الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عالم بلا جدران

شريف حتاتة

2022 / 8 / 27
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


الحجرة التي أجلس فيها لا تحتلها سوى مانـدة ، تمتد قرب الجدران تاركة مساحة فارغة في المنتصف. على المقاعد المرصوصة حولها ، يجلس عدد من الرجال والنساء أغلبهم في منتصف العمـر والبـاقـون مـن الشباب. أسمع كلمات بمختلف اللغات. أجلـس صامتا، متأملا، سارحا في الـزمن والمسافات، في إحساس بالدهشة يتملكني أحيانا عندما أنتقل بين البلاد ، كأنني أحيا في حلم ، كل ما يحدث فيه من صنع الخيال، سافيق منه بعد لحظات.
أتساءل كيف أصبحت في هذا المكان، بين هؤلاءالأغراب. أتذكر أننى أشعر بالغربة في كل مكان، فى الوطن وخارج الأوطان. أنا كالطائر أعبـر الوديـان والجبال، والبحار، والغابات ومساحات الصحراء ، باحثاعن موطن فيه ثبات، فيه عدالة، وحرية وسلام، فيـها منطق يراعي إنسانية الإنسان.
عشت مختلف الوظائف والمهن، والأعمال لكـننى أبـيت أن يستقر بي الحال. كان في داخلي قـوة تدفعني دائمـا نـحـو الانتقال، نحو الجديد ، ربما يحقق ما يجب أن تكون عليه الحياة. لم أجده حتى الآن، أصبحت حياتي هي السعي والبحث الـدائـم عما يعتبره الكثيرون "المحال".
أنا الآن في مدينة "مارسيليا" ، أحضـر إجتماعـاً للجنـة التنسيق الدولية الخاصة بالمنتدى الإجتماعي للبحـر الأبيض المتوسط. وهذا المنتدى هو أحد المنتديات الإجتماعية الإقليمية المنبثقة من المنتدى الاجتماعي العالمي الذي تأسس في "بورتواليجري" بالبرازيل في أواخر يناير سنة 2001، شـأنـه شـان المنتدى الاجتماعي الأسيوي، والإفريقي، والأوربي وغيرها من المنتديات الاجتماعية التي تكونت في مختلف أنحـاء العـالم. تهدف هذه المنتديات إلى إيجاد "فضـاءات" علـى المسـتوى العالمي أو الإقليمي، أو القومي أو المحلى ، تستطيع أن تلتقـى فيها الحركات، والتنظيمات، والجمعيـات المناهضـة لعولمـة الشركات الرأسمالية الكبرى، للنظام العـالمي الـذي تتزعمـه الولايات المتحدة بالتعاون مع الاتحـاد الأوربـي واليابـان، وبالاستناد إلى الأنظمة المحلية في العالم بما فيهـا الأنظمـة العربية.
على يميني تجلس "عايدة توما سليمان"، امرأة من عرب فلسطين تنشط في مجال حقوق المرأة، تعيش في إسرائيل فـي ظل النظام الذي يرأسه حزب "الليكود" و"شارون". على يساري امرأة إيطالية اسمها "فرانشيسكا سباميناتو" مناضلة تواجـه "المافيات" في جزيرة "صقلية". من بين الموجودين فـي هـذا الاجتماع "جان لوك سيبيير" عضو في منظمة فرنسية اسـمـها "آتاك" عدد أعضائها أكثر من أربعين ألفا ولها فروع في بـلاد أخرى، رجل أعمال محدود الحال يقوم بنشاط اجتماعي واسـع في مدينة "ليون"، و"لويس بلانكو" عضو مجلس إدارة النقابات العمالية المستقلة في مدينة "برشلونة" الإسبانية. ". ومونيكا ساباتا" من المدينة نفسها تعمل في منظمة تكـافـح مـن أجـل حقوق المهاجرين، "ونور الدين حراج" من النشطاء في المغرب وموظف في السياحة.
أشعر بالراحة في مثل هذه الاجتماعـات. فيـهـا فرصـة لمعايشة الجديد، لتبادل الخبرات، وفيها التضامن الإنساني الذي يجمع بين رجال ونساء من مختلـف الـبلـدان، ومـن شـتى المجالات، يتعاونون في النضال ضد الحرب ومن أجل السـلام، وضد الظلم الاجتماعي من أجل فرص متعادلـة للنـاس فـي الحياة، وضد الاستبداد من أجل ديمقراطية حقيقية ، يقرر فيهـا الناس ما يريدونه لحياتهم.
عقلى يسرح بعيداً يقفز إلى الوراء سنوات، فمنذ أكثر من أربع وخمسين سنة هبطت في هذه المدينة لأول مـرة. حـدث ذلك في أواخر شهر أكتوبر سنة 1950. جئت إليها مختبئا في قاع سفينة فرنسية للشحن ، كانت تحمل البضائع وبعض الركاب صعدوا إليها في الهند الصينية (فيتنام الآن). حملنـى النـائـب الوفدي لمدينة بورسعيد "حامد الألفي" في سيارته من القاهرة إلى شقته في هذه المدينة بعد هروبي من السجن، وأواني مع أسرته لمدة تزيد على ثلاثة شهور ، ثم استطاع أن يتفق مع أحد قباطنة سفن الشحن التي تمر بالميناء على حملـى فـي قـاع السفينة إلى مدينة "مارسليا". أخفاني أحد بحارتها في مخـزن القلوع فعشت ثلاثة أيام وأربع ليال في الظلام . واجهت السفينة أثناءها عاصفة هوجاء، فأحسست كأن العالم ينقلب أسفله إلى أعلاه وأنا قابع بين القلوع أفرغ ما في جوفي ، إلى أن أصبحت مثل هيكل ، لا يحتوى سوى على فراغ.
تعود إلىّ لحظة سكوت المحركات وهي تصل إلى مرساها في الميناء ، فأدرك أن رحلتي انتهت. أرى البحار واقفا أمـامي يفحصني كأنه يطمئن على حالي. يناولني ملابسي ثم يمد إلـىّ يده القوية المعروقة ليشدني خارج الحفرة التي آويـت إليهـا خلف القلوع. أترنح قليلا على قدمي قبل أن يستقر اتزانـى. يقودني خارج المخزن إلى حمام تتدلى منه الأدشاش كالرؤوس المشنوقة في الجو الرمادي الغائم للفجر. تنهمر علـىّ المـيـاه ببرودتها الثلجية فأشعر بالدماء تتدفق في عروقي. ينتظرنـى حتى أجفف جسمي وارتدى ملابسي ليقودني عبر ممر ضيق يضينه مصباح واهن. يفتح بابا فأسير وراءه، يتحرك كـالقط دون صوت ، كاشفا عن جزء من بياض سـاقه تحـت البنطـال الأزرق المرفوع. يصعد على سلم حلزوني من الحديد فأصـعد مقتفيا خطواته. نصل إلى فتحة يهبط منها ضوء النهار فأغلق عيني اللتين تعودتا الظلام. يتركني عند سطح السفينة ويختفى ، فاتجه إلى المكان الذي يهبط منه الركاب. أنتظر حتـى المـح أسرة مكونة من أب وأم وطفلين تستعد للنزول من السفينة. أهبط معهم لنصل إلى مربع على الرصيف محاط بحواجز مـن حديد ، يقف عندها حراس طويلي القامة تطل عيـونهم بنظـرة فاحصة من تحت القبعات العسكرية البيضـاء. أزيـح أحـد الحواجز جانباً مثلما فعل غيرى وأمر إلى جوار أحد الحـراس دون استعجال. أسير إلى موقف لسيارات الأجرة دلنـى عليـه البحار. أتوقف عند إحداها فيسألني السائق "إلى أين؟". أجيـب بالفرنسية دون تردد "إلى مقهى مارسيليا" ، فلابد أن هناك مقهى بهذا الإسم في المدينة. عند بوابة المينـاء الضخمة يوقـف السائق سيارته فيطل أحد الحراس عندها من النافذة ويسألني: "أليس عندك حقائب"؟ . أنطلق بالإجابة على الفور جـاءتنى دون تفكير "كنت أودع أحد الأصدقاء"، كأن كل الخلايا والقدرات في عقلي وجسمي تعمل بسرعة مضاعفة. يلوح الحـارس فاتحـا الطريق. ألمح يده الكبيرة تفتح أصابعها كأنني طـائر تطلـق سراحه ليطير. تنطلق السيارة إلى الشوارع كالنحلة فـأتراجع بجسمي عن حافة المقعد لأسند ظهري وأرتاح. أشعل سيجارة وأتأمل أصابعي أجدها ثابتة لا تهتز فأشعر بالرضـاء. أتفقـد السترة الرمادية والبنطال، والجراب الأزرق، والحذاء الأسـود كأنني أعود إلى الوجود بالتدريج، وفجأة تغمرني موجـة مـن السعادة العارمة. أتطلع إلى السماء من النافذة، إلـى المـبـانى تلمع في الشمس، إلى الأشجار، إلى السائرين يسـرعون فـي الشوارع.
تمر إلى جوار السيارة فتاة تركب دراجة. ألوح لها بيدي فتضئ أسنانها في ابتسام. أريد أن أتحدث إلى الناس، أن أنادي عليهم بأعلى صوتي : "أنا هنا... عدت إلـى الحيـاة". يتملكنـي الشعور بأنني لأول مرة أحيا الحرية بكل جزء من كياني.
قضيت اليوم كله في "مارسليا". في المقهى تناولت قدحاً من القهوة باللبن، وقطعة من "الكرواسون" خرج على التو من الفرن. حتى هذه اللحظة لا أنسى مذاقهما على لساني ، كأنهمـا أجمل ما أكلته في حياتي. ابتعت جميع الصحف من شاب عيناه صافيتان فيهما زرقة البحر. له ذراع مبتورة ونظرة فيها حزن. وابتعت زهرة بنفسج من امرأة عجوز، ثم اتجهت إلى مكتبـة عند شارع "كانبيير" المطل على الميناء القديم دلني عليه الشاب الذي باعنى الصحف. اخترت كتابين لأقرأ فيهما عندما اسـتقل قطار الليل ذاهبا إلى باريس.
رأيت المدينة مفتوحة أمامي فمشيت. أمد ساقي فلا يوقفها شئ، لا حاجز، ولا جدار، ولا قضبان، ولا باب مغلـق علـىّ. ألمح عجلة كبيرة تدور في السماء فوق رأسى مزودة بمقاعـد جلس فيها رجال ونساء، وأطفال يلوحون إلى السائرين علـى الأرض، وأسمع أبواقا نحاسية تصدح في الفراغ. أتجه ناحيتها لأجد مدينة للملاهي يتدفق إليها الناس، فأختلط بالزحام. أدخل معهم في مبنى فيه دهاليز علقت على جدرانها المرايـا. أرى نفسي فيها مرة كالكرة المنتفخـة، ومـرة كالبيضـة، تبتسـم ابتسامة بلهاء، ومرة كالبوصة الرفيعة. أضحك على نفسي مع الضاحكين. أصبح كالأطفال ، صوتي له رنين. أتـرك المبنـى واتجه إلى العجلة الكبيرة أجلس في أحد مقاعدها وأطير معهـا في السماء. أمتطي حصانا خشبيا يدور بسرعة كبيـرة مـع الآخرين. شعرى يطير فـي الهـواء وصـوتي يصـرخ مـع الصارخين. أركب سيارة كهربائية صغيرة تنطلق بي دون إنذار لتصطدم بسيارات ركبها آخرون. عندما أتركها أشعر بسـاقي تنثنيان تحت جسمى من الإرهاق. أتجه نحو باب الخروج إلـى الشارع العريض، وأبحث عن مطعم لأملأ معدتي الخاوية تصرخ من الجوع. أجد نفسي جالسا أمام مائدة على مقعد من الجلد ، وقد وضعت أمامي النادلة الشقراء أطباقا فيهـا حسـاء، وسمك، وجمبرى وسلاطة خضراء. انتهى من الطعام فأشـرب القهوة ثم أخرج من جيوبي قلما وورقة بيضـاء، ومظروفـا، وطابع بريد ابتعتها من أحد المحلات، وأكتب رسالة تقول:
عزيزي الأستاذ "حامد الألفي"
أكتب هذه السطور بعد ست ساعات من وصولي إلـى مدينة "مارسيليا". سأستقل القطار السريع إلـى بـاريس فـي الساعة الثامنة والنصف مساء اليوم. أشكرك على كل ما فعلته من أجلي. وإلى اللقاء ".
أفقت على صوت عال يقول:
"يا أصدقاء فلنبدأ الاجتماع".
من كتاب : يوميات روائى رحّال " 2008
---------------------------------------------------------------------








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بشكل طريف فهد يفشل في معرفة مثل مصري ????


.. إسرائيل وإيران.. الضربات كشفت حقيقة قدرات الجيشين




.. سيناريو يوم القيامة النووي.. بين إيران وإسرائيل | #ملف_اليوم


.. المدفعية الإسرائيلية تطلق قذائف من الجليل الأعلى على محيط بل




.. كتائب القسام تستهدف جرافة عسكرية بقذيفة -الياسين 105- وسط قط