي كتاب الجمهورية الذي وصل إلينا في عدة ترجمات منها ترجمة حنا خباز و ترجمة فؤاد زكرياء .
يقسم افلاطون صفات الملك الفيلسوف إلى مجموعة من الصفات الفطرية التي يولد مزودا بها و أخرى مكتسبة يتزود بها و يتعلمها في رحلته مع الحياة ، فالصفات الفطرية التي ينبغي أن يتصف بها الفيلسوف هي أن يكون شجاعا نبيها شديدا مع الأعداء، لينا وديعا مع الاصحاب ، أما الصفات المكتسبة التي تزيده خبرة و حكمة هي المعرفة و حب الاطلاع حتى يكون لديه ميل و نزوع فلسفي ، و يرى أفلاطون أن هؤلاء الفلاسفة يجب أن يتم إعدادهم و تربيتهم بعناية خاصة ، فنعلمهم سماع الموسيقى التي تنمي في نفوسهم الاحساس بالجمال ، و تميل بهم إلى الهدوء بعيدا عن العنف و التهور ، فضلا عن هذا يجب الابتعاد عن الخرافات و الأساطير، بالإضافة الى ذلك يجب أن يحفظوا بعيدا عن العامة حتى لا يتخلقوا بأخلاقهم و أن يعد طعامهم بحيث يكون بسيطا و معتدلا و صحيا فيكون بمعزل عن الأمراض التي تنتج التخمة و سوء التغذية مما يغنيهم عن الاستشارات الطبية إلا في أحوال استثنائية ففي حديثه مع غلوغون يوضح سقراط أنه من الضروري أن يوضح للجماهير التي تثور على حكم الفلاسفة نوع هؤلاء الفلاسفة و ذلك أن نبين أن الطبيعة قد فطرت البعض بحيث يتعلق بالفلسفة و يحكم الدولة و فطرت البعض الآخر ، بحيث يعجز عن التفلسف و يطيع من يحكمه و الواضح أن أفلاطون كان يؤمن بفكرة الطبقية و هذا ما يعكسه تقسيمه للطبقات في الجمهورية ، و في تأكيده على قيام كل واحد بالمهمة التي وهبته الطبيعة الخيرة القدرة على أدائها ، و قد ظل أفلاطون على رأيه في التمييز الطبقي حتى آخر حياته ، و هذا ما يعكسه القول في آخر أعماله ، و هو كتاب القوانين حيث يقول " و من حيث ما يخص أي إنسان من أشياء ترانا دائما أمام نوعين ، نوع أفضل و أسمى خلق ليحكم ، و نوع أسوأ و أحط ليخضع و إذن يجب على الانسان دائما أن يفضل تلك التي تحكم بمقتضى مالها من شرف على تلك التي عليها أن تخضع" الغريب في الامر أن أفلاطون يحاول أن يقنعنا أن هذا التمييز الطبقي بين البشر يعود في زعمه إلى المشيئة الالهية ، و قد أكد بعض الباحثين أن العنصرية تحتل جزءا رئيسيا في برنامج أفلاطون السياسي الحقيقة أن الطبقية فكرة أساسية في الفلسفة اليونانية ، كما أن الاثر الذي مارسه فيثاغورس في تطبيق الفلسفة في السياسة و تكوين نظام سياسي تتبع فيه التعاليم الفلسفية و التربوية عن طريق العناية بالجسم و الروح واضح في الجمهورية .
و يرى أفلاطون أن الفيلسوف هو ذلك الانسان الذي يعشق الحكمة كلها و بطبعه ميال إلى تذوق كل المعارف ، بالإضافة إلى هذا فالفلاسفة هم الذين يمكنهم إدراك الجمال لذاته و هم الذين يميزون بين المعرفة و صحيح الظن ، و يتحدث أفلاطون عن أساس مهم في مذهبه الفلسفي ، حيث يؤمن بالثبات و الازلي ، سيرا على خطى أستاذه سقراط ، في مواجهة السفسطائية الذين كانوا يؤمنون بالتغير و النسبية ، فالفيلسوف يستحق الحكم و القيادة لأنه وحده الذي يستطيع أن يوحد بين المتناقضات في المدينة الفاضلة ، و هذه الفكرة أي المتناقضات كانت موجودة في الفلسفة اليونانية ، و موضوع موقف الفلاسفة تجاه الموت ناقشه أفلاطون في أكثر من عمل ، و خصوصا في كتاب الاصول الأفلاطونية فيدون التي يشرح فيها موقف سقراط الذي يمثل لدى أفلاطون الشخصية النموذجية ، و أنه لم يكن حزينا تجاه الموت ، و أخذ سقراط يبين لمحاوريه أن الفيلسوف الذي قضى حياته في الفلسفة تمتلئ نفسه ثقة عظيمة في ساعات الموت ، لقد ظل أفلاطون وفيا لنظريته في حكم الفلاسفة ، و كانت نظريته عن حكم الفيلسوف و الفلاسفة بمثابة المعادل الموضوعي التي دفعت أفلاطون إلى تخيل الجمهورية المثالية و في الواقع كان أفلاطون ناقما على واقعه ، و في حركة دائبة لمحاولة تغييره و هذا ما يعكسه قوله فهل سيظلون في غضبهم علينا لقولنا إنه ما لم يمسك الفلاسفة بزمام الحكم ، فلن تستريح الدولة و لا الافراد من الشرور و لن تتحقق الدولة التي تصورناها بخيالنا و أهم مفهوم عالجه أفلاطون هو العدل ، فالعدل عنده أو حتى أرسطو ارتبط باللامساواة بحيث يلزم كل إنسان طبقته التي ولد فيها ، و لا يحاول أن يغير من وضعه الاجتماعي ، و قد توقف كارل بوبر طويلا أمام مفهوم العدل عند أفلاطون فخصص له فصلا من كتابه "المجتمع المفتوح و أعدائه" الذي جاء في مجلدين ، جعل الجزء الاول منه عن سحر أفلاطون و في الفصل السادس الذي جاء تحت عنوان العدل المطلق ، يبدأ بوبر بتحديد معنى العدل في الاستخدام ، فيرى ان الذين يتطلعون إلى الاصلاح الاجتماعي يعنون بالعدل مجموعة أمور منها :
 تصنيف مساو لواجبات المواطنين بمعنى تحديد الحرية التي هي ضرورية للحياة الاجتماعية .
 معاملة عادلة للمواطنين من قبل القانون
 النزاهة في الحكم بالعدل ...
و يضيف بوبر لو أن أفلاطون عنى بالعدل أي شيء من هذا النوع فإن دعواي بأن برنامجه السياسي شمولي بكل معنى الكلمة بالتأكيد ، و يرى كارل بوبر أن مصطلح العدل عند الفيلسوف أفلاطون هو مرادف لمصلحة المدينة الفاضلة وفق كل أشياء التغير عن طريق الدفاع عن التقسيم الصارم للطبقات و طبقة الحكام، لو أننا على صواب في هذا التقسيم و التفسير أقول : " إن ما يقتضيه العدل عند أفلاطون يجعل برنامجه السياسي مساو للاستبدادية" ، فالدولة تكون عادلة إذا رضي كل إنسان بوضعه مثل الصانع و الزراع ، و لم يحاول أن يمارس عملا أرفع من ذلك الذي تؤهله له طبيعته ، أي أن العدالة تكمن في اقتناعه باللامساواة بينه و بين الآخرين ، فالعدالة إذن هي المحافظة على الفوارق بين الطبقات. و من الواضح أن أفلاطون كان ناقما على النظام في أثينا و كان نظاما ديمقراطيا يأخذ بالحرية ، و ربما لهذا السبب رفض هذا الشكل من أشكال الحكم ، من أجل هذا قام كارل بوبر في كتابه المجتمع المفتوح و أعدائه بالمقارنة بين حكم الفلاسفة عند أفلاطون ، و بين الحكم الشمولي الاستبدادي الذي طبقته الماركسية في العصر الحديث ، هذا عن صفات الفيلسوف الحاكم كما وردت لدى أفلاطون في محاورة الجمهورية ، لكن في محاورة رجل الدولة ، و هي ما كتب بعد الجمهورية خفت صوت الفيلسوف و تلاشت صورته أو كادت تختفي ليعلو صوت آخر و تظهر صورة أخرى هي صورة رجل الدولة و هذا ما سوف نقوم بتوضيحه .
تعتبر محاورة رجل الدولة آخر ما كتبه أفلاطون بعد الجمهورية ، و قبل القوانين أي أنها من الاعمال الهامة التي تصور مرحلة التطور الفكري و النضج العقلي و التي بدأ فيها أفلاطون يتخلص تدريجيا من عقدة سقراط الذي شكلت عالمه الفكري و لم يستطع التخلص منها إلا في آخر أعماله و هي القوانين ، و تمضي محاورة رجل الدولة في تعريف رجل الدولة النموذج المتطور للفيلسوف ، أو بمعنى أصح البديل المقترح له على أنه خبير من الخبراء، و من خلال تطور المحاورة سوف يظهر الفرق بين رجل الدولة الحقيقي عمن سواه الذي يدعي البراعة بالعمل السياسي ، لأن كل إنسان فير مؤهل لهذا العمل الصعب و العظيم في الوقت ذاته ، و رجل الدولة صاحب علم يمكن أن يسمى العلم الملكي أو العلم السياسي أو علم تدبير المنزل ، باعتباره أن المدينة هي نموذج مكبر لأسرة مصغرة و بالتالي فإن الفن أو العلم السياسي هو مهمة الامير أو رجل الدولة الذي هو أشبه بسائق العربة يقول أفلاطون إن تدبير القطعان البشرية بالحكم العنيف هو فن الطاغية ، أما التدبير الذي تقبله القطعان البشرية بحرية و اختيار فندعوه سياسة و فن رجل الدولة ، فهل نصرح الآن بأن الذي يمتلك هذا الفن الاخير و الذي يمارس الرعاية المقبولة هو الملك الحقيقي و هو رجل الدولة .
و إذا لاحظنا فإن أفلاطون ينعت الرعية بالقطيع ، و هذا ما عرضه للنقد و هذا الازدراء للجماهير يعود إلى افتخاره بأصله النبيل، فالرجل الذي يملك العلم السياسي هو وحده يدعى ملكا و رجل دولة ، و يبدأ حديثه عن حكم الدولة بسؤال هل يستطيع رجل الدولة أن يحكم بدون قوانين؟ و يمكن الإجابة على هذا السؤال بأن الفيلسوف قد تأمل المثل التي من خلالها يستطيع أن يحكم المدينة الفاضلة ، و في برنامج المرحلة الثالثة هذا الذي يدوم خمس أعوام يتعمق الطلاب في دراسة الفلسفة و الجدل ، و يتمرسون على نظرية المثل حتى يصلوا إلى القدرة على اكتشاف الحقائق العليا ، و يصير هؤلاء الطلاب فلاسفة ، و حكاما صالحين يتناوبون أداء مهام القيادة السياسية و يشبه أفلاطون حكم الحكيم الصالح ، و هو يعادل الفيلسوف بربان السفينة الذي يسهر على مصلحة السفينة و الركاب ، فالحكم الصالح يبنيه رجال يستطيعون أن يحكموا بالاستناد إلى هذا المبدأ جاعلين العلم أقوى من القانون ، و بالتالي يمكن القول أن التربية ليست هدفا في ذاته لدى أفلاطون سواء في محاورة الجمهورية أو في محاورة رجل الدولة ، و لكنها مجرد وسيلة من أجل تكوين الفيلسوف الحاكم و الرجل السياسي الذي يقود المجتمع ، و على هذا الاساس فالهدف السياسي هو الهدف الاصلي في الجمهورية و التربية مجرد وسيلة أساسية لتحقيق هذا الهدف فهي تتكامل مع السياسة في تحقيق الهدف المنشود فلا يمكن التقليل من القيمة التربوية للجمهورية كما لا يمكن اختزال هذا العمل الفلسفي الكبير في البعد و الجانب التربوي فحسب ، و رغم هذا فقد ظلت التربية جزءا أساسيا في أعمال أفلاطون ، و ربما يؤكد هذا أن التربية كانت جزءا هاما من آخر أعماله القوانين و شكلت فصلا كاملا من فصول الكتاب ، و هو الكتاب السابع . و السؤال الجدير بالتأمل هنا هو : من أين استقى أفلاطون نمط الدولة الفاضلة التي نسجها و نسج خيوطها في الجمهورية ؟ و أي مصادر رجع إليها و عول عليها في حديثه عن الحاكم الفيلسوف أو السياسي الحكيم الذي يعد بمثابة البديل المطروح للفيلسوف ؟
 مصادر الصورة عند أفلاطون
تراوحت آراء الباحثين في هذا الخصوص و تباينت أشد التباين ، فعلى حين أكد فريق من الباحثين على أن هذه المصادر تعود إلى الفكر اليوناني الخالص ، ذهب فريق آخر من الباحثين و خصوصا في الغرب على أن أفلاطون استقى فكره من مصادر شرقية و مصر بصفة خاصة ، و يقي فريق ثالث على الحياد ، و من ثم حاول أن يبرز الاثار الشرقية جنبا إلى جنب مع الفكر اليوناني
يمثل الاتجاه الاول بوضوح ماريا لويزا في كتابها " المدينة الفاضلة عبر العصور " ، ترى الباحثة أن أفلاطون تمثل إسبرطة في حديثه عن الدولة الفاضلة ، و ذلك بفعل عامل نفسي لا يمكن تجاهله ، و هو أن عقل المهزوم يقلد الغالب ، و هذا ما تؤكده في قولها " و من المعروف أن عقل المهزوم غالبا ما يكون مفتونا بقوة الغزاة الفاتحين ، فعندما شرع أفلاطون في بناء مدينته المثالية اتجه إلى إسبرطة و اتخذها نموذجا له " و من أجل هذا وضع أفلاطون تصوره عن دولة قوية متجانسة و قائمة على مبادئ تسلطية في مقابل روح الاستقلال و النزعة الفردية التي تميزت بها الحياة اليونانية ، و هذا ما نلمسه أيضا لدى باحثة كبيرة معاصرة في حديثها عن دعوة أفلاطون لشيوعية الحكام ، و أنها لم تكن مجرد فكرة خيالية ، و لكنها كانت مستمدة مما كان يجري في اسبرطة التي كان نظام الحكم يعتمد فيها على ترابط الطبقة الحاكمة و تماسكها بالتقاليد الارستقراطية و الحرية الصارمة ، أما الاتجاه الآخر المعاكس للاتجاه السابق فيرى أن أفلاطون اتخذ نموذج دولته من الفكر الشرقي القديم ، و خصوصا من الفكر الشرقي المصري القديم ، و هذا ما يعكسه كل من جورج جيمس في كتابه "التراث المسروق" ، و مارتن برنال في كتابه "آثينة السوداء" و الحقيقة أنه إذا كان الكتاب الاول قد سيطر على صاحبه لهجة حماسية و لغة خطابية انفعالية حاول من خلالها إرجاع الفضل في الفلسفة اليونانية كلية إلى الفكر المصري القديم ، و هو ما يبرزه بوضوح عنوان كتاب التراث المسروق. الفلسفة اليونانية فلسفة مصرية مسروقة ، فإن الكتاب الثاني لا يمكن تجاهل ما جاء فيه من آراء عن أثر الفكر الشرقي عموما و المصري على وجه الخصوص على فلسفة أفلاطون و مدينته الفاضلة ، و قد أشار إلى هذا ابن رشد في تعقيبه على جمهورية أفلاطون، حينما ذهب إلى أن الفضائل و الحكمة تتوزع في الامم كلها و ليست حكرا على بلاد اليونان ، و هذا ما أكد عليه أحد كبار مفكرينا المعاصرين بوصفه للأثار الشرقية في فلسفة أفلاطون في قوله : " كان أفلاطون أكبر شاهد نفى يكذب أسطورة الانبثاق التلقائي للفلسفة اليونانية ، و أقوى دليل على فكرة الاتصال الذي لا ينقطع بين حضارات الانسان و عصور تفكيره" و يعرض جورج جيمس للدولة المثالية عند أفلاطون التي تناظر صفاتها صفات النفس و العدالة ، حيث يتعين أن تكون الفضيلة في الدولة هي الهدف الاسمى و الاساسي ، و ما لم يكن الفلاسفة حكاما أو يصبح الحكام بفضل الدراسة فلاسفة ستظل المشاكل تواجه الدولة و الانسانية بعامة دون انقطاع ، و يرى أنه مثلما يرجع تناغم النفس إلى التحكم السديد في قواها ، كذلك الدولة تحظى بالسلام متى تم التحكم السديد في أجزائها و قواها ، و هنا يقدم أفلاطون صورة مجازية لسائق العربة ذات الجوادين المجنحين لكي يصور لنا أن الفضيلة بالنسبة للنفس شأنها شأن العدالة بالنسبة للدولة ، فأحد الجوادين من أصل نبيل ، بينما الاخر وضيع ، و من تم يتعذر التواؤم و التوافق بينهما ، فالاخضاع السديد لقوى النفس هو ما يمكن العنصر النبيل في الانسان من بلوغ كماله ، و كذلك الحال أيضا عند التعامل مع الدولة ، فإن العدالة أو الاخضاع الكامل للفئات المختلفة هو ما يجعلها دولة فاضلة ، و نجد أن الصورة المجازية لسائق العربة و الجوادين ليست من عند أفلاطون ، و إنما مأخوذة عن كتاب الموتى المصري في روايته لمشهد يوم الحساب في الآخرة ، و يتعين تأكيد ما قيل عن كتابات أفلاطون و أن ثمة تنازعا في الرأي بشأنها ليس فقط من قبل الباحثين المحدثين أمثال جروت و شارشميدت ، و لكن من جانب المؤرخين القدماء أيضا أمثال ديوجين لايريتس و أرسطو خينوس و فافورينوس ، حيث يصرح هؤلاء أن موضوع كتاب الجمهورية موجود في كتاب المناظرات تأليف بروتاغوراس ، و قد كان أفلاطون لا يزال صبيا وقت وفاته ، أما الرأي الثاني يقول بأن أفلاطون هو المؤلف فإنه يعتمد على آراء أرسطو و ثيوفراستوس و كلاهما استهدف تصنيف الفلسفة اليونانية تأسيسا على مادة مصرية ، فالصورة المجازية عن سائق العربة و الجوادين المجنحين هي وصف لخاصية النفس و مصيرها على نحو ما تظهر في ساحة العدالة خلال مشهد يوم الحساب في الآخرة في كتاب الموتى المصري القديم و نجد في الدراما بيثيما منتيس أو أوزيريس رئيس العدالة الأعظم و رئيس العالم غير المرئي مستويا على العرش ، و في رفقته كلا من إيزيس و نفتيس بينما جلس من حوله 42 قاضيا مساعدا.
و يضيف جيمس بأن فكرة و مبدأ الصانع الاول في الخلق الذي ينسب إلى أفلاطون لم يبدأ على الإطلاق على يد أفلاطون ، و ذلك لأنه كان معروفا في بلاد الشرق الأدنى القديم ، فقد عرف الفرس هذا المبدأ مع زرادشت كما عرف في الفلسفة اليونانية قبل أفلاطون مع فيتاغورس ، و قد جاء وصف أفلاطون لدولة الفلاسفة بأنها دولة إلهية ، و ذلك في معرض حديثه عن حكومات عصره و أنه ليس فيها واحدة تلائم الطبيعة الفلسفية ، إن مثل هذا الفيلسوف الملك الذي يحيا في صحبة النظام الالهي يمثله بوضوح الحاكم في مصر و الذي كانت لديه صفات محددة تنتهي بتنصيبه إله ، و هذا ما يعكسه بوضوح رمسيس الثاني أحد ملوك الاسرة التاسعة عشر ، فالفكر المصري كان ماثلا بقوة في الفكر اليوناني ، و هذا ما يؤكد عليه جورج سارتون من أننا نستطيع أن نكتشف آثار مصرية كثيرة في الفن و الادب و العلم اليوناني ، بناء على ما سبق يمكن القول أن الفكر هو بناء ساهمت في تأسيسه جميع الامم بدون إستثناء كي لا يتم إقصاء فئة عن فئة أخرى كما بالغ في ذلك المؤرخ جورج جيمس ، فالحكم ينبغي أن يكون في أيدي الفلاسفة ، و ذلك لأنهم يضحون بملذات الحياة من أجل الحفاظ على سلامة الدولة لهذا يقول أفلاطون " إنه لمن الحمق ألا نختار الفلاسفة الذين يتفوقون تماما على غيرهم في معرفتهم التي هي أعظم ميزاتهم على شرط ألا يكونوا أقل من غيرهم في سائر الصفات " فلما كان أفلاطون محبا للحكمة و للفلسفة و للتفكير الفلسفي ، فإنه جعل من الفيلسوف الذي يتلقى تدريبا صارما يدوم 15 سنة من أجل أن يكون مؤهل لحكم المدينة الفاضلة ، و على ذلك فإن الشخص الذي تتجه رغباته كلها نحو العلم و ما يرتبط به لا يسعى إلا إلى اللذة التي تستمتع بها الروح وحدها ، و يدع جانبا لذات البدن و ذلك إن كان فيلسوفا بحق لا مدعيا للفلسفة فالأزمة النفسية التي عاشها أفلاطون عندما صير عبدا أججت نار الحقد على النظام الديمقراطي ، لهذا كان الحل من خارج هذا النظام هو تأسيس نموذج الفيلسوف المثالي الذي يستقي جميع أفكاره من الفلسفة ، و من كان بطبيعته جبانا و ضعيفا لا يستطيع أن يسهم في الفلسفة الحقة بنصيب و بالتالي فإن أفلاطون يحاول تشكيل الملك الفيلسوف الذي لا تفسده الطبائع و لا الشهوات التي تجعله يلهث وراء الثروة ناسيا الرسالة التي جاء من أجلها ، لهذا يقول " و هكذا ترى أننا لم نكن على خطأ حين قلنا أن نفس الصفات التي تكون طبع الفيلسوف إذا ما خضعت لتنشئة فاسدة ، تؤدي على نحو ما إلى صرفه عن رسالته مثلها في ذلك مثل الثروة و ما شاكلها من المزايا التي يسمونها بمباهج الحياة فعن طريق الجدل أو الديالكتيك الصاعد يتم الكشف عن الحقيقة المخفية في عالم المثل ، و لقد كان أفلاطون أكثر فلاسفة اليونان تأثيرا في الفلسفة الإسلامية و خصوصا في الفكر السياسي ، و قد ترك حديثه عن الفيلسوف الحاكم أثرا واضحا لدى فلاسفة الإسلام الذين إهتموا بالحديث عن الفيلسوف و صفاته ، و إستطاع فلاسفة الإسلام المزج بين الفكر الافلاطوني و الفكر الإسلامي ، و هذا التأثير لصورة الحاكم الفيلسوف تمثل في ثلاثة نماذج :

 أولا: نموذج محاكاة الفيلسوف الحاكم بصورة مباشرة كما نجده عند الفارابي و إخوان الصفا
 ثانيا: نموذج الشرح و التعليق على جمهورية أفلاطون في ضوء الواقع الإسلامي كما هو الحال عند ابن رشد
 ثالثا: تمثل صورة الفيلسوف التي رسمها أفلاطون في الجمهورية في السيرة الذاتية للفيلسوف المسلم ، و هذا ما يظهر بوضوح لدى أبو بكر الرازي في سيرته الفلسفية .
و في مجال السيرة الذاتية توجد نماذج أخرى غير أبو بكر الرازي مثل سيرة الفيلسوف المصري علي بن رضوان ، بالإضافة إلى ابن مسكويه و رسالة العهد لابن سينا ، هذا ما يوضح التأثير الذي مارسته الفلسفة الافلاطونية على مجموعة من الفلاسفة المسلمين أمثال الفارابي و ابن سينا ، لقد كان افلاطون بحق هو الشخصية النمطية كفيلسوف بالنسبة للفارابي و إخوان الصفا في الوقت الذي اتخذ فيه ابن رشد أرسطو نموذجه و شخصيته النمطية المفضلة و قد نسخ الفارابي حديثه عن المدينة الفاضلة في عمله الرئيسي آراء أهل المدينة الفاضلة الذي استطاع فيه أن يجمع بين آراء أفلاطون من ناحية ، و بين الفكر الإسلامي من ناحية أخرى ، فلم يكن الفارابي مجرد تابع لأفلاطون و يظهر هذا بوضوح فيما ينبغي أن يعمله أهل المدينة الفاضلة على أنه مشترك .
 معرفة الله باعتباره السبب الأول
 صدور الاشياء عن العقول ، الجواهر السماوية ثم الاجسام الطبيعية
و قد تمثل الفارابي دعوة الإسلام إلى إقامة دولة عالمية ، و من تم ذهب إلى تقسيم المجتمعات الفاضلة الكاملة إلى ثلاث مراتب عظمى ، وسطى ، و صغرى ؛ فالعظمى اجتماع الجماعة كلها في المعمورة ، و الوسطى اجتماع أمة في جزء من المعمورة ، و الصغرى اجتماع أهل مدينة في جزء من مسكن أمة. و يتفق الباحثون على أن الاجتماع الاول الذي ذكره الفارابي و جعله أكمل المجتمعات الفاضلة جميعا لم يذكره أحد من الفلاسفة اليونان الذين اغترف من فلسفتهم كأفلاطون و أرسطو .
لقد تمثل الفارابي النموذج الافلاطوني في حديثه عن المدينة الفاضلة ، و خصوصا عن الفيلسوف الحاكم في كتابيه آراء أهل المدينة الفاضلة ، و تحصيل السعادة و قد جاء حديث الفارابي عن الحاكم الفيلسوف المربي لشعبه و المعلم له كأفضل و أكمل عضو في المجتمع ، و يقوم فيه مقام القلب من الجسد ، فيقول " و كما أن العضو الرئيس في البدن هو بالطبع أكمل أعضائه و أتمها في نفسه كذلك رئيس المدينة هو أكمل أجزاء المدينة فيما يخصه ، و له من كل ما شارك فيه غيره أفضله " فالحاكم الفيلسوف يكون أول عضو في المدينة و بعد ذلك تكتمل الاجزاء ، و هذا الرئيس أو الحاكم الفيلسوف هو المربي لشعبه المعلم له مثله في ذلك مثل رب الأسرة الذي يناط به تربية أهله و تعليمهم ، و هذا واضح في قول الفارابي " إن الملك هو مؤدب الامم و معلمها كما أن رب المنزل هو مؤدب أهل المنزل و معلمهم و القيم بالصبيان و الأحداث هو مؤدب الصبيان و الأحداث و معلمهم" ، و إذا كان أفلاطون يتحدث صراحة عن الفيلسوف كرئيس للمدينة الفاضلة فإن الفارابي يتحاشى هذا اللقب الذي يتوارى لديه رغم وجوده ، فيقول " فهذا هو الرئيس الذي لا يرأس إنسان آخر أصلا وهو الامام ، و هو الرئيس الاول للمدينة الفاضلة؛ و هو رئيس الأمة الفاضلة ، و رئيس المعمورة من الارض كلها" فالإنسان الذي صناعته أشرف الصناعات و أعلاها لابد أن يكون على الشرف و السمو من خلال تلك الصناعة ، و ذلك بأن يكون قد اكتملت قواه و مواهبه النفسية و العقلية ، أي أصبح فيلسوفا في الحقيقية فمقصد الرئيس حسب الفارابي هو العمل على توجيه و إرشاد الناس داخل المدينة الفاضلة ، إن الفارابي يختلف عن أفلاطون في مواطن كثيرة منها ؛ أفلاطون يقسم جمهوريته إلى ثلاث طبقات ، و الفارابي يرتبها وفق قوى البدن ، أفلاطون يسن نظاما تربويا وفق قوى البدن قائما على امتحانات تهيأ الطبقات على أساسها ، و الفارابي يترك المهمة على عاتق الرئيس الصالح ، أفلاطون يفرض على الرئيس خمس عشرة سنة من التطبيق و التمرين قبل تسلم الحكم و الفارابي يعتبر أن رئيس النبي الفيلسوف المتصل بالعقل الفعال غني عن هذه الخبرة العلمية

 نقد حكم الفلاسفة

لقد تعرض أفلاطون لكثير من النقد من مشروعه السياسي الذي يفضي إلى تولي الفلاسفة زمام الحكم و السلطة داخل الدولة المثالية ، فهناك فئة ترى أن حكم الفيلسوف يجسد حكم استبدادي مطلق كان نموذجا للديكتاتورية الحديثة ، كالفاشية و النازية و الماركسية ، و فئة أخرى ترى أنها مجرد أفكار مثالية خيالية من وهم أفلاطون يصعب تحقيقها ، و ذهبت آراء أخرى إلى أن الفلاسفة لا يصلحون للحكم ، فقد أكد كارل بوبر أن أفلاطون في حديثه عن حكم الفلاسفة كان متمسكا بالتقاليد أكثر مما يظن أي أحد ، و يرى بوبر أن افلاطون في الواقع كان في عقله شيئا آخر مختلف عندما يستخدم مصطلح فيلسوف ، فالفيلسوف لديه لا يلتمس الحكمة بإخلاص لكنه غرور الملك ، أما ماريا لويزا فإنها تأمل ألا يتحقق أبدا في المستقبل نظام اجتماعي كنظام الجمهورية الافلاطونية ، و ذلك لأن غياب الحرية العقلية لم يكن هو الشيء المنفر في دولة أفلاطون المثالية ، بالإضافة إلى هذا نجد إرازموس يهزأ بثقة أفلاطون المفرطة في حكم الفلاسفة و خصوصا قوله " إن الدولة السعيدة هي الدولة التي يحكمها الفيلسوف" ، بأن التاريخ ينقل لنا أن أشد الامراء جناية على دولهم هم الذين سقطت الإمبراطورية في عهدهم تحت رحمة بعض الذين عرفوا الفلسفة أو الادب معرفة سطحية ، كما أن مفهوم الفيلسوف الصحيح عند أفلاطون كما يمثله سقراط كمثل أعلى يتناقض مع حكم الفيلسوف المطلق الذي نادى به أفلاطون في الجمهورية ، أما الدكتورة أميرة حلمي مطر فتعقب على قول أفلاطون بأنه مالم يتول الفلاسفة الحكم فلن تنتهي الشرور لا من الدول ، و لا من الجنس البشري ، بأن هذا الرأي في الواقع شرط مثالي خيالي بدليل أن كثير من مفكري السياسة الواقعية نادوا بعكس ذلك ، و من تم باعد من بعده كل من فتراسيماخوس ، و ماكيافللي بين قدرات النجاح السياسي ، و بين الجدية في اكتشاف المعرفة ، و يؤكد نتلشب بأن أفلاطون كان يتحدث عن صفات الفيلسوف الحاكم كمفكر أكثر منه قائد سياسي. و يرى الدكتور فؤاد زكرياء بأن فكرة الملك الفيلسوف تمثل أعتى الموجات الثلاث التي يعلم افلاطون بأنه يصدم بها الذهن العادي و أبعدها عن التحقيق ، و بلغة أفلاطون أن الفيلسوف الملك يجب أن يعرف كل ما هو صالح للإنسان و طبيعة شخصيته و يفرض حلوله علينا دون قيود.

صفوة القول أن أفلاطون ما دام أعلى من قيمة الفيلسوف داخل الميدان السياسي إلا و أنه يطمح لجعل الفلسفة هي كل شيء ، و أساس جميع المعارف ( الأخلاق ، الدين ، النفس ، السياسة....) فعقدة سقراط جعلت من هاجس فرض النظام الارستقراطي الفلسفي شغل أفلاطون الشاغل ، من أجل قيام دولة مثالية يؤدي فيها كل واحد المهمة التي وهبته الطبيعة الخيرة القدرة على أدائها .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اضطرابات في حركة الطيران بفرنسا مع إلغاء نحو 60 بالمئة من ال


.. -قصة غريبة-.. مدمن يشتكي للشرطة في الكويت، ما السبب؟




.. الذكرى 109 للإبادة الأرمينية: أرمن لبنان.. بين الحفاظ على ال


.. ماذا حدث مع طالبة لبنانية شاركت في مظاهرات بجامعة كولومبيا ا




.. الاتحاد الأوروبي يطالب بتحقيق بشأن المقابر الجماعية في مستشف