الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الملحد كمواطن والملحد كإنسان نقدُ ماركس للدولة العلمانية (فرانك فيشباخ)

محمد الهلالي
(Mohamed El Hilali)

2022 / 8 / 27
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق


خاض ماركس، في مقال بعنوان "حول المسألة اليهودية"، نشر سنة 1844، في لحظة لم تعترف فيها ألمانيا بعد بدولة الحق، في ظل دولة مسيحية، سجالا مع الفيلسوف الألماني برونو باور ( Bruno Bauer) حول مسألة العلمانية ( اللائكية).
فحسب برونو باور، لكي يتحرر الفرد المعتنق للدين اليهودي بكيفية مدنية، أي لكي يحصل على حقوق مدنية، عليه أن يتخلى عن دينه. فالانتماء لمجتمع المواطنين السياسي يقتضي التضحية بالخصوصيات الدينية.
فعلى الفرد أن يختار إما ان يكون يهوديا، بروتستانتيا، كاثوليكيا أو مسلما، وإما أن يكون مواطنا. ويعتقد برونو باور –حسب ماركس- أن "الإلغاء السياسي للدين يساوي الإلغاء التام والخالص له، أي إقامة دولة لا دين لها، إقامة دولة علمانية أو دنيوية (فهذا هو هدف الإلغاء السياسي للدين)، بما ان الدولة العلمانية تفرض على مواطنيها أن لا ينتموا لأية جماعة دينية كيفما كانت، وأن لا يعبروا عن أي مظهر من مظاهر الانتماء الديني.

التحرر السياسي بين الجمهورانية الليبرالية والعلمانية

رفض ماركس موقف برونو باور، أي رفض التصور الإداري والمركزي والاستبدادي للسلطة (اليعقوبية) والتصور الجمهوراني (الذي يرى أن الحرية تتجسد في رفض سيطرة الإنسان على الإنسان، ويعطي الأولوية للقوانين وخضوع الأفراد للدولة) والتصور العلماني.
هل يعني ذلك ان تصور ماركس ليبرالي؟ إن تشكيك برونو باور في الموقف الليبرالي صار أمرا شائعا اليوم، ويمكن تلخيصه كما يلي: "إذا كانت الليبرالية هي تمكين المواطنين من أن يعيشوا حياة دينية، فإن الجماعات الدينية سوف تهيمن سريعا على المجتمع السياسي". ولقد تسبب هذا التشكيك في الخلط بين الليبرالية من جهة وحياة الجماعات، التي تميزها خصائص معينة، داخل المجتمع من جهة أخرى. فالليبرالية صارت هي حرية وجود جماعات داخل المجتمع، تتطور بحرية على حساب الدولة، أي على حساب مجتمع المواطنين السياسي الكوني.
رفض ماركس اليعقوبية والجمهورانية العلمانية والليبرالية. فما هو الموقف البديل الممكن إذا تم رفض إلغاء الدين وتم رفض تعدد الأديان؟
ينقل ماركس المسألة إلى مجال التحرر السياسي، لأن التحرر السياسي قيمة مشتركة بين الجميع. ومعنى ذلك نقد الدولة السياسية فعليا، الدولة المحررة من الدين، العلمانية. ويطرح السؤال التالي: "هل يحق للموقف المدافع عن التحرر السياسي أن يطالب اليهودي بالتخلي عن اليهودية، وأن يطالب الإنسان بصفة عامة بالتخلي عن الدين؟" (ماركس، حول المسألة اليهودية). نلاحظ أن أنصار التصور اليعقوبي والجمهوراني هم المعنيون بهذه القضايا لأنهم وحدهم الذين يطالبون المواطنين السياسيين بتصفية الدين. أما الليبراليون فليسوا معنيين بهذا الموقف.
لكن، لننظر، يقول ماركس، كيف تُعالجُ المسألة في "الدول الحرة في أمريكا الشمالية"، لننظر إلى وضع المشكلة هناك، حيث تتصرف الدولة تجاه الدين كدولة سياسية فقط، إضافة إلى أن هذه الدولة محررة كليا من كل دين خاص.
سنجد تحررا سياسيا مكتملا لكونه يعامل جميع المواطنين كمتساوين في الحقوق كيفما كانت ديانتهم، وفي نفس الوقت، يضيف ماركس، "تعتبر أمريكا الشمالية بلد التديّن بامتياز" (ص 65). يوضح هذا الموقف خطأ الجمهورانيين واليعاقبة وبرونو باور. كما يوضح وجاهة وصحة الموقف الليبرالي. يلخص ماركس المسألة بقوله إن "حضور الدين لا يتناقض مع بلوغ الدولة الكمال" (ص 65).
يمتاز الموقف الليبرالي بتعبيره عن حادثة واقعية: وهي أن الدولة التي تعترف بالمساواة في الحقوق بين المواطنين وتطبيقها بغض النظر عن دينهم، هي دولة تتلاءم مع الحياة الدينية المكثفة والمتنوعة والمنظمة لهؤلاء المواطنين أنفسهم. وهذا ما تشهد عليه دول شمال أمريكا، ولكن هذا الواقع عبرت عنه الليبرالية وأكدته، غير أنه غير مفسر.

الدولة وسيط بين الإنسان وحرية الإنسان

صارت المسألة على الشكل التالي: لماذا يظل الأفراد المتمتعون بالحرية السياسية متدينين؟ هناك توتر، بل تناقض، ينبغي تفسيره، حسب ماركس، اعتمادا على ما يشكل غاية التحرر السياسي. إن كون الدولة العلمانية هي مصدر التحرر السياسي وغايته يجعل المصدر والغاية غير واضحيْ الانتماء للدولة العلمانية، وسبب ذلك حسب ماركس هو: استمرارية وجود المكون الديني في الدولة العلمانية، وكون التحرر السياسي -الناتج عن المجتمع السياسي المكون من مواطنين أحرار متساوين- تحررا لازال هو نفسه دينيا.
يرى ماركس أن "الإنسان لما يتحرر سياسيا فإنه يتحرر بالمرور عبر وساطة" (ص 69). ومن الخصائص الدينية الاساسية لهذا الوضع الحاجة للمرور عبر وسيط (المرور عبر منعطف) لبلوغ حالة الحرية: فمن وجهة نظر دينية: هذا الوسيط المُحَرّر ما بين الإنسان غير الحر والإنسان المحَرّر، أي ما بين الإنسان المُذنب والإنسان الناجي، هو الله نفسه، أو أحد ممثليه، سواء كان رسولا-إنسانا أو التجسيد البشري للإله ذاته. ويمكن قول نفس الشيء عن التحرر السياسي، أي الانتقال من حالة السيطرة إلى حالة المواطنين الأحرار المتساوين، فالتحرر السياسي هو تحرر لازال دينيا لكونه يتحقق عبر وسيط، ولكونه لازال بحاجة لوسيط هو، في هذه الحالة، الدولة العلمانية ذاتها.
كتب ماركس حول هذه المسألة قائلا: "الدين هو الاعتراف بالإنسان عبر وساطة، والدولة هي الوسيط بين الإنسان وحرية الإنسان" (ص 69). إن الحرية السياسية والمساواة في الحقوق هما ما يحصُل عليه الإنسان بمروره عبر وساطة الدولة التي هي مؤسسة سياسية فعليا وبشكل خالص. ومن خلال هذه الوساطة يحصل على حريات عديدة من بينها حرية أن لا يكون متدينا، أي الحرية في أن يكون ملحدا كمواطن. إنه يحصل إذن على حرية اتخاذ موقف من الدين، لكنه يحصل على هذه الحرية تجاه الدين دينيا، بما أنه لا يحصل عليها إلا عن طريق وساطة الدولة، وباعتباره مواطنا فقط.
يمكن لمواطن في دولة علمانية (ذات توجه جمهوراني) أن يعلن أنه ملحد، ولكن ما يعلنُ عنه في الحقيقة هو "أن الدولة ملحدة" (ص 69)، وأنه هو نفسه ليس ملحدا إلا عبر وساطة هذه الدولة. فأن يصبح المواطن ملحدا من خلال وساطة، معناه أن يصبح ملحدا دينيا. وهذا ما يعلن عنه ذلك المواطن في الحقيقة، أي أن الدولة هي الملحدة، بما أنه لا يعلن عن كونه ملحدا إلا باعتباره مواطنا وليس باعتباره إنسانا. إنه لا يعلن عن كونه ملحدا، اي أنه محرر من الدين إلا عبر وساطة الدولة، أي ليس بشكل مباشر. فالذي يعتبر نفسه ملحدا، لا يعتبر كذلك كإنسان، وإنما هو ملحد كمواطن، اي انطلاقا من علاقته بنفسه عبر وساطة الدولة. فهو ليس ملحدا إذن إلا عبر وسيط، إذن فهو ملحد دينيا.
بدا موقف ماركس يتضح، فهو يعترف لليبرالية بانسجامها بالرغم من أنها تقود لوضعية غير مستقرة: فالليبرالية تقر بأنها لا تُحرر الناس إلا سياسيا، أي باعتبارهم مواطنين، وهذا يعني أنه لما تحررُ الليبرالية الناسَ من الدين، فهي تحررهم منه سياسيا فقط، وتتركُهم كائناتٍ دينية كبشر، وتحافظ بذلك على حرية مُعتقدهم.
لا تقدم الجمهورانية (ولا اليعقوبية) موقفا أفضل من موقف الليبرالية: فهي لا تحرر الناس إلا سياسيا بجعلهم مواطنين، لكنها تدعي أنها تفعل أكثر وأفضل من الليبرالية، إنها تدعي القيام بشيء لا تملك الوسائل للقيام به، إنها تدعي تحرير الناس من الدين ليس فقط كمواطنين ولكن كبشر، إنها تدعي تحويل الناس إلى ملحدين في حياتهم وفي وجودهم كبشر، وليس فقط في وجودهم كمواطنين.
إن موقف ماركس حول هذه المسألة واضح: إنه يعتقد أن الجمهورانية ليست مخطئة في العمق، لما حّدت كهدف لها جعل الناس ملحدين كبشر أيضا، ولكنه يرى أنه لا توجد دولة على الإطلاق يمكنها تحقيق هذا الهدف. إن جعل الناس ملحدين، حسب ماركس، (وليس فقط باعتبارهم مواطنين) ليس من اختصاص الدولة: وبخصوص هذه المسألة، فهو ليبرالي بشكل مؤكد، إلا أنه لا يبرر هذا الموقف بالقول إن الدولة لا ينبغي عليها فعل ذلك، ولكن بالتأكيد على أنها لا يمكنها فعل ذلك.
ينتج عن هذه الاعتبارات ما يمكن أن يشكل، حسب ماركس، حلا. من الواضح أنه لا يمكن التخلي عن التدين الواقعي اعتمادا على إلحاد سياسي إلا بتوسيع مجال الإلحاد السياسي ليشمل الحياة الواقعية. لكن تؤكد جميع الحالات التاريخية إلى الآن أن الدولة ليست هي التي ستجعل الأفراد ملحدين واقعيا وليس سياسيا فقط: هنا نتعرف على ما احتفظ به ماركس من الليبرالية. فالإلحاد لا يمكنه أن يصبح واقعيا إلا لما يكون التدين واقعيا، أي في الحياة الاجتماعية للأفراد، ولا يمكن للإلحاد أن يصبح واقعيا إلا من خلال وسائل اجتماعية وليست سياسية.

التخلي عن التدين والتغيير الاجتماعي

إن التخلي عن التدين الواقعي لا ينتج عن تدخل الدولة، ولكنه يتحقق من عبر التغيير الاجتماعي. يتعلق الأمر بأن يصبح الناس أسيادا لقواهم الخاصة عوض إبعادها واستعمالها سياسيا فقط. إن تملك الأفراد لقواهم الخاصة هو الذي سيغيرهم ويجعلهم "قوة اجتماعية"، حسب تعبير ماركس الذي استعمله في كتاب "الإيديولوجية الألمانية"، أي قوة يستعملها الناس الذين يعيشون جماعيا للتأثير على حياتهم الاجتماعية الخاصة.
راهن ماركس على أن تدين الناس سيتراجع شيئا فشيئا إلى أن يصبحوا، ربما، بدون دين نهائيا، بمجرد ما يتملكون وجودهم الاجتماعي ويتملكون في نفس الوقت القوة الجماعية التي تمكنهم من اختيار صيغة حياتهم الاجتماعية والتحكم فيها. كان بإمكاننا القول أن ماركس خسر رهانه لو أنه، ومنذ ذلك الحين، تقدمنا في تحقيق مجتمع مستقل ذاتيا تحكّم فيه أعضاؤه جماعيا، وتملّكوا فيه جماعيا "قواهم الخاصة"... لكن، وكما يشهد الواقع على ذلك، نحن أبعد بكثير عن ذلك، كما أن عودة الدين والتدين بقوة في مجتمعاتنا، إبان تفككها تحديدا، ذلك التفكك الذي لا مثيل له سابقا، وهو ما يعني أن الناس في مجتمعاتنا هم اليوم أقل تحكما فيها... كل ذلك يؤكد في نظري صحة ووجاهة تشخيص ماركس.

ترجمة: محمد الهلالي

المرجع:
- Franck Fischbach, Cause commune n° 5 - mai/juin 2018.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. دعوات دولية لحماس لإطلاق سراح الرهائن والحركة تشترط وقف الحر


.. بيان مشترك يدعو إلى الإفراج الفوري عن المحتجزين في قطاع غزة.




.. غزيون يبحثون عن الأمان والراحة على شاطئ دير البلح وسط الحرب


.. صحيفة إسرائيلية: اقتراح وقف إطلاق النار يستجيب لمطالب حماس ب




.. البنتاغون: بدأنا بناء رصيف بحري في غزة لتوفير المساعدات