الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بين القرارات بقانون والقانون .. حكاية طويلة

تأييد الدبعي

2022 / 8 / 10
المجتمع المدني


جرت العادة في حركات النضال اللاعنفي أن تثور من أجل الدفاع عن الحريات و الحقوق المادية أو المعنوية لدى فئة معينة أو لدى شعب بأسره. لكن من النادر أن تقوم فئة ما من المجتمع بعصيان مدني تتحمل فيها مسؤولية الدفاع عن الحقوق والحريات العامة من جيوبها ومصالحها، دون أن تكون لديهم أي منافع شخصية من هذا النضال. هكذا فعلها محامو فلسطين، فها هم يقودون حراكا نقابيا لاعنفيا ضد القرارات بقانون التي أصدرتها السلطة التنفيذية في فلسطين.
ما هي القرارات بقانون ولماذا يحتج المحامون الفلسطينيون على إصدارها؟ قصة طويلة بدأت من الوضع السياسي المعقد والذي انعكس على الوضع القانوني في فلسطين، حيث نص القانون الأساسي الفلسطيني الذي يعد بمثابة دستور فلسطين المؤقت للمرحلة الانتقالية لحين الاستقلال التام وإنشاء الدولة، في المادة (43) منه: " لرئيس السلطة الوطنية وفي حالات الضرورة التي لا تحتمل التأجيل في غير أدوار انعقاد المجلس التشريعي، إصدار قرارات لها قوة القانون، ويجب عرضها على المجلس التشريعي في أول جلسة يعقدها بعد صدور هذه القرارات وإلا زال ما كان لها من قوة القانون، أما إذا عرضت على المجلس التشريعي على النحو السابق ولم يقرها زال ما يكون لها من قوة القانون". وبناء على ما تقدم فمن حق السلطة التنفيذية إصدار قرارات لها قوة القانون، فلماذا إذن يحتج المحامون الفلسطينيون على إصدار السلطة التنفيذية لتلك القرارات؟.
لنبدأ أولا من القيود المفروضة بحكم القانون الأساسي على إصدار تلك القرارات، المفروض أن تكون حالة عدم انعقاد المجلس التشريعي حالة طارئة قصيرة، لكن استمرار مثل هكذا حالة في فلسطين منذ خمسة عشر عاما ونيف، تتحمل مسؤوليتها السلطة التنفيذية لعدم إجراءها انتخابات تشريعية بعد حالة الانقسام الفلسطيني التي فرضت نفسها على المجلس التشريعي والشعب الفلسطيني كله في العام 2007، حتى أن السلطة التنفيذية لم تجر الانتخابات بعد صدور قرار المحكمة الدستورية في ديسمبر 2018 بحل المجلس التشريعي وإجراء انتخابات تشريعية خلال ستة أشهر من نشر القرار في الجريدة الرسمية.
إن حالة عدم وجود مجلس تشريعي في فلسطين، ليس مبررا لإصدار السلطة التنفيذية لقرارات بقانون، لأن ملء هذا الفراغ التشريعي يكون عبر إجراء انتخابات تشريعية، وليس بأن تحل السلطة التنفيذية مكان التشريعية في إصدار القوانين وتعديلها. ثانيا، قيد المُشرِّع الفلسطيني حق السلطة التنفيذية في إصدار القرارات بقانون بحالة الضرورة التي لا تحتمل التأجيل، ويقول هاني الطهراوي في رسالة الدكتوراه خاصته بعنوان (نظرية الضرورة) والتي قدمت لجامعة القاهرة 1992، بأن الفقه العربي والأجنبي يجمع على تعريف حالة الضرورة التي لا تحتمل التأخير" إنها الحالة التي تنتج عن توافر ظروف فجائية أو حالات شاذة أو خطر داهم يحدق بالوطن، بحيث يتعذر دفع هذه المخاطر بالوسائل القانونية العادية مما يضطر الإدارة إلى اللجوء إلى السلطات الاستثنائية، باعتبار أنها الإجراء الوحيد الذي لا بد منه للتغلب على هذه الظروف الشاذة ومواجهة الأزمات الطارئة" استنادا إلى هذا التعريف فإن معظم القرارات بقانون لا ينطبق عليها شرط حالة الضرورة التي لا يمكن تأجيلها. مبدئيا إذن، فإن حق إصدار تلك القرارات التي لها قوة القانون فاقدٌ للشرطين اللازم توفرهما معا قبل إصدار القرارات.
علاوة على ذلك، فإن بعض القرارات بقانون شكلت انتهاكا لمبادئ قانونية راسخة، بالإضافة إلى أن بعضها قد يؤدي إلى انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، ومنها على سبيل المثال: حسب القرار بقانون رقم (12) لسنة 2022، لتعديل قانون التنفيذ، فإن هذا التعديل يعطي الساحب لشيك أو كمبيالة الحق في إنكار توقيعه، وبالتالي إنكار انشغال ذمته المالية بقيمة الورقة التجارية، وحمَّل هذا التعديل عبء الإثبات على المدين، فبدل أن يقدم الساحب بيّناته لإنكار توقيعه أصبح على الدائن أن يرفع دعوى لإثبات توقيع المدين، وفي هذا ليس مخالفة لمبدأ ( البينة على من ادعى) فقط، بل تجريد للأوراق التجارية من الحماية القانونية، وشرعنةٌ للتملص من الالتزامات المالية. بالإضافة للتعديلات على قانون الإجراءات الجزائية التي أجازت استمرار حبس المتهم إلى مدة تصل إلى مدة العقوبة المقررة للتهمة الموجهة إليه، وأجازت تمديد توقيف المتهم دون عرضه على المحكمة، وفي هذا تعريض للمتهم لمجموعة من الانتهاكات المعنوية والمادية التي لا يمكن التعويض عنها.
وفي هذا السياق أصدرت لجنة مناهضة التعذيب في الأمم المتحدة بتاريخ 29تموز 2022، توصياتها بعد مناقشة التقرير الأولي لدولة فلسطين بشأن تنفيذ التزاماتها بموجب الانضمام لاتفاقية مناهضة التعذيب، وعبرت اللجنة عن قلقها البالغ إزاء التقارير التي تفيد بأن خمسة قرارات بقانون صدرت في شباط 2022، جرى بموجبها تعديل قانون الإجراءات الجزائية رقم 3 لسنة 2001، وقانون أصول المحكمات المدنية والتجارية رقم 2 لسنة 2004، وقانون تشكيل المحاكم النظامية رقم 5 لسنة 2001، وقانون السلطة القضائية رقم 1 لسنة 2002. وأبدت اللجنة أن هذه القرارات بقانون تثير القلق بشأن حماية مبدأ افتراض البراءة، وتمديد الاحتجاز السابق للمحاكمة دون حضور المتهم أو محاميه، وفرض إذن خطي على المساءلة عن الجرائم التي يرتكبها الموظفون العموميون والموظفون المكلفون بتنفيذ بإنفاذ القوانين... كما أحاطت اللجنة علما دولة فلسطين بالضمانات المكرسة لمنع التعذيب وإساءة المعاملة والمكفولة بالقانون الأساسي الفلسطيني المعدل لعام 2003، وكذلك في قانون الإجراءات الجزائية لعام 2001. وطالبت اللجنة دولة فلسطين بالعمل على وجه السرعة في إعادة النظر في القرارات بقوانين الخمسة بالتشاور مع الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان ومنظمات المجتمع المدني لضمان الامتثال لأحكام الاتفاقية.
يقول الفيلسوف جان جاك روسو في كتابه العقد الاجتماعي، صفحة 81:" كما أن المهندس يعاين الأرض ويستبرها قبل إقامة بناء عظيم عليها، وذلك ليرى هل تستطيع حمل الثقل، لا يأخذ المُشتَرِع الحكيم في وضع قوانين صالحة بنفسها، وإنما يبحث مقدما في كون الشعب الذي يعدها له قادرا على احتمالها أم لا...".
يبدو جليا أن القرارات بقانون المذكورة آنفا، لا طاقة للمجتمع الفلسطيني على احتمالها، الأجدر بنا كمجتمع يعاني من استعمار استيطاني إحلالي توسعي، يتعرض لخطر الفناء والإبادة كل يوم، أن نكون أكثر الأمم حرصا على الحقوق والحريات والعامة، وعلى سيادة القانون، لأنها الحصن المنيع في وجه الفوضى والفلتان الأمني والفساد والاستبداد، وبالتالي أحد أهم أشكال النضال ضد هذا الاحتلال.
منذ أكثر من أربعين يوما، تخوض نقابة المحامين نضالا لاعنفيا من أجل سحب تلك القرارات بقانون، وذلك دفاعا عن الحريات والحقوق العامة، وحرصا من النقابة على السلم الأهلي الذي قد تعرضه تبعات بعض تلك التعديلات إلى الخطر. وانضمت لنقابة المحامين عدد من النقابات المهنية الأخرى ومنظمات المجتمع المدني، في حراك نقابي مهني حر لا يحركه سوى الحرص على حقوق المواطنين وعلى الوصول إلى دولة فلسطينية حرة تتسم بسيادة القانون. وها هي ثمرة تلك النضالات تُؤتي أُكُلَها، فقد توافق المجلس التنسيقي لقطاع العدالة على التنسيب لسيادة الرئيس لإلغاء القرارات بقانون (رقم 7 لسنة 2022 بشأن تعديل قانون الإجراءات الجزائية رقم 3 لسنة 2001 وتعديلاته، رقم 8 لسنة 2022 بشأن تعديل قانون أصول المحاكمات المدنية والتجارية رقم 2 لسنة 2001 وتعديلاته، رقم 12 لسنة 2022 بشأن تعديل قانون التنفيذ رقم 23 لسنة 2005 والتعديلات الأخيرة عليه)، اعتبارا من تاريخ 8 آب 2022، بانتظار أن يصدر قرار رسمي من سيادة الرئيس بإلغاء تلك القرارات. ومن الجدير بالذكر أن انتصار النضال النقابي اللاعنفي وتحقيقه لأهدافه لا يعني نهاية النضال، فإن معركة الدفاع عن الحريات والحقوق لا تنتهي بانتزاع حق أو قرار ما، وإنما هي عملية يومية مستمرة يبنى عليها للوصول إلى مجتمع فلسطيني تسوده قيم العدالة والمساواة والحرية لكل مواطن، كخطوة أولى للوصول إلى الهدف الأسمى والأغلى وهو دولة فلسطينية حرة قوية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حالة -إسرائيل- مزرية ونتنياهو في حالة رعب من إمكانية صدور مذ


.. احتمال إصدار المحكمة الجنائية الدولية مذكّرات اعتقال إسرائيل




.. خيام لا تقيهم برد الشتاء ولا حر الصيف.. موجات الحر تفاقم معا


.. العالم الليلة | ترمب: أتطلع لمناظرة بايدن.. ونتنياهو لعائلات




.. الأمم المتحدة تبدي انزعاجها من إجراءات إنفاذ القانون ضد محتج