الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الرقم أربعون في الميثولوجيا والمعتقدات الدينية

فارس خليل ابراهيم

2022 / 8 / 27
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


اقترن ظهور دور الأيام والسنوات الأربعين بالانتقالات النوعية التي تحدث للأشخاص والجماعات في المعتقدات الدينية، بظهور المدنية في حضارات الشرق الأدنى. فكل مكونات النصوص التي تحتوي على الرقم أربعين هي مكونات مترشحة من المجتمع المدني لتلك الحضارات وظواهره، فقد كان الرقم أربعون رمزَ الإلهِ "انكي" السومري الذي ساهم في خلق الإنسان وعمل جاهداً على نجاته في قصة الطوفان الرافدينية.
واعتقد المصريون أن الروح تبقى في جسد الإنسان مدة أربعين يوماً بعد موته.
أما في الكتاب المقدس فقد ورد ذكر الرقم أربعين بمواضع كثيرة للإشارة الى جملة من الأحداث الممهدة للانتقال بالشخوص والجماعات الى مستوى أخر يختلف عن المستوى الذي سبقه؛ فقد عاش موسى "عليه السلام" 120 سنة مقسمة على ثلاثة مراحل كل مرحلة منها استمرت 40 سنة (سفر الأعمال 7: 23، 30، 36).
الأربعون سنة الأولى من حياة موسى "ع" كانت في كنف فرعون اكتسب فيها المعرفة والحكمة المصرية، أما الأربعون سنة الثانية فقد كان فيها موسى "ع" راعياً للغنم في مدين، بعد هروبه من فرعون، ليتجلى له يهوه بهيئة نار وسط شجرة العليق ليأمره بقيادة شعبه الى الأرض الموعودة. في حين قضى الأربعين سنة الأخيرة من عمره مع قومه في التيه بعد أن عاقب يهوه شعبه المختار عقب طلبهم إلهاً يشبه آلهة مصر إثر غياب موسى "ع" عنه أربعون يوماً "ولما رأى الشعب أن موسى أبطأ في النزول من الجبل اجتمع الشعب على هارون وقالوا له قم اصنع لنا آلهة تسير امامنا لان هذا موسى الرجل الذي اصعدنا من ارض مصر لا نعلم ماذا أصابه" (سفر الخروج 1- 32).
وقد ملك أول ثلاثة ملوك في بني إسرائيل (شاؤول، داوود، سليمان) حسب الرواية التوراتية، أربعين سنة لكل منهم، واستمر حكم القضاة من بعدهم أربعين سنة أيضا.
وفي الإنجيل صام يسوع في البرية أربعين يوماً وليلة، نجح فيها بالتغلب على اغراءآت ابليس والعودة الى قومه ليزف لهم البشارة بملكوت الرب "ثُمَّ أُصْعِدَ يَسُوعُ إِلَى الْبَرِّيَّةِ مِنَ الرُّوحِ لِيُجَرَّبَ مِنْ إِبْلِيسَ. فَبَعْدَ مَا صَامَ أَرْبَعِينَ نَهَارًا وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً، جَاعَ أَخِيرًا. فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ الْمُجَرِّبُ وَقَالَ لَهُ: «إِنْ كُنْتَ ابْنَ اللهِ فَقُلْ أَنْ تَصِيرَ هذِهِ الْحِجَارَةُ خُبْزًا». فَأَجَابَ وَقَالَ: «مَكْتُوبٌ: لَيْسَ بِالْخُبْزِ وَحْدَهُ يَحْيَا الإِنْسَانُ، بَلْ بِكُلِّ كَلِمَةٍ تَخْرُجُ مِنْ فَمِ اللهِ" (متى 4: 1-11) .
وقد استمر يسوع يظهر لتلامذته ـ بعد حادثة الصلب ـ أربعين يوماً، يعلمهم فيها الحكمة، ليكونوا مهيئين لحمل رسالته الى العالم "اَلَّذِينَ أَرَاهُمْ أَيْضًا نَفْسَهُ حَيًّا بِبَرَاهِينَ كَثِيرَةٍ، بَعْدَ مَا تَأَلَّمَ، وَهُوَ يَظْهَرُ لَهُمْ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَيَتَكَلَّمُ عَنِ الأُمُورِ الْمُخْتَصَّةِ بِمَلَكُوتِ اللهِ." (أعمال الرسل 1: 3).
وهناك شواهد كثيرة في الكتاب المقدس تربط الرقم أربعين بالتحولات الجذرية في حياة الأشخاص والجماعات المذكورة في الكتاب.
كما أن الديانات الأخرى في المنطقة لم تخلُ من هذه الرقم وأسراره، ففي فارس بعث زرادشت نبياً بعد بلوغه الأربعين من العمر، وكذلك النبي الاكرم محمد "صلى الله عليه وآله وسلم" قد نزل عليه الوحي في هذا العمر.
وفي القرآن الكريم ورد ذكر هذا الرقم ثلاث مرات للإشارة الى انتقال الانسان الى مستوى آخر يختلف عن الذي سبقه.
﴿.. حتى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ.. ﴾ للإشارة الى تحلي الانسان بالحكمة بعد الأربعين.
وقد أشار القرآن الكريم أيضاً الى نكوص بني إسرائيل بعد غياب موسى "ع" عنهم أربعين ليلة "وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَىٰ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ"، وقوله تعالى: "وَوَاعَدْنَا مُوسَىٰ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَىٰ لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ"، والأربعون ليلة هذه كانت ضرورة لتلقي موسى "ع" وصاياه وكانت كافية أيضاً لارتداد أغلب بني إسرائيل؛ إذ أوجبت غضب الله تعالى عليهم ومعاقبتهم، "قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ".


لذلك فالآيات السابقة من القرآن الكريم والكتاب المقدس تشير وبلا لبس الى العلاقة بين الرقم أربعين ومرحلة السيرورة الضرورية لانتقال الشيء الى مستوى آخر بعد قضاء هذه المدة يقول الإمام علي "عليه السلام": "إن الله عز وجل قدر خلق الانسان فصيره نطفة أربعين يوما ثم نقلها فصيرها علقة أربعين يوما ثم نقلها فصيرها مضغة أربعين يوما فهو إذا شرب الخمر بقيت في مشاشه أربعين يوما على قدر انتقال خلقته".
ان هذه الظاهرة الواضحة للعيان في المعتقدات الدينية التي تربط بين الرقم أربعين وسيرورة الأشياء نحو صيرورة جديدة، دفعتني للبحث عن الأسس المادية لهذا الاعتقاد المنتشر بين شعوب و حضارات الشرق الأدنى بالاعتماد على المنطقة والحقائق العلمية التي أثبَتَت أن لكل مادة صيرورتها الخاصة التي قد تستغرق بضع ثوان، أو قد يتطلب البعض منها آلاف السنين، ما عمق عندي رغبة البحث للإجابة عن السؤال: من أين استلهم الإنسان المتمدن فكرة ملازمة التحول بالرقم أربعين؟.
لقد ربط الإنسان ومنذ فجر التاريخ معتقداته الدينية، بالظواهر المادية ذات الحضور الدائم مثل: الفلك، والزراعة، وجني المحاصيل وعند بحثي عن أصل فكرة الصيرورة الأربعينية كان من الواجب أن أجد رابطاً منطقياً يربط هذه الفكرة، بظاهرة مستقرة دائمة التكرار ومرتبطة بحياة الإنسان في تلك الحضارات القديمة.
لعبت الزراعة وصناعة الأغذية منزلياً في حضارات تلك الشعوب دوراً مهماً لآلاف السنين، كونها تعد من أسباب البقاء والثروة، وشكلاً من أشكال المدنية، وعند ملاحظة صناعة الخل التي ظهرت في المنطقة نجد أنها تستغرق أربعين يوما لتتحول فيها الثمار المخمرة الى خل (الخل) الذي كان يمثل لسكان وادي الرافدين: مادة غذائية مهمة، ومطهراً للجروح، إضافة إلى كونه عنصراً مهماً في الطقوس السحرية والدينية والذي احتفظ بمكانته الروحية والسحرية في ثقافة شعوب المنطقة حتى يومنا هذا.
"من اكل الخل قام على رأسه ملك يستغفر له حتى يفرغ" حديث نبوي شريف.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فرنسا: القيادي اليميني المتطرف إريك زمور يتعرض للرشق بالبيض


.. وفد أمني إسرائيلي يزور واشنطن قريبا لبحث العملية العسكرية ال




.. شبكة الجزيرة تندد بقرار إسرائيل إغلاق مكاتبها وتصفه بأنه - ف


.. وزير الدفاع الإسرائيلي: حركة حماس لا تنوي التوصل إلى اتفاق م




.. حماس تعلن مسؤوليتها عن هجوم قرب معبر -كرم أبو سالم- وتقول إن