الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قضف الوعي

أيهم أسد

2006 / 9 / 27
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


يتذكر المفكر السوري برهان غليون في كتابه " العرب وتحولات العالم" نقاشه مع أحد المثقفين العرب الذي قال له: إن المفكرين الغربيين وصلوا إلى حد الجنون في عدائهم للعرب والمسلمين، حتى أن مثقفاً مثل جان بودريار كتب كتاباً قال فيه: إن حرب الخليج لم تقع، وهذا بالفعل عنوان كتاب لبودريار عن حرب الخليج الثانية، فشرح له غليون أن ما أراد بودريار، أن يقوله لنا بهذا العنوان ليس إنكار حصول واقعة حرب الخليج، بل القول إن رواية الولايات المتحدة لهذه الحرب تجعل هذه الحرب كأنها لم تكن، لأنها منعت حصول صورتها الحقيقية كحرب في الوعي، فالحرب مرتبطة بالقتل والدمار. ولم تعرض علينا صور الحرب التي تحكمت بتعميمها ونشرها الإدارة الأمريكية العسكرية سوى رسومات هندسية وخطوط ودوائر مستمدة من المجسمات الحاسوبية تبين إصابة الأهداف بدقة بالغة ولم تظهر مقتل شخص واحد ولا دمار مبنى، وهذه الصور لا تعني شيئاً بالنسبة للحرب. إنها لعبة تقنية وليست حرباً بقدر ما تعني الحرب القتل المشخص العنيف والدمار العشوائي.

إثبات الوعي وتعميمه
فالحرب وفقاً لذلك هي "حرب وعي" أيضاً، فإما أن يتم تعميمها وإثباتها في الوعي، وإما أن يتم حذفها وشطبها منه، وذلك كله عبر الإعلام الغربي وتقنياته الحديثة، والذي يثبت باستمرار أنه أحد أهم أدوات إعادة صياغة وتشكيل الوعي عالمياً ومحلياً، كما أنه أداة محي وإلغاء لوعي مستقبلي لما حصل في الماضي، وبهذا المعنى تعمل وسائل الإعلام الغربي على استلاب الوعي الحالي والوعي المستقبلي أيضاً، وخاصة في حالات الحروب.
في هذه الحالة لا يوجد خيار أمام الطرف الآخر الذي تُعمم عليه ثقافة استلاب الوعي ( العراق، فلسطين، لبنان، والعرب بشكل عام )، إلا القيام بالنقيض تماماً، وأقصد به القيام بحالة "إثبات الوعي" أولاً و"تعميمه ثانياً"، وإثبات أن حالة الحرب والدمار والموت قد حصلت فعلياً بكل تجلياتها العسكرية، والإنسانية، وأن آثارها جاوزت شاشات الكمبيوتر والتلفاز بكثير إلى حد لا يحتمل الوعي ذاته تصوره، والعمل على نفي تلك الحرب التخيلية الافتراضية، وإعلان تفاصيل الحرب الواقعية.
كان العدوان الصهيوني على لبنان فرصة لوسائل الإعلام الإسرائيلية والغربية كي تمارس على العالم كعادتها نوعاً من "قصف الوعي" ، نوعاً من تعليب ذلك الوعي وتمزيقه، كي تمارس تضليلاً احترافياً بأن الحرب في لبنان ليست بمستوى ذلك الدمار الذي يتخيله العالم، بل على العكس، فإن الكيان الصهيوني هو من تأذى من تلك الحرب، وكانت الحالة الطبيعية لذلك أن لا يعرض الإعلام الإسرائيلي والغربي حجم الدمار الذي سببه العدوان في لبنان، وأن يعرض بالوقت نفسه ما ألحقته المقاومة من دمار في داخل الكيان الصهيوني، فالضاحية الجنوبية التي سويت بالأرض لا تبث صورها في وسائل الإعلام الغربي والإسرائيلي، في حين أن صورة مستوطن إسرائيلي ميت أو جريح تعرض باستمرار للتدليل على عنف الآخر.

الحرب وإعادة الصياغة
إن هذا يرجح بأن يقوم الكيان الصهيوني مستقبلاً، برعاية وحضانة غربية، بإعادة صياغة هذه الحرب إعلامياً وبوسائل متعددة (كتب، أفلام تلفزيونية، أفلام وثائقية.....)، تماماً مثلما فعلت أمريكا في عدوانها على العراق، وأن تقوم بتقديمها إلى العالم بطريقة مختلفة، وأن تقوم بنشر وعي مزيف ومصطنع تطوق به الوعي الحقيقي للحرب وآثارها على لبنان، فمهمة الكيان الصهيوني القادمة هي إخفاء وحشيته في لبنان عبر خلق وعي جديد معاكس، وبهذه الطريقة يكون الكيان الصهيوني في الوعي العالمي الذي شكلته بريئة في حربها على لبنان، وفق مفهوم الحرب التقليدية، في حين يصبح لبنان هو المذنب في ذلك الوعي نفسه.
شكلت تلك الحرب بالوقت نفسه فرصة لبعض وسائل الإعلام العربية كي تمارس نوعاً من إثبات الوعي على العالم أيضاً، وكي تؤكد بأن الحرب وقعت فعلاً، وهذه هي آثارها، دمار، قتلى، جرحى، مشردون، مهجرون.....وكانت الحالة الطبيعية أن يستمر الإعلام العربي في بث صور الدمار والخراب والموت كنوع من ترسيخ ذلك الوعي، بل وتصعيده، وحثه باستمرار، وإيقاظه دائماً مع كل صورة من تلك الصور المفزعة أحياناً كثيرة، ورغم قسوة الكثير من الصور، والتي كان من الأفضل تقنين عرض بعضها، كان لابد من إثبات وتقديم الحدث بكل تفاصيله.
تقع على مسؤولية العرب وأمام الأرشيف الهائل من الدمار اليومي الذي خزنته آلات التصوير ووسائل الإعلام، إبقاء الوعي العربي في حالة توتر مستمر إزاء العدوان على لبنان، والاستفادة من ذلك الأرشيف في تحرير الوعي المزيف من قمقم وسائل الإعلام الغربية والإسرائيلية في المستقبل، فالعرب لديهم الآن رصيد لحرب حقيقية وقعت، ولديهم مادة خام لصناعة وتأكيد وعي حقيقي بالعدوان على لبنان، ومهمتهم القادمة هي العمل على إثبات ذلك الوعي، وتقديمه للعالم.
كانت الحرب لحظة تاريخية، ولابد من القبض على أكبر كم ممكن من أجزائها، ومن حق الأجيال القادمة أن يكون لديها ذاكرة فيها وعي حقيقي لما حصل، لما فعله الكيان الصهيوني في لبنان، في الحرب كنا نعيش حالة، ولحظة "تشكل الوعي"، أما في المستقبل فإننا سنعيش حالة "صراع الوعي"، وتحديداً مع الغرب وإسرائيل، وبالتالي فإن العرب مسئولون الآن وأكثر من أي وقت مضى عن إدارة ذلك الجزء من وعيهم التاريخي، كي لا يتحكم الآخر بإدارته.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إسرائيل تهاجم أردوغان.. أنقرة توقف التبادلات التجارية مع تل


.. ما دلالات استمرار فصائل المقاومة باستهداف محور نتساريم في غز




.. مواجهات بين مقاومين وجيش الاحتلال عقب محاصرة قوات إسرائيلية


.. قوات الأمن الأمريكية تمنع تغطية مؤتمر صحفي لطلاب معتصمين ضد




.. شاهد| قوات الاحتلال تستهدف منزلا بصاروخ في قرية دير الغصون ش