الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


يوميات عاشوراء ( 2 ) في ليلة الحجة

اسماعيل شاكر الرفاعي

2022 / 8 / 18
المجتمع المدني


“ المقتل بصوت عبد الزهرة الكعبي "

لم يؤثر شيء في مشاعر ووجدان شيعة العراق ، قدر التأثير الكاسح الذي مارسه الشريط الصوتي الذي كنا نسميه : المقتل . فمع سماعه نستقل بمشاعرنا وتفكيرنا عن كل ما كان يثير اهتمامنا من احداث العالم واحداث الجوار الاقليمي ، ومن ضمنها : احداث الدولة التي تضمنا . يعزلنا " المقتل " عنها ، ويمنحنا رؤية جديدة للكون والحياة ، تُغيّر كثيراً من نظرتنا وتقلبها : من دعوة مفتوحة الى العمل والدراسة وحب الحياة ، الى دعوة للدفاع عن الذات المهددة من الدولة نفسها . فكثيراً ما كان خيّالة الشرطة يغزون تجمعاتنا ويفرقوننا ونحن نستمع الى : المقتل . لكن ذلك كان يقوي من شعورنا باننا ننتمي الى الامة التي على حق ( رغم ان مفهوم الحق كان ضبابياً وغير واضح في ذهني ) والتي تولد مع ميلاد شمس يوم العاشر من عاشوراء ، محمولة على طبقات صوت الشيخ عبد الزهرة الكعبي . وحين أتأمل الان فترة يفاعتي ، يتأكد لي : ان اولى مفاهيمي السياسية والفكرية والدينية : كانت تنطلق من مقتل الحسين وتدور حول تلك الواقعة ، وان تلك المفاهيم كانت الوقود الذي يزودنا بالايمان باننا لا نختلف عن الامم القديمة ، فنحن مثلها نملك عوامل العصبية والتفاخر واستشراف الهدف البعيد . ونملك ايضاً ما تملكه الامم الحديثة من عناصر التوحيد : كالأرض واللغة والتاريخ والآمال المشتركة . فنحن بقياس الماضي : امة من امم المشرق التي يوحدها الدين او الطائفة والمذهب ، ونحن بقياس الحاضر امة حديثة طالما نتحدث ونتناقش حول مفاهيم حديثة كالدستور ومؤسسات الدولة الحديثة ، الّا اننا لا نملك عمقاً حضارياً انتج تفاعل مراحله : الحداثة السياسية ، فنحن لم نمر بمرحلة او بعصر الاكتشافات الجغرافية ، ولا بعصر النهضة والإصلاح الديني والأنوار ، ولا بمرحلة الاستعمار ونهب ثروات الامم ، ولم نملك ما يكفي من العلوم والنظريات العلمية فنكتشف تكنولوجيتنا الخاصة ، ولهذا لم تحدث في تاريخنا الثورة الصناعية . وحين غزتنا امريكا 2003 ، كنا نشبه الصحراء سياسياً فلم نكن نملك حزباً ليبرالياً ديمقراطياً واحداً . والحق ان الشيعة لا يتحملون وحدهم مسؤولية عدم ايجاد نظام سياسي يحترم كرامتهم كبشر بل يشاركهم في ذلك الكرد والسنة والأقليات الاخرى ، اذ تخلو جميعها من تأسيس حزب يعمل على : ايقاف الممارسات التي تذل المواطن وتقلل من كرامته ، ولهذا ظلت فكرة تحقيق كرامة المواطن عن طريق العمل السياسي مجهولة : مع انها مفتاح تحقيق الديمقراطية والحرية وازالة الدكتاتورية والاستبداد ، ليس على مستوى مؤسسات الدولة فقط ، وانما على مستوى الانظمة الداخلية للأحزاب .

قبل عام 2003 لم تتأسس في الوسط الشيعي احزاب هدفها الاستقلال السياسي وتكوين دولة . لقد تكونت في هذا الوسط احزاب طائفية ، غلّبت الديني على الوطني في مواقفها السياسية ، ولكنها لم تنحو منحى الدعوة الى الانفصال عن دولة العراق وتأسيس دولة الطائفة الشيعية . وعلى طول تاريخ تعايشهم مع غيرهم ، لم يطالبوا بحكم ذاتي او بدولة مستقلة ، ومن الضروري قراءة آرائهم السياسية ومحاكمتها في ضوء أوضاعهم وطريقة تعامل الدولة معهم . والاحزاب الطائفية التي أسسوها هي في التحليل الاخير : رد فعل على الطريقة الاستبدادية التي تعاملت بها الدولة مع الشيعة أولاً ، وثانياً لتأكيد الذات بعد خروج جميع الاصوات السياسية للعلن بعد ثورة 14 تموز المجيدة ، ولكنها انتهت - كما انتهت كل الحركات السياسية والفكرية التي رفعت شعار : " الدفاع عن الأصالة يمر عبر مقاومة الحداثة " - الى حركات يمينية متطرفة تحارب العلم والعقل وتعلي من شأن الاسطورة والخرافة .
لا يطالب احد اليوم ، ولم يطالب احد في الماضي بان تلغي المذاهب والأديان كينونتها ، وان تعيد صياغة ذاتها في ضوء المفاهيم السياسية الحديثة ، بل هي مطالبة امس واليوم بان تعترف بولادة تاريخ حديث افسح مجالاً كبيراً للتعددية بدل الواحدية الدينية ، والنسبية بدل الإصرار على حيازة الحقيقة كل الحقيقة دون جدوى . وكل مسار واحداث التاريخ العالمي الحديث عبارة عن التوسع المستمر في احتضان المختلف والمغاير وحتى الرافض والمحتج ، وان التكيف بطريقة لا يفقد فيها الدين او الطائفة وجودها هو الحل الأمثل لتعايش المؤسسات القديمة التي تقوم على ادعاء حيازة الحقيقة بشكل مطلق ، مع المؤسسات الحديثة التي تقوم على نسبية الحقيقة وعلى تطور العلوم والتكنولوجيا .

كنا نستمع الى " المقتل " من إذاعة الأحواز الايرانية ، حين تَتَكَدّش سلطاتنا ولا تسمح لإذاعة بغداد بأن تبث " المقتل " فتضطر الملايين الى الاستماع اليه من إذاعة الأحواز العربية في ايران . في المقتل نقل الينا صوت عبد الزهرة الكعبي ما رواه المؤرخ : ابو مخنف ، من ان " شمر بن ذي الجوشن " ، ما ان حزّ رقبة الحسين حتى توقف كل شيء عن النبض في جسد الامام ، واذكر انني كنت التم على نفسي واضغط بعضي ببعضي ، وازحف الى الامام ، وارتد الى الخلف ، حين يصل " المقتل " بصوت : عبد الزهرة الكعبي الى رواية هذا المشهد . لم استمع في يفاعتي لصوت له ما لصوت عبد الزهرة الكعبي من إيحاءات روحية وتأثيرات عاطفية الّا صوت المقريء ؛ عبد الباسط عبد الصمد ، كان جلال هذين الصوتين يحملانني الى خارج المكان الذي ادور فيه على نفسي ، ويقتحمان بي عوالم اخرى لا ارضية ولا سماوية ولا ما بينهما . انها عوالم خاصة بصوتيهما اللذين يتمددان تحتنا ، ويحملاننا الى آفاق : لم تحملني اليها قبلاً اصوات المنبريين من الشراح والمفسرين والمبسطين للمفاهيم والنظريات الدينية وغير الدينية ، لكن بطريقة المعلم القديم الذي يملي عليك والعصا في يده ، كي تتقبل إملاءاته من غير سؤال ولا مناقشة ، ثم في نهاية عاشوراء يأخذون أتعابهم بالآلاف ويرحلون الى مدنهم ، من غير ان يلتفت وراءهم قلب او يتذكرهم وجدان ...

الحسين امام ، والامامة تشكل حجر الزاوية في الفكر الشيعي . وفي الفكر الشيعي يتم النظر الى الحسين والى باقي أَئمة المذهب الاثني عشري على انهم معصومون . اضافة الى انهم يحملون امتياز : الولاية التكوينية التي تؤهلهم لاختراق نواميس الطبيعة وادارة الكون ، ولهذا لا يتقبل الشيعة ، او من الصعب عليهم ان يتقبلوا روايات المؤرخين للأحداث التي عايشها أئمة الشيعة . فاكبر المؤرخين الاسلاميين كالطبري والمسعودي وابن سعد وحتى صاحب السيرة : يروون الاحداث لنا كما لو كان اصحابها بشراً عاديين ، ولم يكونوا من القلة التي تم اختيارهم من قبل ربهم ليكونوا اوصيائه وظلاله في الارض . ولذا لم اكن اصدق في قرارة نفسي ان الحسين مات بأثر من السيوف والرماح ، دون ان ترتد على مطلقيها ، ومن غير ان يشل الله : الأيدي التي أطلقت السهام والرماح . ولهذا لم اصدق حكاية " الشمر " الذي يملك ان يرى ما لا يمكن لعينيه رؤيته ، وان يطعن ما لم تكن مادته قابلة للطعن . لقد نصَّ الله بنفسه على ان يكون الامام الحسين هو الحاكم وليس ابن معاوية . ولهذا كان شك عظيم يراودني حول " المقتل " لما فيه من تناقضات : فهو مرة يحدثني عن عصمة الامام وعن ولايته التكوينية . ومرة يحدثني عن ذبح الامام وعن توقف جسده عن الحركة . كلا ، نهضتُ صارخاً ، وانا اشق ثوبي بعنف من الطول الى الطول : ملوحاً بيدي امام الجمع الغفير من الناس الذين كانوا يشاركونني الاستماع الى " المقتل " :- لا ، لا اصدق ، الحسين لم يمت ، ولم يتمدد على الارض من كثرة الجراح ابداً ، ولم يترجل اليه الشمر . وفي الليل وانا أتمدد على فراشي ، كنت اردد مع نفسي : لا احد روى لنا الحقيقة ، لا ابومخنف ، ولا الذي سبقه او تلاه . كان ابو مخنف اعمى ، وجمع ما سمعه من الرواة ، ولم بجمع ما رآه . وتلقف الطبري روايته ووضعها كوثيقة صادقة في موسوعته التاريخية : الرسل والملوك . لكن الطبري وقبله ابن مخنف وسواه ، كانوا رواة ملهمين ، مكنتهم طرقهم السردية وأساليبهم اللغوية من اقناعنا بان ما رووه هو الحقيقة . الم تقنعنا طرق السرد قبلهم بان الكثير من انبياء اليهود طاروا الى السماء وقابلوا الله ، وادوا الصلاة في البيت المعمور الذي بناه الله في السماء بعد ان هدم الرومان الهيكل . وصدقنا انهم عرجوا في السماء بالعربات والخيول ذاتها التي رسموها . ثم جاء كتاب الف ليلة وليلة ، وهو يضج بالكثير من الحكايات التي أقنعتنا طرق سردها بصحة وواقعية حكاية البساط السحري ومصباح علاء الدين ومغامرات السندباد البحري وسواها ، وفي أيامنا تمكن الروائي الكولمبي ماركيز في روايته ، 100 عام من العزلة ، من إقناعي بطيران الفتاة الى السماء . وربما لو رواها غيره لفشل في إقناعنا بقدرة الفتاة على الطيران . ومثله فعل العراقي احمد سعداوي قبل سنوات وأقنعني عبر سرد خاص بقدرة الاحداث على صناعة بطل روايته : " فرانكنشتاين في بغداد " بجمع وخياطة اعضاء سليمة من ضحايا الحرب الاهلية في العراق .

التاريخ وثيقة ، وتحقيق حول صحة الوثيقة ، وانا شخصياً لا اصدق بتاريخ قديم او حديث من غير ان يبرهن المؤرخ على صحة وثائقه . ولكن التاريخ بالنسبة لمن كان كل تاريخهم انتظاراً : ان بساعدهم على التحقيق الفوري لما تاقوا وصبوا اليه .
لا قدرة لنا على الانتظار : فقد اجاعونا وسرقوا ما نملك وتركونا عراة ، وكبلونا بالخوف وحذرونا من ان نحمل جرثومة توق الفقراء الأبدي االى التحرر والحرية . كان ابومخنف من هؤلاء الرواة ، اي كان يملك موهبة الأقناع . ولكن ابا مخنف تورط في اخبارنا بموت من لا يموت ، لقد أباحت كلماته لنفسها ان تخبرنا بموت مَن جاء لينقذنا . هل ثمة ابشع من هذا المصير الذي تلقننا كلمات ابي مخنف تقبله والتعايش معه . ولكننا كنا نرفض الاستسلام لليأس ، مع ان دموعنا تجري مدراراً ، ونحن نستمع الى " المقتل " .
و كنا نهذي ونهجر متسائلين : من سيقوم بالثورة بعد الحسين ؟ وشرط النجاح ان يصمد وحيداً امام جيش جرار يبعد عنه أمتاراً ويحاصره من الجهات الاربع . وان يتدافع هذا الجيش ليس الى الامام ، الى صوب الحسين بل الى الوراء ، الى الخلف هروباً من هيبة هذا الفرد المتعالي بكبرياء تحدي الموت . كان هذا موقف اكثرية جند زياد . وانا لا انكر ان الاقلية التي وعدتها السلطة بالهدايا وبالمناصب الثمينة هي التي تجرأت .. ودائماً الاقلية في التاريخ هي التي تتآمر وتندفع الى إشعال الحروب والحرائق والفيضانات ، والى اغتيال العظماء ...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. #المشهد_اللبناني - سيليا خاطر: هذه أبرز الإرشادات لحماية الأ


.. ديلي ميل: تحقيق يكشف تورط خفر السواحل اليوناني بقتل عشرات ال




.. مؤسس نادي كرة قدم للمكفوفين في العراق يروي قصته بعدما فقد بص


.. عراقيون كلدان لاجئون في لبنان.. ما مصيرهم في ظل الظروف المعي




.. لدعم أوكرانيا وإعادة ذويهم.. عائلات الأسرى تتظاهر في كييف