الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


شهادة جندي عراقي على حرب 2003

محمد لفته محل

2022 / 8 / 20
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


مقدمة:
غالبا ماتكون شهادات الحروب مكتوبة من قبل الجنرالات في شكل مذكرات في كتاب بعد الحرب لكن الجندي الذي خاض هذه الحرب وكان حطبها ووقودها يغيب عن التاريخ وتختفي شهادته عن مسرح الوقائع، ويبقى الميدان لمن لم يكونوا فيه عن قرب.
ورغم اهمية المذكرات الخاصة بالقادة لأنها بحكم الوظيفة اوسع من رؤية الجندي للميدان، فلا تقل عنها فائدة شهادة الجنود، فتصوراتهم عن الحرب وروحهم المعنوية الجماعية لاشك انها تشكل عنصر فاعل في التأثير بمسار الحرب سلبا او ايجابيا، ثم ان الجندي هو من ينفذ القرارات ويعيش تفاصيلها من مصاعب وقلق ودم وأمل، ومن غير المعقول ان يستطيع قائد كفوء الانتصار في معركة جنوده لايعتقدون بجدواها او ان معنوياتهم منهارة او لايفهون خطتها او هدفها الخ.
من هنا تأتي اهمية هذه الشهادة في حرب الخليج الثالثة. وهذه الشهادة وان كانت فردية الا انها بتصوري تعكس جزء من الوضع النفسي والمعنوي العام للجيش العراقي والمجتمع عام 2003 ، بدليل انهيار الجبهات بسرعة متشابهة والفرار الجماعي للجنود وسقوط العراق في فترة وجيزة اذهلت كثير من المحللين، ومثلما يمكن القول ان التفوق التكنولوجي هو المسؤول عن هذه السرعة في احتلال العراق، لايقل عنه صحة القول ان انهيار الروح المعنوية للجيش وفقدان الشرعية الشعبية والسياسية للنظام هو المسؤول الاول عن احتلال العراق. لهذه الاسباب ارى ضرورة هذه الشهادة لهذه الحقبة المريرة من تاريخ العراق لتكون عبرة للمستقبل وفهم للماضي.
تمت المقابلة بتاريخ 2022/7/12 و2022/7/13 صباحاً مع الجندي السابق في الجيش العراقي مصطفى الذي يتذكر الحرب بعد 18 عام كأنها البارحة كما يقول، ويتكلم عنها بتفاعل ولن ينساها لأنها حدث اثر فيه وسوف يقصه على اولاده، هي شهادة شفوية يرويها لي بذاكرة ممزوجة بالمرارة والمأساة والعبر.
الخلفية الاجتماعية للجندي مصطفى انه من مواليد 1982 في بغداد مدينة الثورة، وهو الرابع من 12 فرد، لعائلة ميسورة الحال في فترة الثمانينات وفقيرة في فترة التسعينات، حاصل على التعليم الابتدائي (لم يكمل اول متوسط)، وامتهن وهو صغير (في الثاني ابتدائي) بيع الماء والاكياس والاحمال وعدة مهن اخرى. ومن الناحية النفسية هو شخص عاطفي، ذو تفكير ديني، محب لاكتساب المعرفة العامة. وشكله وسيم ودود.
طٌلبت مواليد مصطفى للتجنيد عام 2001 وكانت تصوراته عن الخدمة العسكرية انها "مهانة" ويتذكر اليوم الاول عند وصوله لمعسكر تدريب حيث تعرض الجميع للضرب بالأحزمة من قبل العرفاء قبل ان يكملوا نزع الملابس المدنية لارتداء الزي العسكري في ساحة التدريب، والعرفاء يرددون: "انسى حياتك المدنية وابدو حياتكم العسكرية".
يقول مصطفى: "معسكر تدريب بي عقوبات قاسية، جنه ندور على المكانات الزينية مثل الانضباط او الحرس الخاص، بس شيحصله.(يقصد ان الحرس الخاص صعب المنال) وجنه نتهرب من اللجان الخاصة من الحرس الجمهوري اللي تختار مواصفات خاصة من الجنود وتنقلنا لاماكن متعبة مثل الحرس الجمهوري وضابط صف. واسوأ مكان بالجيش هو المشاة."
اصبح مصطفى من صنف المشاة ونقل من معسكر تدريب في كميت العمارة الى محافظة كركوك منطقة تنكوبري وهناك تم ترشيحه سرية الاسناد، الفوج الاول، لواء 29، الفرقة الرابعة، الفيلق الخامس، قوات القعقاع.
يقول مصطفى: "عند وصولنا اجلسونا على الارض (على طريقة التأمل البوذي) وجاء المقدم يقف ببسطاله على ركب الجنود الجالسين ويسأل عن اسم الجندي ومنطقته ثم يسجل الاسماء وبعدها يقوم بترشيحهم." وقد رشحه المقدم الى آمر مفرزة الهاون وهو تخصص مصطفى النهائي.
ويضيف مصطفى: "كان تدريب الاحمال يبدأ من 12م وينتهي حوالي 6م (تدريبات وهمية للحرب) ايام الله لايعودها، جنا نموت من العطش."
كانت الوحدة بلا كهرباء والجنود يستخدمون "الفسفوسة" (قنينة زجاجية مملوءة بكاز السيارات العسكرية تتوسطها فتيلة مبرومة من حبال الخيم ويلثم جزئها المشتعل عجين او تمر يلتف حول فوهتها الضيقة) ولايربط مصطفى بالعالم الخارجي سوى جهاز راديو يستمع فيه ليلاً للأغاني عند اداء الواجب منفرداً. ولم يكن في الوحدة تجهيزات منام. والوحدة مكونة من ملاجئ محفورة 2X2 م تسمى حضيرة، مسقفه بالصفيح. والواجبات كانت ساعتين يليها ساعتين استراحة.
يقدم في الوحدة ثلاث وجبات وهي الفطور المكون من شوربة وشاي تقدم في الساعة الخامسة صباحا، والغداء المكون من تمن ومرق (مرقة هواء: وهي بصل وماء)، والعشاء المكون من سوب ودجاج او بطاطا مسلوقة.
بدأت افكار مصطفى عن الحرب من سماع الاهل والاقارب والاصدقاء عن قرب "ضربة" من بوش على العراق. حرب بلا احتلال او سقوط نظام هكذا تصورها، ولانه لم يخوض حربا لم يتوقع هولها.
وعندما سالته عن استماعه للاخبار العراقية رد باننا كنا نعتربها "جذب بجذب، ولم نكن نسمعها". وكان مقتنعا ان الجيش العراقي قوي، وعززت مشاهد التجهيزات البعثية (بناء سواتر من اكياس الطين داخل المدن) تصوره ان العراق لن يخسر المعركة.
بتاريخ 13 او 14 اذار التحق مصطفى الى وحدته بالموصل بعد اجازة قضاها في بيت اهله، كانت الطرق سالكة والسيطرات رابظة في مكانها رغم الاستنفار الامني.
عرف مصطفى بيوم الحرب من خلال احاديث الجنود وليس من مصدر رسمي، ويومها اخذ الرائد برفقته مصطفى الى معسكر الغزلاني لابدال المدفع التابع للفيلق الخامس وهو مخزن خلفي. وقد شاهد مصطفى الناس وهي تغلق المحلات وتحمل حاجياتها للهجرة الى الوديان وسمع انهم يهاجرون الى كردستان. كانت لديه رغبة بالهروب لكن البعد عن الاهل كان عائقا امام ذلك وكما يعلق مستذكرا: "وين تطي وجهك؟ اهالي الموصل موالين لصدام، هذوله مو ناسي"
لم يكن الجنود يبوحون بموقفهم عن الحرب وكان السكوت هو السائد، وقد بدأ البعثيون يصادرون اجهزة الراديو من الجنود منذ اول ايام الحرب. ولم تتشكل التصورات الاولى للحرب عند مصطفى الا حين شاهد بالصدفة اول تلفاز يبث اغاني وطنية عن الحرب عندما كان يريد الاتصال باهله.
يقول مصطفى: الايام الاولى الثلاثة من الحرب كانت الواجبات روتينية مع التشديد، لكننا لم نخوض اي قتال او اشتباك.
في اليوم الثالث سمع مصطفى ازيز رصاص وصياح وقذائف هاون السرية المتقدمة وباشر بأطلاق الهاون مدفع 106 ديمتروف مع هاون 82 مع القنص والبنادق حتى انسحب الهدف (كما سمع من اقرانه)، استمرت المعركة نصف ساعة، تلتها احتفال الجنود باطلاق الاهازيج (هوسات) وكانو فرحين من كل قلبهم. وسمع ان العدو كان سيارات باجيرو فيها امريكان واكراد مدنيين كانوا يصورون الموقع العسكري بكاميرات وانسحبوا بعد ان "اذيناهم" كما قال الجنود.
عند العصر حلقت طائرة f16 فوق الوحدة وقصفت ساحة العارضات بعشرة صواريخ تقريبا وقصفت الرادار الذي اطفأه الجنود وهربوا (كما سمع) مستخدما صوت الطائرة (كزوز) لإرعاب الجنود. بعد ان غادرت الطائرة هرب الجنود والضباط عشوائيا من الفوج الى الوديان المجاورة ومصطفى يدعو خائفا "ياعلي احضرنا، يابو الحسن احضرنا" وبكى في الوادي لانه كان وحيدا والجو ممطراً وبارداً. وتلك لحظات فاصلة في ادراكه لمعنى الحرب.
جاءت وحدة من الاستخبارات للفوج تلبس الزيتوني وقامت بتوبيخ الجنود والضباط وارجعوهم للوحدة، وقام احد الضباط الهاربين بتوبيخ الجنود وكأنه لم يكن مختبئا بالوادي.
رجع مصطفى للوحدة عند الليل بسبب البرد والوحدة ويقول: لكيت الفصيل افراد قلائل متأذين، ملابسهم مبللة وجوعانين والمعنويات منهارة. لان الارزاق انقطعت من اليوم الاول للحرب.
تبادل الجنود احداث هروبهم وهم جوعى. لم يكن مصطفى مرتاحاً لان صوت الطائرة كان يسمع بالجو، واقترح على زميله ان ينام في الموضع، وفعلا عاودت الطائرة قصفها لساحة العارضات الساعة 4ص ومستخدما صوت المحرك (كزوز) لارعاب الجنود، اثناء ذلك توعد زميل مصطفى بالانتحار ببندقيته اذا تعرض لجروح. عند الصباح اقترح مصطفى على زميله الهروب من الفوج، وعندما خف صوت الطائرة ركضا معا فتعثر مصطفى وسقط فوق شخص بالموضع وهو مخابر الفوج، صاح مصطفى بوجهه: "انت المن باقي؟" رد عليه المخابر بعصبيه: "نعله على ابو الفوج".
مشى الجنود الثلاثة خارج الفوج بين الوديان وكانو غير مسلحين باستثناء احدهم يحمل جعبة رصاص على صدره. نزلوا الى قريه اسمها خزنة وهي قرية ريفية بيوتها من الطين واهلها يمتهنون رعي الغنم. وهناك وجدوا شيخ عجوز (لم يكن يجيد العربية) اخبروه انهم جوعى، فقدم لهم اللبن والخبز والشاي. عرض عليهم شاب من ابناء القرية ان يسلموا انفسهم لقوات البيشمركه، فرفض الثلاثة لاعتقادهم ان الاكراد يذبحون الجنود. كانت نية مصطفى ورفيقيه العودة للديار وكما يقول مصطفى "جنا نجذب على نفسنا" (لاستحالة العودة بتلك الظروف) خرجوا من القرية محاولين السير بين الفوج الاول والبيشمركه من خلال الوديان لكنهم تفاجئوا باطلاق نار فوق رؤؤسهم، انبطحوا وواصلوا المسير قليلاً، تكرر التعرض باطلاق النار نحوهم ثم سمعوا صوت يصيح بهم: "ابو خليل تعال" (ابو خليل: لقب يطلق على اي جندي) رفعوا ايديهم وسلموا انفسهم واحد رفاقه نزع فانيلته واخذ يلوح بها كإشارة للاستسلام وكانوا قلقين، نزل عليهم ثلاث اكراد مسلحين بكلاشنكوف بزي كردي (سروال وغتره) يحملون اجهزة نداء (موتريلا)(انتبه مصطفى للفارق التقني عندما شاهد اجهزة النداء وقارنها بأجهزة النداء القديمة والثقيلة للجيش العراقي) وقاموا بتلقف جعبة الرصاص وتنازعوا بينهم على حيازتها. يقول مصطفى اخذونا الى نقطتهم في اعلى تلة وتجمهروا حولنا، خرج من بينهم شخص يبدوا مسؤول وسالنا عن معنوياتنا. ثم اجبرونا على عبور زاب (نهر) موجه قوي وسريع، وساعدونا بعبوره بمد حبال الينا ملتفه حول خصورهم كي نعبر. سألونا بعدها عن سلاح الجيش فقلنا لا. (في اشارة الى عدم تعاونهم بشعور وطني)
اخذونا في سيارة نوع لاندكروز وسط جنود الاكراد، عندها حلّف مصطفى الجنود الاكراد ان لايذبحوهم، فضحك الاكراد ورد المسؤول معلقا: "سمعتوا من صدام؟ احنا اسلام ماعدنا هذا الشي."
مشت السيارة مايقارب 2 كيلو ونزلوا الى خيمة خرج منها جندي امريكي يحمل جهز لاسلكي ثم خرج امريكي اخر بعده يحمل سلاح جي سي ومعهم مترجم. سلم عليهم وسالهم الامريكي: "شلون المعنويات؟ جماعتكم وين؟، احنا نشوفكم، احنا ماجين عليكم، جاين على صدام، احنا انشوفكم بالطايراة بس مانضربكم، احنا صار اسبوعين نتفاوض ويه الآمر مالكم حتى يسلم بس ماسلم وظل يعاند، احنا من ضربنه المكان البعيد (ساحة العارضات) نريدكم تسلمون نفسكم"(عبر المترجم) وختم حديثه "انتم جوعانين"
اجاب الجنود: "ميتين من الجوع".
قال الامريكي: "اخذوهم"
اخذوهم بسيارة اللاندكروز الى اربيل، في الطريق توقفت السيارة امام موكب مصطفى بارزاني (اخ مسعود بارزاني) وترجل وسلم عليهم (الجنود الثلاثة) وقال: "جوعانين" وامر بجلب الطعام لهم من موكب السيارات وكانت ثلاث ارغفة وبيض وبطل ماء. وصلوا لمعسكر في اربيل خاص بالبيشمركة وتجمهر حولهم الجنود الاكراد بعجب. اخذوهم لغرفة وجلسوا على الارض وعند الظهر جلبوا لهم الغداء من الرز ومرق الدجاج والبطاطا في اواني (على شكل بلم) بعد الغداء قام كردي يحمل ورقة وقلم بالتحقيق مع الجنود ويسجل افاداتهم وكان يسال عن المعنويات ونوع السلاح وحقول الالغام والطرق الميسمية (الطرق الامنة من الالغام). رفض مصطفى التعاون معهم لخوفه من عدم سقوط النظام.
بعدها اخذهم كردي في سيارة برازيلي الى السوق وتسوقوا فواكه من بينها كيوي ثم اخذهم الى مدرسة وكانت مايشبه الحجز وهناك تفاجئ الثلاثة بوجود ثلاث جنود من فوجهم مسجونين كانوا سبقوهم بالهروب، وبعد تبادل السلام الحار عرفوا منهم انهم هربوا من اليوم الاول للقصف دون ان يلحظ احد غيابهم. اغلق باب الصف وكانت المدرسة محاطة بالحرس الكردي. وعند الليل جلبوا الى الصف (الحجز) مزيد من الجنود الهاربين او المستسلمين.
في اليوم التالي بعد تناول الفطور بدأ التحقيق مع الجنود الجدد في غرفة المدير من قبل جندي امريكي وكان يسأل ايضا عن المعنويات واسلحة الجيش. وكانت اجابات الجنود على سؤال المعنويات هي: "منهارة". التحقيق كان سريعا لم يتجاوز العشرة دقائق.
صوت القصف يخترق الجدران ويستمع الجنود للحرب وكانوا خائفين على اهاليهم، وسمعوا ان بوش سيقتل مقابل كل جندي امريكي أثنين من العراقيين وهذا مازاد القلق حتى ان مصطفى بكى خوفا على اهله.
نُقل الجنود الاسرى في حافلات (كوسترات) سارت مدة ساعتين حتى نزلوا في منطقة ديانا وتفاجئوا بوجود الامم المتحدة ومنظمات حقوق الانسان (الوقت عصرا) يقول مصطفى: جلسنا على الشارع العام وجلبوا لنا كباب وبجوارنا جرافات (شفلات) تحضر لنصب الخيم وقاموا بتوزيعنا كل 8 افراد لكل خيمة. وقضينا خمسة ايامنا نلعب كرة القدم وكرة اليد واقامنا موكب عزاء رغم القلق من ان صدام سوف يستخدم السلاح الكيميائي ضد شعبه. وسمعوا ان قائد الفيلق الخامس امر جنوده بترك السلاح. وخلال هذه الايام استطاع اب يبحث عن ابنه الوصول للمخيم ووجد ابنه، ومن شدة فرحته تعهد ان يوصل رسائل الاسرى لأهاليهم، يقول مصطفى استطعت ان استخدم غلاف علبة السجائر واكتب عليها عنواني لكي يصل الى اهلي.
حدث اضطراب بين صفوف الاكراد وسمعنا ان مصطفى البارزاني اصيب بالقصف بنيران صديقة، ولم يتوقف خلال هذه الايام توافد الجنود الاسرى الجدد مع الضباط. وفي اليوم السادس جاء الينا شخص سلم علينا وقال: تعرفوني؟ وقد تعرف عليه احد الضباط وكان مشعان الجبوري.
قال مشعان: "اني هنا موجود، ستحتاجون اني موجود"
قال الجنود: "نريد نتصل"
قال: "ماكو اتصال، البدالات (ابراج الاتصال) كلهن انضربن، راح اجيبلكم دش (ستلايت)
وفى بوعده وجلب لهم ستلايت وخصص له خيمة وشاشتين، تجمهر الجنود على الشاشات متلهفين لمعرفة اخبار الحرب، وتفاجئو بمشاهد السلب والنهب واسقاط تمثال صدام واكثر ما الام الجنود هو وضع العلم الامريكي على تمثال صدام، يقول مصطفى: البعض بكى والبعض تألم وكانت مشاعر مختلطة لاندري نبكي على من، على صدام ام على العراق.
في اليوم التالي طالب الجنود بالعودة الى ديارهم بعد ان ادركوا ان سقوط صدام حقيقي ونفذوا اضراب عن الطعام. وعدهم الاكراد بالعودة بعد ان تهدأ الامور. وبعد يومين اخذوهم الاكرد في باصات (نيسان) وقسموهم على اساس المحافظات، انطلقت الباصات وتوقفت في اربيل ونزلوا بعد ان طلب الاكراد من الجنود اقامة موكب عزاء بمناسبة شهر محرم، ثم سلموا لكل اسير مبلغ 10 الاف مصاريف العودة وركبوا الباصات مجددا، عند الليل وصلوا الى كركوك، تفاجئ مصطفى باسلحة الجيش متروكة بالشارع والجنود هاربين. وعندما طالب الاسرى الطعام ادخلوهم للفيلق الاول بكركوك واعطوهم معلبات الجيش الامريكي. تقزز كثير من الاسرى من معلبات الجيش الامريكي وواصلوا الطريق الى كراج النهضة حوالي 4ص وكان شكله مهجورا موحشا بلا حياة. وكما عبر مصطفى باثر رجعي "مهجومة هجم" في حين ان النهضة ليلا في الايام السابقة اشبه بالجنة من المطاعم والاضواء. حتى انهم لم يجدوا سيارات نقل لاخصوصي ولا عام. فقرر الترجل مشيا حتى وصل الى ساحة مظفر وهناك سمع صوت رصاص تحذيري من شخص مسلح، يقف في ساتر بناه البعثية. اتجه صوبه مصطفى وقال: كدت تقتلني.
سألهم المسلح: انتم منين؟ منين جايين؟
وعندما عرف من هم قال الحارس: عبالي انتم الفدائيين والوهابية.(يبدوا ان فكرة هجوم الفدائيين والوهابية كانت مستحوذة على العقول في تلك الفترة)
وبعد عبوره ساحة مظفر متجها للبيت صادف مصطفى بطريقه لأول مرة مواكب الزوار يمشون على الاقدام، وصل الى تقاطع 55 عندها وجد سيارات خصوصي ووجد بعض الطرق مغلقة من الناس لاسباب امنية. اخذ سيارة اجرة كرونه، وسألهم السائق: وين جنتو؟
قال مصطفى: جنه اسرى بالشمال.
وصل الى منطقته وعلق باثر رجعي مبتسما "هنا المأساة" اذ وجد اخوه يشتري الصمون، "صحت عليه بصوت مبحوح بالعبرة، وتعانقنا بالبكاء". وعندما رأته امه راحت تصرخ، وتفاجئ بلحية ابيه التي اطلقها حدادا على غياب ابنه. تجمهر الجيران واطلقت رصاصات الفرح.
يقول عرفت بعد ذلك ان اخ احد الجنود استطاع ان يصل للوحدة ويعرف اخبارنا نحن الثلاثة ويتصل باهلي ويخبرهم بحقيقة اسري لدى الاكراد.
واخيرا بعد ان انتهى مصطفى من شهادته سالته عن خلاصة تجربته، فقال: تعلمت الصبر واختلاف الازمان، لان القساوة قد تنفع.
الخاتمة:
في وقت كانت تدق طبول الحرب كان النظام العراقي يخدع شعبه ويحجب عنه الحقيقة، ولان الناس لم تكن تثق بإعلام النظام كانت الاشاعات والاخبار المتناقلة شفهيا هي المصدر الموثوق للناس عن الحرب، وهذا مازاد من ضعف النظام وفتح جبهة اخرى الى جانب الحرب الامريكية.
وعندما تبدأ الحرب يجند النظام في دعايته من كان يخدعهم للدفاع عنه، ولان النظام فاقد للشرعية السياسية او للعصبية (على حد تعبير ابن خلدون) كانت الروح المعنوية للجنود معدومة وتركوا للنظام يواجه مصيره الوجودي بالزوال. ولان بعض او كثير من الناس كانت تعتقد ان هذه الحرب خدعة لان صدام هو عميل لامريكا او عميل انتهت وحاجته.
فمن المفارقات ان الجنود بدل ان يتم تجنيدهم نفسيا ومعنويا للدفاع عن الوطن يتم تدريبهم على تعلم الاذلال والمهانة، ويكتفي النظام بتزويدهم بالأسلحة والمؤن متجاهلاً الجانب المعنوي الذي ركز عليه الامريكان كثيرا في تحقيقاتهم نظرا لأهميته في كل حرب.
لم تكن للجنود فكرة دقيقة عن الحرب الحديثة، لان العسكرية لم تكن لهم سوى اوامر وتنفيذ وعقوبات صارمة، وظلت فكرة الحرب على الطريقة الفروسية (جيش مقابل جيش بري) تستحوذ عليهم وساهمت بهزيمتهم.
ان الشهادة التي اعطتنا التصورات والنفسية التي كانت تجول في خاطر الجنود (على الاقل الوحدة المشار اليها) اثناء الحرب، حيث كان التفكير بالهروب والقلق على الاهل هو التفكير السائد بدل التفكير في الدفاع عن الوطن والتضحية بالنفس، انما العكس كان الخوف من انتقام النظام من شعبه يسبق او يساوي الخوف من الامريكان، بدليل ان الجنود طالبوا بالرجوع لديارهم حين شاهدوا تمثال صدام يهوي على يد القوات الامريكية، واستطيع ان اعتبر عدم وجود جرحى او شهداء (الا ماندر) والسقوط السريع للبلد دليل على التسليم الجماعي للجنود بدون قتال. ولاننسى انه في حين كانت بغداد تتعرض للاحتلال في هذه الاثناء كان الجنود يلعبون كرة القدم او كرة اليد ولا شيء يقلقهم سوى الخوف على اهلهم.
ليس النتيجة من هذه الشهادة تخوين الجنود او التلميح لها، فمع كل هذا الاحباط في المستوى المعنوي ابدى بعض او كثير من الجنود مشاعر وطنية ظهرت في التحقيق وفي مشاهد رفع العلم الامريكي على تمثال صدام، لكن ماجدوى هذه المشاعر امام نظام محنط وميت سريرياً، هو من اوصل الجيش الى هذا الافلاس المعنوي. فالشهادة تدين سياسات النظام وتحمله مسؤولية الهزيمة وفقدان القوة المعنوية وضياع البلد الى الاحتلال.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ماذا بعد موافقة حماس على -مقترح الهدنة-؟| المسائية


.. دبابات الجيش الإسرائيلي تحتشد على حدود رفح بانتظار أمر اقتحا




.. مقتل جنديين إسرائيليين بهجوم نفذه حزب الله بطائرة مسيرة


.. -ولادة بدون حمل-.. إعلان لطبيب نسائي يثير الجدل في مصر! • فر




.. استعدادات أمنية مشددة في مرسيليا -برا وجوا وبحرا- لاستقبال ا