الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اللامُحاوِر ( ١ )

محمد ليلو كريم

2022 / 8 / 30
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


من البدهي أن أقول أن كل ظاهرة تتكون من جزئيات تجتمع فتكوْن الظاهرة، ومن الأفضل أن تُدرَس كل حالة على حدة في مرحلة من مراحل بحث الظاهرة كلها، وأنا هنا؛ في هذا المقال أناقش جزئية من ظاهرة، هي ظاهرة التخلف الإجتماعي، والجزئية التي أناقشها وضعت لها عنوانًا؛ هو: اللامُحاوِر.
لأنني في مرحلة المناقشة، ولئلا أفرض جهلي على التخصص؛ أطرح أمامكم حالة اللامُحاوِر بالاستعانة بما أشاهد وأعايش، وهي عَنْوَنة كوصفٍ للألم لا لتشخيصه، اللامُحاوِر كحالة اجتماعي موجودون، وهم يتمتعون احيانًا بقدرة على المشاركة في ارهاص سياسي وصراع الساعين للسلطة، ولما يبرز دور اللامُحاوِر تكتشف أنه لا ينطق بمنطق وعلم ليوصل رسالة الى بقية الناس أو الى من يختلفون معه في رأي حمله ليس له فيه فكرة ولا مساهمة بتفكير، فاللامُحاوِر فاشل في التفكير، وهو فاشل عندما يُعبّر عن افكاره، فالتعبير يفشل أن نتج عن فشل في التفكير، وهذا برأيي التوصيفي مردّه للتخلف الثقافي والتعليمي ولسوء اخلاق وسلبية نفسية وبُنى ذهنية سيئة تجعل الجماعة تمتنع عن التحاور مع أي مجموعة أخرى لا تعتنق نفس أفكارها.
اللامُحاوِر في مرمى هذا التقدير إمام عاجز أو راغب.
.......................
أن يتحول الإنسان وهو كائن ناطق؛ الى لا مُحاوِر، هو خلل يعادل عاهة، وهي عاهة تُصيب الكائن العاقل الناطق في أحد أهم مميزاته، فالإنسان تميّز عن سائر الكائنات بقدرته على النطق بلغة، واللغة تطورت لتتحول الى وسيلة للتفاهم والمحاججة لتخفف من نزوع البشر للعنف والتواصل بالعِراك وبقية انواع الإتصال اللا لغوي، فالنطق بلغة ارتقاء تميز به الإنسان، ومن مميزات اللغة إنها تُنتِج الحوار، فالعقل يبحث عن عدد لا حصر له من الكلمات والمرادفات والبدائل المنطوقة ليُكمِل التواصل الحضاري مع عقل آخر، وهكذا تتواصل العقول مع العقول، وهذا التواصل هو عين الكلام، والكلام هنا عينه الحديث، هو التحدث، وانتاجه لخلق تواصل متعقل وعلمي ومنطقي ومخرج من المشاكل البشرية؛ هو الحوار، فالحوار استغلال لمنتوجات اللغة في مساحة زمنية وتسخير لإبداعات العقل تُصَب في قالب هو محاولة ذكية لخلق تفاهم بين البشر.
أن ما يُثبّط الحوار ويجعله غير مرغوب عند الإنسان هو نفسه العامل الذي يجذب الإنسان الى عكس اتجاه الحصول على حاجاته وتحقيق مصالحه، إنها الانفعالات، وبالدقة هي الانفعالات العصابية، والحقيقة أن الحوار حاجة، وهو وسيلة اخترعها البشر وطوروها لتحقيق مصالحهم دون خسائر بعد أن عرِفوا وخبِروا التواصل باليد والأسنان والأحجار الدامية وسائر وسائل قهر الآخر. فظهرت اللغة، فالتواصل باللغة، فالتفاهمات البدائية، فالحوار، وبرأيي أن افلاطون التفت الى ضرورة تطوير هذه الخصيصة البشرية فجاء في حواراته: " لا خير في الحياة إلا إذا كانت خيرة عادلة. ليس من طبائع الأشياء أن يؤذي الرجل الخبيث من هو أصلح منه. ما أعز حماسك وما أنفسه لو كان في جانب الحق، أما إن كان للباطل فكلما زاد حماسك اشتعالاً ازداد الأمر سوءاً/ مقدمة أقريطون". هذا القول المنسوب لسقراط بتدوين تلميذه افلاطون يُلخّص ما نتحدث عنه عن الحوار والحاجة والمصلحة والإنفعالات العصابية، وهذا ما وجدته بعد أن وضعت في محرك البحث google عبارة: حوارات افلاطون.
أفترض أن العاهة التي تُصيب الإنسان وتنفره من الحوار تضربه في صحته العقلية، أو لنقل إنها عاهة نفسية، ولِمَ لا نعتبرها عاهة ذهنية، وهنا نؤكد على ضرورة التشخيص التخصصي، وهذا التنقّل -إعتبار العاهة عقلية أم نفسية أم من منشأ آخر في الإنسان- يضع ايدينا على مشكلة خطيرة تسببت بتدهور الوعي العام، وهذا التدهور طال واحدة من خصائص النطق البشري؛ الحوار.
لو إنك أمعنت النظر في المشادات الحوارية المنقولة عبر شاشات التلفاز والتواصل الاجتماعي وكررت مراجعة المشادات في برامج الحوارات، ستشعر بالإنفعالات كزهايمر يضرب عقل الإنسان الناطق، أو كحالة تهيْج مرضي تداهم إنسان هادئ، وفي كلا الحالتين يتحول النطق الحواري الى كلمات تُقذَف بهستيريا، ولكن هذا الذي يجري في البرامج الحوارية ويتكرر يقع في مساحة النخب السياسية أو المتمرسة اعلاميًا والمحللين، أما في الأوساط الشعبية فأعتقد أن الكثير من الأشخاص تحولوا الى لا محاورين، وفرق بين محاور مأزوم ولا مُحاور، فالأول يمتلك الأدوات والثقافة وقدرة على الطرح المتسلسل ولكنه يُجرف الى الإنفعال والتواصل الهستيري مع الآخر، أما الثاني فهو شخص شعبي، لا يُجيد وضع افكاره بعد قولبتها في نسق يخدم وحدة الموضوع؛ في سلسلة منطوقة مفهومة، ولا قدرة له على استيعاب الأدوات والثقافة الحوارية، وعندما نُضيف التأزم يظهر شخص لا مُحاور، وهذا اللامحاور تشبه حالته العاهة..
ما أن أنهيت المكالمة مع صديقي المتخصص وقد أمتدت لأربع ساعات متواصلة، وكُنا في حوار يستند الى ورق كتاب مشهور؛ رغبت بمعاودة الإتصال به لطرح سؤال أراه مهمًا: ما الذي مكننا من مواصلة الحوار على مدى الساعات الأربع؟.
الحوار: ( أما الحوار في الاصطلاح : مراجعة الكلام، وتداوله، بين طرفين، لمعالجة قضية من قضايا الفكر، والعلم، والمعرفة.. بأسلوب متكافئ، يغلب عليه طابع الهدوء، والبعد عن الخصومة/ ويكيبيديا). يُظهِر تعريف الحوار اصطلاحًا ما يؤيد فهمنا فهو طرح متسلسل يتمكن فيه المُحاوِر من صف افكاره في سلسلة منطوقة مفهومة بعد صفها في نسق يخدم وحدة الموضوع ولأجل الإحاطة به فهمًا من الطرف الآخر" أما الثاني فهو شخص شعبي، لا يُجيد وضع افكاره بعد قولبتها في نسق يخدم وحدة الموضوع؛ في سلسلة منطوقة مفهومة، ولا قدرة له على استيعاب الأدوات والثقافة الحوارية، وعندما نُضيف التأزم يظهر شخص لا مُحاور، وهذا اللامُحاوِر تشبه حالته العاهة". واللامُحاوِر يعبث في مجال الكلام كما انه يعبث في المجال العملي، وفي العموم هو شخص يجد صعوبة بالغة في التحاور مع الآخر على العكس من شخص متمكن من التحاور يبرع في التحدث، مستساغ الكلمات، يُجيد رصف المفردات.
من خلال مشاهداتي الشخصية هنالك حالات فردية لحالة اللامُحاوِر، ولكن الخطورة أو على الأقل الإشكال الجمعي المُتخوَف منه يكون اجتماعيًا وهو يتمثل في افساح المجال لمجموعة كبيرة من المواطنين أو جمهور متحزب التصدي لشأن من شؤون الدولة عبر احتجاج أو تحرّك مناهض وخاصة اذا كانت المناهضة مع طرف له حصة في الحكومة والعمل السياسي، ستكون الصورة كالآتي: مجموعة مكونة من مئة ألف غاضب خرجت محتجة حول شأن سياسي أو حكومي ولكنها مجموعة من صك بكم تدفعهم حالة هياج نفسي....
إذن؛ اللامحاور كفرد ليس موضوع هذا المقال، فأنا اتحدث عن اللامُحاوِر كحالة جمعية، ولا أعني اللامُحاوِر كحالة جمعية من جانب اجتماعي أو عشائري أو علمي أو ثقافي، إذ لا أقصد نخبة الثقافة والفكر والسياسة والتعليم والعلم والإعلام، فاللامحاور الذي أعنيه هو المواطن الذي يعجز عن الحوار في شأن سياسي سُمِحَ له أن يتصدى له، ولا يرغب في التحاور في ذات الشأن مع من يختلف معه، أي أن اللامحاور عاجز عن الحوار وراغب في اللاحوار، وهذا بتقديري الشخصي تمرد على العقل والتعقل واللغة والنطق والحالة الصحية للحضارة وجهود الرُقي البشري.
ما يدعم خمول اللامُحاوِر أو تشبثه برغبة اللاحوار هو انضمامه الى مجموعة مغلقة، فالمجموعة التي تُقدِّس شخص أو إله وتعتقد أن كل ما يصدر وصدر عنه تام كامل لا خطأ فيه وأن كل من يقول عكس ذلك خارج عن التصنيفات الأخلاقية والعقلية؛ لن تقبل برأي آخر يدعوها للنظر في ما تعتقد، وهي تتعصب لرأيها في تحريم أي رأي يُخالف ثوابت المُقدَس، وبقوة تأثير وحميمية العقل الجمعي وتكتل المجموعة يذود اللامُحاوِر عن موقفه ويصل الى حد تحريم الإستماع لأي رأي مُخالف.
انخراط كل أو أغلبية المجتمع في حوار بوعي جيد وحدود مقبولة للتحاجج هو الضامن لرُقي الدولة وتطور المجتمع والنهوض بنظام ديموقراطي معتبر..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تحدي اللهجة السودانية والسعودية مع اوسا وفهد سال ??????????


.. جديد.. رغدة تتحدث عن علاقتها برضا الوهابي ????




.. الصفدي: لن نكون ساحة للصراع بين إيران وإسرائيل.. لماذا الإصر


.. فرصة أخيرة قبل اجتياح رفح.. إسرائيل تبلغ مصر حول صفقة مع حما




.. لبنان..سباق بين التهدئة والتصعيد ووزير الخارجية الفرنسي يبحث