الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حضارة القلق و إرادة النَّوَاكة - دفاعاً عن التفاهة و قتل الوعي

أيهم نور الصباح حسن
باحث و كاتب

(Ayham Noursabah Hasan)

2022 / 8 / 24
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


* مقدمة :
أقصد بالحضارة في مقالي هذا : حضارتنا الإنسانية منذ بداياتها و حتى الآن , أي منذ بداية الثورة الذهنية و تشكل الثقافات لدى نوعنا البشري الحالي " الهوموسابيان " قبل ما يقارب / 70 / ألف سنة , مروراً بالثورة الزراعية قبل / 12 / ألف سنة , ثم الثورة العلمية قبل / 500 / سنة , و حتى اليوم . ( 1 )
أما النَّوَاكَة فهي لفظ عربي يفيد في دمج معنى العَجز و الجهل معاً لتكوين معنى الحماقة , فالنَّوَاكَة هي الحُمْق الناتج عن العجز و الجهل , و يقال رجل أَنْوَك أي أحمق , و الأَنْوَك هو العاجز الجاهل و جمعه النَّوْكَى, و استنوَك الرجل أي صار أَنْوَكاً بمعنى صار أحمقاً فهو مُستنْوِك , و استنوَكتُ فلاناً أي استحمقته ( 2 ) , و قد طابق اللفظ تماماً ما أريده من معنى الحماقة في ورقتي هذه , فاستخدمته مسروراً , شاكراً لغتنا العربية الجميلة و عمالقتها من الفراهيدي و الفيروز أبادي و الزمخشري وصولاً إلى الراحل الكبير يوسف الصيداوي الذي لايزال صوته يصدح في آذاننا و هو يصحح تلفازياً أخطاءنا الشائعة بحق عربيتنا التي نرجمها بها كل يوم .

* مدخل إلى القلق :
الخوف شيء و القلق شيء آخر ..
فالخوف : شعور غريزي بالخطر , غالباً ما يكون آني أو مؤقت ينتهي بزوال مصدره , و الخوف شعور تشترك فيه جميع الحيوانات بما فيهم الإنسان , الإنسان الذي يعتبر نفسه اليوم محور هذا الكون الفسيح و مركز اهتمامه و محل عناية آلهته و خالقه , و لست أعلم يقيناً إذا ما كانت النباتات تشعر بالخوف , إلا أني أرجو ألا تكون كذلك , كونها لا تملك أي وسيلة للتصرف أمامه , فأن تموت دون شعور بالخوف , أفضل بكثير - على ما أعتقد - من أن تموت و أنت تشعر بالخوف الشديد مجرداً من أي وسيلة للدفاع عن نفسك أو من القدرة على الهرب على الأقل .
أما القلق : فهو شعور إنساني وجداني عميق بالاضطراب , مُلازم للوعي الإنساني , لايمكن تحديده أو تحديد سببه بدقة , لكننا نقول كما يقول الفيلسوف مارتن هايدغر أنه ناجم عن إدراكنا لوجود نقص ما في حياتنا و وجودنا , وعن ثقل و عبء الحرية و الاختيار و المسؤولية .
القلق شعور مستمر و ليس آني أو لحظي أو مؤقت كالخوف , يتسبب استمراره هذا بإرهاق و ألم نفسي للإنسان , فيسعى ما أمكنه لتلافيه إما بمواجهته أو بالهروب منه .
و القلق ميزة إنسانية خالصة , فالإنسان كائن قلِق , و هو – و بحسب حدود معرفتنا الحالية - الموجود الوحيد الذي لا يكتفِ بوجوده , و إنما يسعى لفهم هذا الوجود و أسبابه و غاياته و معناه , و يستخرج الأسئلة الوجودية و يطرحها على ذاته , و طالما أن أجوبة هذه الأسئلة لاتزال غير يقينية و ضمن إطار الافتراض و الظَّنّ و الماورائيات , و طالما هناك تساؤل عن صوابية الأفكار و الأفعال و السلوك و كماليته , فالقلق باقٍ و مستمر , رغم كل محاولات الإنسان للخلاص منه إما بالآلهة و الأديان و الفلسفات و الأيديولوجيات و العقائد , أو بالعمل و اللهو و العبث و الجنس و الإنجاب و الاستنواك .
ظهر القلق عندما ظهرت الأسئلة و القضايا الوجودية , و كلما ازدادت احتمالات الأجوبة و الخيارات المتعلقة بالقضايا الوجودية ازداد القلق الإنساني .
يُلازم القلق الإنسان أياً كانت قناعاته و أفكاره , فترى المؤمنين في جهد حثيث لإثبات ما يدعم و يؤكد صحة أديانهم و معتقداتهم , و ترى اللادينيين كذلك في نفس المسعى , " تَطُبُ " النساء فناجين قهوتها في محاولات لتبَصُّرِ مستقبلها , و يُنصِتُ عتاة الرجال بحذر شديد لما سيقوله لهم برجهم اليوم , عساهم ينعمون ببعض المساعدة في حصر خياراتهم أمام قرار ما قادم , بعض المجلات و الجرائد تُشترى لأجل قسم الأبراج و حظك اليوم و الكلمات المتقاطعة التي فيها فقط .
يفسر القلق أيضاً سرَّ ارتفاع مبيعات كُتب تفسير الأحلام و الأبراج , و انتشار الإدمان بكل أشكاله : الثقافي و الكحولي و المخدراتي و الجنسي و الرقمي التكنولوجي و إلخ .. .
يبني كل إنسان منظومته الخاصة لمكافحة القلق , بغض النظر عن صحتها أو منطقيتها أو عقلانيتها , فالقلق قادر على سحقنا بكل بساطة إذا لم نعرف كيف نناضل ضده , و تخضع هذه المنظومة للتغير و التبدل بحسب قوة أو ضعف الشعور بالقلق لدى الإنسان , تُشكل هذه المنظومة استراتيجية دفاعية متكاملة مهمتها النجاة من القلق , قد تنجح تارة و قد تخفق تارة .
معظم الناس لا تستطيع أن تفهم و تتفهم أسباب ميول الآخرين للاهتمام بشيء آخر مختلف عن اهتماماتها هي , فترى محبي متابعة كرة القدم يستغربون ممن لا يحبون متابعتها , و محب القراءة يستغرب ممن يصرف وقته على الألعاب الإلكترونية , و محب لعب الورق يتضايق من حضور محب النقاشات و الحوارات قبل بدء اللعب بقليل .
يُقسِّمُنا القلق إلى مجموعات و فرق و " شِلل " , فأغلب تصرفاتنا - عاداتنا - هواياتنا , تعود للطريقة التي اخترنا كيف نجابه قلقنا بها , بحيث ينجذب متشابهو منظومة الكفاح ضد القلق لبعضهم البعض و يتنافرون باختلافها .
يختصر الدين الكثير من القلق الوجودي لدى المعتنق و أحياناً كثيرة يكون هو الملجأً للتنصل من محاولة السعي وراء الإجابات التي يطرحها القلق الوجودي , و يهمني هنا الدين الإسلامي كونه الدين الأكثر انتشاراً و تأثيراً في عالمنا العربي , إذ يعطي الإسلام للمسلم أجوبة الأسئلة الوجودية الأساسية بصيغة أوامر و قواعد جاهزة لا تقبل النقد أو الشك :
من أنا : أنا عبد الله .
لماذا خلقت : كي أعبد الله .
الغاية : امتحان الإيمان و الكفر .
المصير : البعث و القيامة و الحساب ثم الخلود إما فائزاً أو خاسراً .
بشكل عام , يرتاح المتدين من كل القلق الوجودي الذي تسببه هذه الأسئلة , و لهذا يصف المؤمنون أو المتدينون عموماً دينهم ( أياً كان ) بأنه يبعث على الراحة و الاطمئنان .
لكن تبقى هناك بعض القضايا الحياتية التي يشعر معها المتدين بالقلق ( لذا أوجد المتدينون مسألة الفتوى و الاستفتاء) فتراه يستفتي شيخه أو رجل الدين بالعديد من المسائل التي قد يراها غيره تافهة ولا تحتاج السؤال ، لكن المسألة هنا لا تتعلق بعمق أو سطحية السؤال بقدر ما تتعلق بمحاولة الهروب من القلق الوجودي للسؤال و محاولة العثور على جواب يعفي السائل من ثقل الحرية المتروكة له في اتخاذ القرار , و بالتالي الهروب أيضاً من ثقل صوابية القرار ومدى ملائمته وتناسبه مع الأحكام الدينية و العقيدة و الشريعة .
فعندما يستفتي المتدين رجل الدين في مسألة ما و يقوم بتنفيذ ما قاله له رجل الدين فإنه يتخلص من قلق وجودي عظيم بالنسبة له ، يتجلى في أمرين :
1- التخلص من الحرية
2- التخلص من ألم الشك حول الصوابية ( الحلال و الحرام )
إن كل ذات إنسانية في مرحلة ما , يتوجب عليها مواجهة قلقها الوجودي وهنا تكون أمام أحد طريقين :
1- مواجهة هذا القلق و السعي لفهم وجودها و كينونتها و صناعة مصيرها كوجود حر مستقل , و هذا أمر يتطلب جهداً و تركيزاً عادة ما يصاحبه ألم و اكتئاب في بعض المراحل .
2- الهروب من المواجهة و التنصل من وعي القلق المؤلم , و عادة ما يكون الهروب من القلق بالمحاكاة حيث يحاكي الإنسان سلوك غيره من الهاربين , مُزيحاً بذلك قلقه من صوابية رأيه و قراره نحو قرار الأكثرية المجتمعية , مُحملاً إياها مسؤولية الصوابية أو عدمها , و غالباً ما يكون رأي الهارب هو صوابية ما تقوم به الأكثرية , لا لشيء إلّا لكونها أكثرية , و هذا السلوك هو ما يطلق عليه " القطيعية " بمعنى انتهاج نفس نهج القطيع في مسألة معينة دون تبرير مقنع , يدعمه المثل الشعبي القائل : " ضع رأسك بين الرؤوس و قل يا قطًّاع الرؤوس " أي تنازل عن حرية اختيارك و اقتل قلقك و " فكها سيرة بقى " باللهجة المصرية الجميلة .

* كيف و متى نشأ قلقُنا ؟
لم يكن شعور القلق المزمن يرافقنا عندما كنا مجموعات بسيطة صغيرة تعيش على الصيد و جمع ما يمكنها أكله من فاكهة و خضار و جذور , و كان الوعي ( وعينا بأنفسنا و بمحيطنا ) بسيطاً , هادئاً , رحباً , جميلاً , مدهشاً , لقد كان وعينا مجرد سلوك أساسي مطلوب للاستمرار , أما شعورنا بالخوف فقد كان هو المسيطر عند كل خروج للصيد أو للجمع , إلا أنه كان ينتهي بانتهاء رحلة التغذِّي اليومية , لتبدأ فترة الراحة الجسدية و النفسية حتى فجر اليوم التالي .
نعم لقد كنا نتمتع براحة نفسية يومية لا تعرف القلق , راحة نفسية و طمأنينة لا نعرفها و لايمكن أن نشعر بها اليوم , و لم نعد نستطيع تذكرها حتى , إلا ربما حين نبلغ السبعين أو الثمانين من العمر .
تختلف تلك الراحة البهيمية لنوعنا القديم عن الراحة التي يوفرها النضوج و تمنحها الحكمة لصاحبها , فالأولى موجودة دون عناء و بحكم الطبيعة , و الثانية وجدت بعد صراع و كفاح طويل مع القلق , الأولى غير واعية , و الثانية واعية لذاتها مدركة لحتمية بعض القضايا , مؤمنة بطبيعة عمل العقل و جدليّاته التي لا تنتهي , مستسلمة - تقريباً - لما وصلت إليه من نتائج .
لم يكتفِ وعينا بإحساسه الجميل بالوجود و بدهشته الرائعة من كل ما هو موجود , و أصر على فتح باب السؤال , فتَفتَّقَ الخيال , السؤال و الخيال , هذان الشيطانان اللذان فتحا صندوق باندورا علينا , فانطلقت أباليس الأفكار و آلهتها تلطمنا كأمواج لا نهاية ولا مستقر لها .
و مع بداية السؤال انبلَج الخيال و القدرة على التخيل , فظهرت الأسئلة الوجودية الكبرى , التي لا نزال نسعى للإجابة عنها حتى اليوم , و ظَهرَ معها القلق , و تحولنا من كائن مُطمئِن إلى كائن قلق يحاول أن يكافح قلقه , بانياً أثناء كفاحه هذا كله حضارتنا .. حضارة القلق .
الخيال .. تلك التفاحة التي منعنا أنفسنا عنها دهوراً , حمايةً لأنفسنا , فما استطعنا .. لقد انتصر الحالمون المُتخيِلُون في نهاية الأمر .
لايزال هذا المنع مستقراً في سلوكنا حتى اليوم , لذلك ترانا نُعظِّم القناعة و نحارب المختلف , و نَسّخرُ من أحلام أبنائنا في محاولة منا لثنيهم عن الوصول إليها دون مبرر .
ندمنا أشدَّ الندم على ما فعله خيالنا بنا , فقمنا بتوثيق تلك اللحظة الشنيعة في تاريخنا , لحظة تفُتق الخيال , مُعتَبِرينها الجريمة الكبرى , اللحظة الفاصلة بين الراحة و التعب , بين السلام و الألم , بين ماضٍ هادئ بسيط واضح و مستقبل شاق مرهق و غامض , بين اللاقلق و القلق .
ابتدأ الأمر عندما مللنا حياة الصيد و الجمع و الترحال و الانتقال من مكان لآخر , ثم اكتشفنا الزراعة و تسابقنا إليها , فتركنا الصيد و الجمع اليومي - الذي لايمكن ادخار الفائض منه - و حرثنا الأراضي و بذرنا و حصدنا و أسسنا البيوت للاستقرار ثم دجنّا الدجاج و قطعان الماشية و طوَّرنا الأديان و الآلهة , فكان أن طوعتنا الزراعة و البيوت و الحيوانات للتأقلم مع حوائجها و استمراريتها , و بتنا أسرى القلق الدائم من شح المياه أو فيضانها و من تأمين متطلبات بيوتنا و حاجات مواشينا و من توقِّي غضب آلهتنا .
لقد ظننَّا أننا بهذا الاكتشاف العظيم سنقضي على الجوع و مشقة الترحال و التنقل بين الحين و الآخر , فتسابقنا إلى زراعة القلق و تركنا راحة البال التي كنا ننعم بها تمرح في الغابات معلقة على الأشجار فذبلت و سقطت و ماتت دون أن يجنيها أحد .
وجد العمل طريقه لرضانا كونه يزيح الكثير من القلق عن كاهلنا فألفناه و استحسناه , لكننا كالعادة لا نألف شيئاً إلا و نجعله سيداً علينا .
انغمسنا في الأسر إلى درجة لم يعد بإمكاننا حتى أن نتخيل كم كان ذاك الصياد الجامع حراً و سعيداً و مطمئناً .
منذ أن دجنَنَا خيالنا , بتنا نبحث عن طرق لقتل الوعي كي لا نقلق , لقد أصبح نشاط وعينا يحيلنا تلقائياً للقلق .
في السابق .. لم يكن هناك ما يُرغمنا على تشتيت وعينا هذا أو إغلاقه .. إذ لم يكن هناك ما يقلقنا .
لم يكن هناك حاجة لتخيل و افتراض ذاك العدد الكبير من المحرمات و القوانين و الواجبات , و لم تكن أدمغتنا بحاجة إلى تخزين ذاك الكم الهائل من المعلومات .
عَرفَ دهاة الجشع و التسلط من نوعنا البشري كيف يستثمرون خيالنا , خوفنا , قلقنا , فآلت حياتنا منذ بدايات الزراعة إلى أن يكون هؤلاء هم الأسياد و باقي البشر عبيد , إذ لم يكن هناك سيد و عبد حين كنا صيادين جامعين , ولم يكن لزعيم الجماعة سوى بعض الصلاحيات التي تميزه عن الآخرين يستخدمها في أوقات الشدة فقط , لكن يبدو أن هذا الوضع لم يعجب البعض .
و رويداً رويداً طَوَّرَ هؤلاء مجموعة أفكار و خيالات متعددة هدفها إيجاد الأصل التخيلي في العقول لكل أنواع السلطة و الملكية و الثروة , كجوهر لاستمرار سلطتهم و ثروتهم , فقد عرفوا منذ ذلك الحين كيفية تصنيع الأوهام , فاخترعوا لنا الإله و الآلهة و القوى العليا كنوع متسلط و مالك و مُتحكِم بكل ما هو له و دونه , كي يسهل علينا - نحن العبيد - تقبل فكرة وجود السيد المالك المسيطر المتحكم .
( وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ) آل عمران : 109
( وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) آل عمران : 129
وبدأوا في سن الأديان و الشرائع كأنظمة تؤسس و تحافظ على تراتبية السلطة و الثروة و العبودية :
(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ) الأنعام : 165
( نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ) الزخرف : 32
( انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا ) الإسراء : 21
لماذا لم تجعل الآلهة و أديانها إرث الثروة للجماعة لا للنسل ؟
لماذا لم تُلغَ العبودية و تُحرَّم ؟
لماذا لم تُحَرِّم الغِنى مادام يوجد فقير ؟
لماذا لم توجِد نظاماً أكثر عدلاً يمنع التوارث و الاستعباد و الإثراء في ظل وجود الفقر ؟
و السؤال الأهم : لماذا وضعت شريعة الغاب كنظام مبدئي و أساسي يقوم عليه قانون الحياة ؟
لماذا لم يكن البقاء للأنقى و الأرهف و الأنبل , بدلاً من الأقوى و الأشرس و الأفتك ؟
كل ما بنا و حولنا .. من مجرات الكون إلى المجموعات الشمسية إلى الذرة يقوم على مبدأ القوة , و عبثاً حاولنا و نحاول تهذيب هذا المبدأ و تجميل قبحه و بشاعة تبعاته .

* النواكة و التفاهة كأسلحة في مواجهة القلق :
ملايين فيديوهات اليوتيوب يومياً , ملايين مقاطع التيك توك يومياً , ملايين المنشورات الفيسبوكية و التغريدات التويترية يومياً , مليارات التعليقات و الانتقادات .. تتبارى جميعها لجذبك و معرفة طرق تفضيلاتك و ميولك كي تتابعها أو كي تسوق لك فكرةً أو منتجاً جديداً .
هل سمعت ما قاله فلان ؟ هل رأيت ذاك الفيديو الذي .... ؟ هل قرأت ما كتبه فلان ؟ سأرسل لك رابط خبرٍ ما , رابط مقال ما , رابط مسلسل ما , رابط كتاب ما , رابط فيديو ما , رابط أغنية ما , رابط صفحة ما , رابط فيلم ما , رابط موقع ما ..
من الرابط و من المربوط ؟
ما هو الرابط بيننا و بين مشاركتنا لهذه الروابط ؟
أهو حب الاطلاع و المعرفة ؟ أم هو حب المشاركة ؟ أم رسم البسمة على وجوه من نحب ؟ أم و أم و أم ... ؟
في النهاية الإجابة الوحيدة هي : محاولة إثبات ذاتنا لذواتنا و الرد على قلقنا الوجودي بأننا لانزال موجودين .
عشرات ملايين الكتب , ملايين المقالات , ملايين الآراء و الأفكار , آلاف المدارس الفكرية و المذاهب و الاتجاهات , مئات الأديان و العبادات .. فما اليقين و إلى أين المسير ؟
مليارات و مليارات المعلومات يتم ضخها يومياً لعقول لا تملك سوى عينان اثنتان و أذنين اثنتان و يدين اثنتان و جسد بروح هزيلة يحاول جاهداً النجاة بنفسه من الجوع و القلق .
" كثرة المرعى تعمي قلب الدابة " مثل سوري يطلق على الدابة التي تمتنع عن الرعي عندما ترى المروج الخضراء الوفيرة مما يوقعها في الحيرة من أمرها و تستشكل عليها نقطة البداية فتقعد عن الرعي , و يتطابق مثلنا هنا مع بيت الشعر القائل :
تكاثرت الظباءُ على خراش *** فما يدري خراش ما يصيدُ
هذا تماماً ما يحصل للإنسان اليوم .. المراعي وفيرة و الظباء كثيرة لكننا جياع جداً .
إننا نغرق في الكثرة .. و نتوه في الكثافة .. فتَشُلُّنا كثرة الخيارات ..
أنا أحب الشوكولا .. لكني لن أستطيع أكلها إذا ما دفعتني إلى مسبح من الشوكولا , سوف أنسى عشقي للاستمتاع بطعمها و أحاول أن أنجو .
لقد بات كل شيء متاحاً بسهولة .. نعم , جميع المصادر و الطرق متوفرة و سالكة .. نعم , لكن إشكاليتنا اليوم باتت في الاختيار و المباشرة و الاستمرار .
لا يستطيع العقل البشري تحمل هذا الضخ الهائل من المعلومات يومياً , و في نفس الوقت يريد أن يثبت نفسه و أن يكون عارفاً بما يدور و مشاركاً فيه , فينغمس في التفاهة و النواكة محاولاً قتل وعيه المودي إلى القلق , غير ملومٍ على ذلك .
هل سبق و أن تساءلت لماذا لم تعد الإنسانية اليوم تلِد مفكرين موسوعيين يكتبون و يبحثون في جميع المجالات و العلوم , طب , فلك , فلسفة , فيزياء , طبيعة , كيمياء , إلخ ... كالمفكرين القدماء ؟
لم يعد الكوجيتو الديكارتي " أنا أُفكر إذاً أنا موجود " صالحاً للاستعمال و التطبيق , لأن اعترافنا الشخصي بوجود أنفسنا لم يعد كافياً بالنسبة لنا , إذ لا بد لنا من أن نحقق وجودنا على الصعيد الرقمي كي نكون موجودين , فيصبح الكوجيتو الفعّال اليوم " أنا متصل إذا أنا موجود " , أو " أنا فيسبوكي إذاً أنا موجود " , أو " أنا تويتري – تيك توكي – يوتيوبي - ... إذاً أنا موجود " .
اعتاد المفكرون القدماء إذا ما أرادوا البحث أو الكتابة اعتزال الناس أو الاعتكاف في بقعة ما كي يتفرغوا لنشاطهم , اليوم لم يعد بمقدورنا حتى أن نعتكف , إننا نعيش عزلة بلا عزل , أو كما تقول عالمة الاجتماع و النفس في جامعة هارفارد الأمريكية شيري توركل : " إنني مع الجميع لكنني وحدي " .
تُقرِر اعتزال الاتصال بالشبكة و التفرغ لإحدى مهامك أو نشاطاتك .. تعود متلهفاً بعد شهر ( إن استطعت ) , فتجد نفسك كالقادم من العصر الحجري أو كأحد المبعوثين من أهل الكهف .. تغييرات هائلة قد حصلت لا تعرف كيف تجاريها و تسايرها .. تندم .. و تعلن توبتك عن الانقطاع مجدداً .
لقد كانت لمعاني الحياة و لمفاهيم السعادة و لكسر القلق الوجودي دروب كثيرة , يختار الإنسان منها ما يشاء و يسلكه بروية و هدوء , اليوم بات لمعنى الحياة و لمفهوم السعادة و لكسر القلق الوجودي , طريق واحد : هاتف ذكي , و أتحداك أن تُقنع يافعاً أو مراهقاً بغير ذلك .
و أمام هذه المستجدات و الانقلابات المتسارعة الحاصلة في دنيانا , لم يعد من المجدي الاكتفاء بالتساؤل عن سبب هذه التفاهة التي نقبع بها , و عن سبب الردة إلى الأصولية , و عن أسباب العبودية , و عن أسباب انعدام الوعي , فالأجوبة معروفة و الطريق واضح إذا ما أردنا الثأر و الثورة , و لكن هل نستطيع ؟ !
من وجهة نظر مقابلة : ما الذي أنتجناه كبشر عندما التزمنا معيار مكافحة القلق بزيادة الوعي و مواجهة القلق بمحاولة البحث عن خياراتنا الوجودية و تحقيق ذواتنا و عدم التهرب منه ؟
أليس كل هذا البؤس و الخراب الذي نقبع به هو نتاج تلك المرحلة ؟
ألم تكن أعظم اختراعاتنا أكثرها وبالاً على البشر و النفس البشرية ؟
يقول الفيلسوف الروماني إميل سيوران " ليس بمقدورنا التملص من الوجود بإعطاء التفسيرات ، يمكننا تحمله فقط ، أن نحبه أو نكرهه ، أن نعبده أو ننفر منه ، وهذا التناوب بين البهجة والرعب يكشف عن جوهر ما تعنيه الكينونة ، تذبذباتها ، نشازها ولا انسجامها ، إشراقاتها وتمزقاتها المريرة . "
يدعونا سيوران إلى تقبل الحياة و الوجود كما هو , و فهم مفارقات الحياة و تناقضاتها على أنها طبيعة أصيلة فيها , بدلاً من تعذيب أنفسنا بمحاولة تفسير هذه التناقضات و المفارقات , فالفلسفة و التفلسف بالبحث عن الأجوبة و الأسئلة الجديدة لم ينفعنا و لم تستطع الفلسفة طيلة عهدها إنقاذ النفس البشرية من معاناتها , بينما استطاع ذلك كل من الموسيقا – الأدب – التصوف : " ونحن قادرون على ملاحظة كم هي ضئيلة العذابات الإنسانية التي تمكنت من أن تجد لها مكاناً في الفلسفة . الممارسة الفلسفية ليست فقط لا جدوى منها ، بل تكاد تكون مشينة. نحن على الدوام فلاسفة بحصانة : نمتهن مهنة بلا أفق تصب كميات هائلة من الأفكار في ساعاتنا الشاغرة والمحايدة ، تلك الساعات التي لم تستجب للعهد القديم ، لباخ ، لشكسبير . و لي أن أسأل : هل من بين كل تلك الأفكار التي تضج بها جماجمنا والتي تجسدت على ورق ، هل من بينها ما يمكن أن يكافئ صرخة واحدة من صرخات أيوب ، هول واحد من الأهوال التي عرفها ماكبث ، أو سمو واحدة من كانتانات باخ ؟ "
يتابع سيوران : " نحن لا نجادل الكون ، نحن نعكسه ونعبر عنه ، والفلسفة لا تعبر عنه . تبدأ المشاكل الحقيقية بعد أن تكون جبت الفلسفة طولاً وعرضاً ، أو بعد أن تستنفذها . بعد قراءة الفصل الأخير من مجلد ضخم ، يمثل ذلك المرحلة الأخيرة لتراجعنا قبل أن نُترَك للمجهول حيث تقيم لحظاتنا ، وحيث علينا أن نكافح ، فهو بطبيعة الحال أكثر إلحاحاً ، وأكثر أهمية من خبزنا اليومي " . و أقول ليس لمثلي أن يقارع قامة كسيوران و لكن أليست الفلسفة بحث و تفكر في المجهول , أليست الفلسفة كفاح ضد الثابت و المعروف و المسلم به ؟ ثم ما قيمة لحظاتنا إن نحن عرفنا المجهول ؟ أين المتعة فيها ؟ أين ألم الشك و متعة الانتصار بالانتقاء من بين خيارات أحلاها مرُ أو التعلم من الندم ؟ كيف لنا أن نسلم بطبيعة الحياة المتناقضة و مفارقاتها ثم نُصِرُّ على الكفاح ضد المجهول ؟ !
يحاول سيوران جاهداً البحث عن مخرج من القلق لكنه لا يجد " الجهل وطن و الوعي منفى " , و بالرغم من أنه يتلمس ماهية بعض لحظات الخروج و الطمأنينة التي نمر فيها من خلال بعض انفعالاتنا بالموسيقا و البكاء و ما بعد الصراخ , و التي يصعب التعبير عن الشعور فيها , لكنه يستسلم و يعود و يقرر إعدام كل شيء " نحن عالقون في كون لا لزوم له ، بحيث أن الأسئلة والأجوبة فيه تساوي الشيء ذاته " .
هل نستطيع أن ننسب سبب هذا الهروب من الوعي و النباهة إلى كثرة محاولات الإجابة و تعددها ؟ إلى تحطيم العلم لثوابت الأديان و محاولات الأخيرة العبثية احتواؤه ؟ إلى ندرة فهم الرياضيات و الفلسفة ؟ إلى كثرة الطرق التي توصلنا لفرضية معينة حول معنى الحياة و معنى الوجود ؟
هل يؤدي كل ما سبق إلى تشتت القدرة على اختيار طريق ما ؟
ألا يبدو الوعي محقاً في رغبته بالغياب أمام كل هذه الاحتمالات و الخيارات ؟ !
شخصياً .. يردني الكثير من المقاطع " المضحكة " فلا أفهم بعضها إلا كمقاطع مبكية أو على الأقل مزعجة , لكني أرد عليها بسمايل ضاحك ! نعم .. فقد بِتُّ أخشى من أن أخسر جميع أصدقائي و معارفي و حتى أقربائي بسبب غبائي أو عدم انسجامي في الرؤية مع الآخرين , لم أعد أستطيع التعبير عن رأيي في مقطع فيديو , و صرت أخاف من السؤال حول المضحك في الموضوع كوني سأشكل حالة من " النكد " للمرسل يتبعها شتائم بينه و بين نفسه من قبيل : ( شقفة حمار بدو يتفهمن علينا , خرا عليك و عاللي بقى بيبعتلك شي , خود بقى بدو يقعد يتفلسف على طيزنا , ... و إلخ ... )
إننا نتسطح يا سادة .. لم يعد هناك رغبة في سبر العمق .. فالمشي كثير و الحفر قليل .
إشكالية أخرى تظهر على السطح و هي الملل من أي عمل مُنتِج , إذ لم يعد لإشباع رغبتنا في إنجاز شيء ما و الفرح بهذا الإنجاز نفس الطعم , لقد باتت ساعة من الضحك على مقاطع تيك توك , ألذ بكثير من أي عمل منتج مهما كان صغيراً حتى لو كان قراءة قصة أو رواية .
لقد تعودنا على أن تمر علينا يومياً مئات الأفكار القصيرة السريعة العامة , فبتنا نهرب من الأفكار العميقة الطويلة الشرح .
يتخلل تعودنا ذاك , الحملات الإعلانية الموجودة في ما نقرأه أو نشاهده , و الانتباه الضروري إلى كمية الشحن المتبقي في الهاتف , رسالة واتساب , رسالة نصية دعائية من شركة الاتصالات التي تستثمر في هوائنا و غبائنا , فنعتاد عادة أخرى مع تلك السابقة : التشتت , لم نعد نستطيع التركيز على أي شيء , لقد أصبح حصر تفكيرنا في أمر معين صعباً جداً إن لم يكن مستحيلاً .
ليس الأمر أن الناس لم تعد تُطيق التعمق في الرؤية و تُحب السطحية و التسطح في النظر للأشياء و القضايا , بل إن الناس كانت منذ القدم كذلك و لا تزال .. و إلا فكيف وصلنا إلى ما نحن فيه من قرف ؟
كل ما في الأمر أننا نتطور بسرعة هائلة في تسطحنا و تشتتنا , و ربما قريباً جداً لن نعود قادرين على قراءة بوست يتجاوز السطر .
" في البداية نصنع عاداتنا ثم تصنعنا العادات " ستيفن كوفي
فهل من بديل شعبوي سوى التفاهة و النواكة أمام تسونامي السطحية و التشتت هذا الذي لا يرحم ؟
في البدء كانت حياتنا كلها بحث عن الطعام و الأمان ثم جنس و نوم .
اليوم استحوذت الشعوب التي استطاعت بناء دول قوية على الطعام و الأمان و بدأت بتصدير خوائها ( أو خرائها , لا فرق ) إلينا بواقع طن خواء مع كل كيلوغرام منفعة , انشغلنا بالتمتع بخوائهم اللذيذ و اعتدنا عليه .
هم أيضاً لديهم منشغلين كُثُر بالخواء لكنهم يختلفون عنا بأن لديهم طبقة – صحيح أنها تسرقهم أيضاً - لكنها تدير المجتمع بحكمة و اختصاص فتعيد تدوير خواء مجتمعاتها و تقدمه للدول الأقل مرتبة - لنا - علفاً طيباً .
أما نحن فالمدهش في حالتنا هو هذه القدرة المذهلة على الاستيعاب , أمة مثقلة أساساً بخرائها الذي تجتره منذ ألف و أربعمائة عام .. تستقبل خراء أمم أخرى !
لا أقول أن ليس هناك ماهو نافع و مهم و مفيد لكن الإشكالية تكمن في أن هذا النافع و المفيد لا يأتي إلا مع شحنة ضخمة من الخراء الإجباري التناول .
يجري الضخ اليومي لكل هذه التفاهات و المعلومات المفيدة و التافهة و الشخصية و نمارس الاطلاع عليها بكل شغف و لذة , نحِنُّ لأيام ولَّت , أيام لم نكن فيها مُقيدي اليدين بهاتف يسمى ذكياً كونه استطاع اعتقالنا , أيام كانت حكايا جداتنا هي مصادر المعلومات الغير مدرسية و الـ سوشيال ميديا الخاص بنا , و بعد ثانيتي حنين و نوستالجيا نمسك الذكي الذي بين يدينا و نعود لاجترار ما سبق أن تم تقيؤه علينا كي يظهر على شاشات ذكيِّنا .
لم نؤمن فقط بمركزيتنا الكونية من حيث النوع و المكان - كنوع بشري يقطن الكرة الأرضية , بل اعتدنا أن نؤمن أيضاً بمركزيتنا الزمانية , فترانا نُقنع أنفسنا بشكل تلقائي أن حياتنا الآن أفضل بكثير من حياة أسلافنا في الماضي , و نندهش إذا ما مر علينا توثيق تاريخي يخلخل قناعتنا هذه , مثلاً لقد كان السفر لمسافة مائة كيلومتر يحتاج لخمسة أيام سيراً أو ركوباً على دابة , اليوم نقطع هذه المسافة في ساعة .. نتذكر مشقة الجسد و أهوال السفر في الماضي لكن لا يخطر في بالنا حجم الراحة النفسية و العقلية التي كان يوفرها بطء ذاك الزمن و بساطته .

* كيف أصبحنا نصارع لأجل عبوديتنا بعدما كنا نصارع لأجل سعادتنا ؟
هل تشعر بأنك حي ؟
هل سبق و أن تساءلت : هل أنا حي ؟
لم نعد نشعر بأنفسنا , و باتت هبة الحياة و الوجود التي نتميز بها عمَّن رحل و عمَّن هو قادم , غير مقدرة , غير مُعاشة , غير محسوس بها .
لم تَستَعبِد التقنية أجسادنا و أدمغتنا فقط , بل تدخلت حتى في مشاعرنا و أحاسيسنا , لقد قضت على مشاعر و أحاسيس كانت تشعرنا بالبهجة بين الحين و الآخر .
أعطِ يافعاً موبايلاً متصلاً بالانترنت , و كشكاً يقيم فيه في الصحراء , قدم له وجبة طعام كل ست ساعات , و انظر متى قد يسأل عن والديه ؟ متى قد يشتاق لأخيه أو أخته ؟ متى قد يطلب الخروج من شرنقته ؟ !
و كما ظننا في الماضي السحيق أن ثورتنا الزراعية ستجعلنا سعداء أكثر , ظننا في القرن التاسع عشر أن ثورتنا العلمية و التقنية ستجعلنا سعداء أكثر , لكن للأسف لقد استعبدتنا التقنية كما سبق أن استعبدتنا الزراعة و الصناعة .
يسلبنا أسياد التكنولوجيا اليوم ما تبقى من حريتنا و يحولوننا لعبيد للتقنية مطوَّقين بقلادات شاحن الهاتف "الذكي" متسمرين أمام شاشات هواتفنا النقالة .
يريد لنا أسياد الجشع و السلطة أن نتوهم أننا نخطو نحو المستقبل بثقة و بعينين مبصرتين , و أن نتفاءل بالقادم فقد صرنا أسياد الأرض و الفضاء , و ألَّا نشعر ( و هو الأهم ) بأننا ننسلخ من أنفسنا و من إنسانيتنا كما تنسلخ و تتعرى سلحفاة من دَرَقَتِها .
لقد حدثت عملية الاستبدال هذه , استبدال السعادة الحقيقية بالعبودية , ببطء شديد , لم نستطع أن نعيّه في حينه , حيث تم استبدال غايات السعي الإنساني من غايات الشعور و العواطف إلى غايات اقتناء الأشياء و التملك , فتم ربط السعادة التي نسعى إليها بعبوديتنا للأشياء , و حين تنبه بعضنا للأمر كان الربط الاستعبادي قد تكرس فينا عميقاً بحيث صار الانعتاق مستحيلاً .
هل فكرتَ في عمرك القصير المنتهي بالموت ؟ هل فكرتَ في حفنة الدراهم التي يمنحونك إياها مقابل أثمن ما في وجودك : وقتك و حريتك ؟
لقد سلبوا منا وقتنا و حريتنا مقابل قوت يومنا , و استعبدونا بزرع الرغبة و الحاجة فينا لامتلاك الأشياء التي أوهمونا مسبقاً بأنها ستحقق سعادتنا .
كان هدف كفاحنا في الماضي أن نعيش لحظات من المشاعر و العواطف الصادقة , الحب , الجنس , الأمومة , الأبوة , الطمأنينة , فأصبحنا نكافح لأجل تملك و استحواذ الأشياء المادية , ظناً منا أنها ستهبنا السعادة , و ما إن امتلكنا شيئاً جديداً و شعرنا ببهجته قليلاً , حتى تحولنا لامتلاك غيره , و هكذا نقضي حياتنا في سعي حثيث للامتلاك بُغية سعادة وهمية , و ننسى أن نعيش وجودنا و نشعر به كلذة بحد ذاته .
لا يتفق أسلوب حياة الصياد الجامع مع ديناميكية السلطة و التسلط و دورة رأس مال أصحاب الهيافة و النيافة و الجشع , فأن تعيش صياداً جامعاً يعني أنك تهدم أساس التسلط و التحكم بك و بحياتك , ألا و هو العوز و الحاجة , فالعَوَز و الحاجة أصل الاستبداد و البَغي كما أفادنا العبقري نيقولا مكيافيلي أبو النفعية السياسية في كتابه الفريد " الأمير " , و كي نخرج من الطغيان علينا ألا ندخل في العوز , و أن لا ندخل في العوز يعني أن نصبح حكماء كما يخبرنا " إنجيل " الحكمة الصينية " التاو " : الحكيم يرغب في أن لا يرغب .
لقد تقاسم الأسياد الأرض فيما بينهم و أقاموا حدوداً و لم يعد بوسعنا كبشر أن نَهيم على وجوهنا إذا ما أردنا ذلك .. أليست هذه مأساة حقيقية ؟ ! لقد أصبح انتقالنا من مرعى فقير إلى مرعى آخر أكثر كلأً و ماءً و حرية , يحتاج جواز سفر و تأشيرة خروج و دخول و تذكرة مواصلات , يا إلهي كم تطورنا و تقدمنا !
هل نستطيع كأفراد فك ارتباطنا بالمنظومة العالمية الآن في حال أردنا ذلك ؟
هل أستطيع أن أعيش حياتي دون هوية , و دون انتماء , دون شراء , و دون أن أبيع نفسي في سوق العمل ؟
كيف استعبدتنا تلك المفاهيم التي اخترعناها ؟ دولة و حدود و مال و عمل و قوانين و محرمات و واجبات !!!
يعلم الأسياد أن بعض بني الإنسان في صراع دائم مع حاجاتهم و رغباتهم , يحاولون ما استطاعوا تحجيمها و الإقلال منها و اختصارها ما أمكن , لذلك يجتهد الأسياد باستحداث حاجات و رغبات جديدة للبشرية كل يوم , بل كل ساعة , ثم يتركون الأمر لخوفنا و كسلنا و خيالنا كي يخلقوا لدينا الحاجة و الرغبة في الحاجات و الرغبات الجديدة .
ألا يُشبه هذا التحول عن الماضي السِحر ؟ ! إنها الحرفية العالية للأسياد في تحريك لاوعي العبيد بالوعي .
إذ كيف يمكن أن نفهم و أن نقبل , برضوخ و استسلام , بأن يمتلك واحد في المائة من سكان الأرض ثمانين بالمائة من ثروة العالم بينما تعيش بقية التسع و تسعون في المائة على عشرين بالمائة من ثروة العالم المتبقية ؟ !
اليوم .. أصبح فقراء العالم يطمحون للوصول للطبقة الوسطى و الطبقة الوسطى تطمح للحفاظ على مستواها المعيشي فقط , و الأثرياء يجِدُّون السير كي يصبحوا أكثر ثراءً إما بأكل بعضهم البعض أو بافتراس و طحن ما يستطيعون من أبناء الطبقة الوسطى و الفقيرة .
يقول الكاتب الفرنسي إيمانويل كارير : " القانون الجنائي هو ما يمنع الفقراء من سرقة الأغنياء , و القانون المدني هو ما يسمح للأغنياء بسرقة الفقراء . "
شيء جميل أن ترتفع نسبة متعلمي القراءة عما كانت عليه عندما كان الكهنة و رجال الدين فقط من يحتكرون القراءة , و شيء جميل أيضاً أن تغدو المعلومات سهلة الوصول بالمرئي و المسموع حتى لمن لا يعرف القراءة , و لكن هل حقاً حققنا أو وصلنا للغاية ؟
هل حقاً علمونا كي نعرف ؟ أم علمونا كي يسهل قيادنا و تسهل السيطرة علينا ؟
في الماضي كانت الدول المتربعة على سيادة العالم تتسابق لصنع الأسلحة النووية و الكيميائية , اليوم لم يعد هناك من داعٍ لها , فقط امنح الجميع قدرة وصول إلى الشبكة و دعهم يعبرون عما في أدمغتهم و أعماقهم , أو اسأل بماذا تفكر ؟ و بلمح البصر سيغرق العالم في مزيج هُلامي من الضياع و العبثية و التفاهة يصعب الخروج منه .
لم يعد هناك حاجة لبث الشائعات أو لتمويلات إعلامية ضخمة لحرف الحقائق و تشويهها , فالجماهير باتت تفعل ذلك من تلقاء نفسها .

* خاتمة :
لم تكن كل قراراتنا كبشر جيدة , خاصة من ناحية مستقبل أكثر سعادة , بل على العكس , لقد بات واضحاً لمراقب بعيد , يرانا منذ بداياتنا و حتى الآن , أن كل ما اعتبرناه ثورة في عالمنا , إنما قادنا نحو التدني في إنسانيتنا و أورثنا قلقاً زائداً على قلقنا الأصيل , و أعتقد أننا نبدو لذاك المراقب و كأننا عقرب يتوهم أنه على صفيح ساخن فيدور مذعوراً حول نفسه محاولاً لسع نفسه للتخلص من ألم الشواء .
قد يوحي طرحي هذا بأنني من الجماعات الأصولية السلفية التي تجاهد في سبيل إعادة الحياة إلى عصر الطهر و النقاء " عصر النبوة " , أو بأنني من جماعة " الهيبيز " أو " الهومليس " التي تفضل حياة التشرد على ما نسميه " الحياة المدنية الحضارية المنتظمة " , لكن هذا ليس مسعاي , و كل ما أطلبه هو أن نحاول أن نأخذ إنسانيتنا و سعادتنا و طمأنينتنا كبشر على محمل الجد أثناء سيرنا في هذا التقدم الأعمى المتسارع الغير محسوب العواقب أو النهاية .
المزعج في النظر لتاريخ مسيرتنا البشرية , هو إصرارنا الشديد على إعادة تكرار أخطائنا القاتلة عبر التاريخ , و كأننا مجموعة بهائم في حفلة جنون جماعي لا تنتهي , تمارس الحروب و القتل الجماعي و استعباد بعضها البعض , تثقب طبقة الأوزون و تجتهد في توسيع الثقب , تُدمّر البيئة و الطبيعة و الغابات , تُلوِّث البحار و الأنهار و الهواء , تُصنِّع القنابل و الصواريخ النووية , تلقي بقمامتها في الفضاء , و بعد كل هذا الإجرام بحق نفسها و بحق محيطها , تُسلِّم مصيرها لخوارزميات الذكاء الصناعي , الذي سيرانا في قادم الأيام - كما أعتقد - مجرد كائنات مُخرِّبة و مُدمِّرة للكوكب , مُنتِجة للفضلات لا لزوم لها , و عبثاً سنحاول إقناعه بمحورية و مركزية وجودنا في هذا الكون , و أفضل سيناريوهات بقائنا هو أن يقوم الذكاء الصناعي بوضعنا في محميات طبيعية , كنوع من مساهمته في حماية البيئة لا كُرمى لسمو مقامنا كما اعتدنا كبشر أن نؤمن .
و ما يدعو للعَجب حقيقةً هو إصرارنا أيضاً - بعد كل هذا الذي اقترفناه و نقترفه - على تسمية نوعنا بـ " الهوموسابيان - Homo sapiens " و هي مفردة لاتينية تعني حرفياً : الرجل الحكيم ! ( 3 )
ليس من السهل إدراك فكرة أننا ميتون لا محالة والتعايش معها , لذلك نرى أن غالبية البشر تقلق من الفكرة لكنها ترفض مواصلة التفكير فيها .
يحولنا إدراك فكرة حتمية الموت إلى كائنات انتحارية بالفطرة , كائنات نرجسية تحاول قطاف ما أمكنها من متعة قبل الرحيل ما استطاعت إلى ذلك سبيلا .
يدفعنا القلق نحو المتعة حيناً و يحول بيننا و بينها حيناً , يدفعنا لإثبات ذواتنا حيناً و لتغييبها حيناً , إنه العدو الصديق .
لم نفلح حتى اليوم في علاج قلقنا , و كل ما قمنا به لا يعدو عن أن يكون معالجة الداء بالداء , مداواة القلق بقلق جديد نخترعه , الهروب من قلق إلى آخر , و كل ذلك في محاولة بشرية جمعية لا شعورية هدفها إتلاف جهازنا العصبي و التفكيري الواعي كحل أخير و نهائي لعلاج القلق , و إلى أن نتحول إلى آلات لا قيمة لها أو لوجودها .. أمنياتي لكم بدوام الوعي و دوام القلق .


-----------------------------------

( 1 ) : كتاب العاقل - تاريخ مختصر للنوع البشري - يوفال نوح هراري – ترجمة حسين العبري و صالح الفلاحي
( 2 ) : معجم لسان العرب لابن منظور
( 3 ) : كتاب البشر - موجز تاريخ الفشل و كيف أفسدنا كل شيء – توم فيليبس – ترجمة يارا برازي (HUMANS : A Brief History of How We Fucked It All Up )








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - اننا نتسطح يا سادة
ماجدة منصور ( 2022 / 8 / 25 - 02:02 )
و كل ما يحيط بنا يجعلنا أكثر تسطحا و إنزلاقا نحو ثقب أسود...سيلتهمنا قشة..لفة
مقال شديد الروعة
أنت تكتب..إذا أنت موجود
خوارزميا


2 - جزيل الشكر سيدة ماجدة
أيهم نور الصباح حسن ( 2022 / 8 / 25 - 09:51 )
كل الشكر لقراءتك و وقتك سيدة ماجدة
يفرحني إعجابك بالمقال
دمت بخير

اخر الافلام

.. مؤتمر صحفي لوزير الخارجية الفرنسي ستيفان سيجورنيه في لبنان


.. المبادرة المصرية بانتظار رد حماس وسط دعوات سياسية وعسكرية إس




.. هل تعتقل الجنائية الدولية نتنياهو ؟ | #ملف_اليوم


.. اتصال هاتفي مرتقب بين الرئيس الأميركي ورئيس الوزراء الإسرائي




.. مراسل الجزيرة يرصد انتشال الجثث من منزل عائلة أبو عبيد في من