الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
حكاية جلاد دنشواي
عطا درغام
2022 / 8 / 13دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
علي المستوي العام عرفه الناس باعتباره واحدًا- من أعظم المحامين الذين أنجبتهم مصر..إن لم يكن أغظمهم علي الإطلاق ،أما –علي المستوي الشخصي-فإن حياته كانت تراجيديا مصرية فاجعة.
فقد كانت سيرته نموذجًا تقليديًا لقصة حياة البطل الذي يخطيء مرة واحدة؛ فتؤدي به خطيئته، ويظل يجاهد العمر كله لكي يحصل علي الغفران فيوصد الشعب قلبه دونه، ولا يرق له وهو الشعب الطيب القلب، الحنون الذي طالما غفر لكثيرين وعفا عن كثيرين.
ذلك رجل تغني به الناس،دخل حياتهم اليومية فقالوا فيه الأمثال ، ورووا عنه الفكاهات والأساطير،وأحبوه كأعظم ما يكون الحب وكرهواه كأعظم ما يكون الكره.
وصفه عباس محمود العقاد " مرة بأنه كان:"ذلاقة لسان لا تطيق نفسها ولا تريح صاحبها".
وقف مرة يترافع في قضية مدنية، وكان يقرأ القضايا بسرعة ويعتمد علي بديهته،وفي أثناء المرافعة تنبه موكله إلي أن الأستاذ قد نسي، وأن ما يقوله الآن هو حجج الخصوم ، فهمس له بذلك، وأدرك هو الموقف، فقال علي الفور دون أن يرتبك أو يتعثر لسانه، او يغيِّر نبرات صوته:هذه حجة خصومنا..ولكنها واهية، وبدا بسرعة يرد عليها بنفس البلاغة!
وصفه معاصروه، فقالوا إنه كان"أبلغ طلاب المرحمة طوال أكثر من نصف قرن".
رجل كان ينتمي لعصر غريب كانت القدرة علي الكلام ، هي أعظم قدراته، أجدرها بالاحترام وهي التي تمنح المكانة وتوزع الحظوظ، ويقول فلاح آخر محتدًا
- والله لأقتلك واجيب الهلباوي..ذلك أنه مهما تورط المجرم وفداحة الجرم ، فإن الهلباوي قادر علي الحصول علي البراءة..ويذهب ابن بلد إلي الجزار ليشتري ، ربع أقة من اللسان ويهوله الثمن المطلوب، فيصيح:
- - ليه..هو اللسان "الهلباوي"...
ذلك أن الرجل كان بليغًا كأعظم ما تكون البلاغة، فصيحًا، ذرب اللسان، قادرًا علي المناظرة ومباريات الحجة وسباق البراهين، يناقش رأيًا فيدعمه بألف دليل ، ويناقش ما يناقضه فيدعمه بألف دليل.
ذلك رجل كان يقف في المحكمة فيهز مصر كلها، إذا ما أراد أن يستثير عواطف القضاة وحوح وولول وبكي وذرف الدموع..وقد يبكي بعدما يضحك أو يقطع النحيب ليضحك بأعلي صوته.
وحتي في ملامح جسده كان نموذجًا للعملاق: طويل القامة جدًان عريض الكتفين، ملامح وجهه البيضاوي بين الاسمرار والاحمرار، كل شيء فيه طويل:شاربه، ذراعاه،كتفاه،أنامله، وبالطبع لسانه.
عمَّر حتي زاد عمره علي الثمانين..شاخ كل شيء فيه ووهن عظمه، واشتعل الرأس شيبًا..شيء واحد بقي قويًا ، فتيًا، عصيًا علي الشيخوخة، مقاومًا للفناء:لسانه!
ذلك الرجل الأسطوري الذي كان القطار يقف له، حيث لا يقف لاحد في محطات صغيرة أو علي مشارف المدن الكبيرة، والذي قام قطار خاص مره لكي يقله إلي جلسة في إحدي المحاكم..طلب ملوك وامراء وده، وكسب مئات الألوف من الجنيهات، وخسرها كلها حتي عاد كما بدأ فقيرًا لا يملك شيئصا، لكنه مع ذلك بدأ من جديد..ومات وهو مستور أو يكاد.
محامي الظروف المخففة الذي يلتمس العذر للمتهم المدان، وينقذ ببراعته، وقوة منطقه مما ارتكبت يداه، يقامر بكل شيء في القضايا اليائسة، وينجح في فك حبل المشنقة عن عنق المتهم الذي تبت عليه الاتهام.
لكنه علي الرغم من هذا كله- وتلك هي المأساة- لم ينجح في التماس العذر لنفسه لأن ذنب إبراهيم الهلباوي كان مما لا تصلح مع ظروف مخففة.
فشل أعظم طلاب المرحمة في طلب الرحمة لنفسه من الشعب ..عجز محامي الظروف المخففة، ان يقنع "محكمة الشعب" بأن لديه ظرفًا مخففًا يستحق الأخذ به.
وعلي امتداد ثلاثين عامًا طويلة ، حاول أن يكفر عن ذنب ارتكبه، مستخدمًا كل طاقاته المذهلة، كل فصاحته، لسانه الذهبي، وقدرته الفذة علي المناظرة لكي يقنع رجل الشارع- الجاهل الأمي الذي تبهره البلاغة – ببراءته أو حتي توبته ، ففشل، وأصم الشعب أذنيه، وأغلق قلبه وغلظت عواطفه أمام ولولة الهلباوي، كان مما لا يصلح مع ظروف مخففة أو ما يجوز أن يقيَّد في كشوف المرحمة
لقد كانت جريمته كما وصفها عبد العزيز جاويش علي صفحات "اللواء" جريدة الحزب الوطني، ذكر فيه الجميع بمرور ثلاث سنوات علي تنفيذ الحكم والإعدام في حادثة دنشواي قال :" سلام علي أولئك الذين وقف "هلباوي بك" فثار فيهم ثوران الجبارين، ثم ثني علي رقابهم فقضمها، وعلي أجسامهم فمزقها، وعلي دمائهم فأرسلها تجري علي الأرض، تلعن الظالمين، وتتوعد الآثمين"واتهمه علنًا بالعمالة للاحتلال وإلا ما قدم أهالي دنشواي قرابين إلي هيكل الاحتلال الذي هو معبد الخائنين وقرة أعين المارقين"
قدمهم إلي الهيكل ببراهين يعلم أن حظها من الصحة كحظه من الوطنية، وقربها من الحق كقرب موقفه من العواطف البشرية،لكنها أموال استهوته،ومناصب استغوته،وعظمة للاحتلال استرغبته،فأنطقه هذا كله بما انطقه الرغبه في الألقاب والمناصب وعوز النفس إلي الشعور بالواجب.
ووضع الشيخ جاويش النقط علي الحروف، فأكد أن الهلباوي قال ما قال في المحكمة لتروي عنه كلماته ؛ فيكرم الانجليز وفادته ويجيبوا مطالبهن ويأخذوا بيده إذا ما رغب إليهم في بعض وظائف الإدارة أو الاستثارة.
وحول قصة صعوده وانحداره ومشاركته في الحكم علي ضحايا دنشواي يأتي كتاب "حكاية جلاد دنشواي" لصلاح عيسي في خمسه فصول، يتناول الفصل الأول قصة صعود إبراهيم الهلباوي إلي القمة ، والفصل الثاني يوم دنشواي ، والثاث بعنوان عدل لابس طرابيس ، والرابع آخر ساعات المجد، والخامس،عدل لابس برانيط
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. سوريا تحضر لمرحلة ما بعد الأسد | ال
.. سوريا: تواصل عمليات البحث عن محتجزين في السجون الكبرى
.. سوريا: كيف يعيش السوريون أول ليلة تحت حظر التجول في دمشق؟
.. أحزاب المعارضة في كوريا الجنوبية تفشل في تمرير مشروع قرار با
.. لماذا قامت إسرائيل بإلغاء اتفاقية -فض الاشتباك- لعام 1974 مع