الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المسيح عيسى بين الإنجيل والقرآن

حامد حامدين

2022 / 8 / 30
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


ولادة الـمـسيــح فـي الأناجيل:
لم تذكر ولادة المسيح عليه السلام إلا في إنجيلي متى ولوقا من الأناجيل الأربعة. وجاء فيهما أن أمه التي لم يذكر الإنجيلان عن أبيها وأمها وعائلتها شيئا، إلا ما ذكره إنجيل لوقا من كون امرأة زكريا نسيبتها، جاء فيهما أنها كانت مخطوبة لرجل اسمه يوسف من بيت داود وحسب إنجيل لوقا فقد :" أرسل إليها الملاك من قبل الله، فدخل عليها وقال لها : "سلام عليك أيتها المنعم عليها الرب معك : مباركة أنت في النساء: فاضطربت لكلام الملاك، وسألت نفسها : " ما عسى أن تكون هذه التحية:" فقال لها الملاك :" لا تخافي يا مريم فإنك قد نلت نعمة عند الله ! وها أنت ستحبلين وتلدين ابنا، وتسميه يسوع، إنه يكون عظيما.." فقالت مريم للملاك:" كيف يحدث هذا، وأنا لست أعرف رجلا؟" فأجابها الملاك:" الروح القدس يحل عليك وقدرة العلي تضللك.. فليس لدى الله وعد يستحيل عليه إتمامه " فقالت مريم:" ها أنا أعبد الرب ليكن لي كما تقول" ثم انصرف الملاك من عندها""( لوقا 1: 68-38) أما إنجيل متى، فإن مريم "قبل أن تجتمع بخطيبها وجدت حبلى من الروح القدس، وإذا كان خطيبها بارا أو لم يرد أن يشهر بها قرر أن يتركها سرا، وبينما كان يفكر في الأمر إذا ملاك من الرب قد ظهر له في حلم يقول :" يا يوسف ابن داود لا تخف أن تأتي بمريم عروسك إلى بيتك، لأن الذي هي حبلى به إنما هو من الروح القدس، فستلد ابنا وأنت تسميه يسوع، لأنه هو الذي يخلص شعبه من خطاياهم" فأتى يوسف بعروسه إلى بيته ولكنه لم يدخل بها حتى ولدت ابنا فسماه يسوع" (متى 1: 18-25) فالإنجيلان يقرران أن المسيح عيسى بن مريم ولد من غير أب ،وأمه لم تعرف رجلا قبل ولادته وإنما كانت ولادة بالقدرة حيث حل عليها الروح القدس وضللتها قدرة العلي ، وأنجز الله وعده فيها لأنه ليس وعد يستحيل عليه إتمامه.
والتساؤل هنا الآن هو: لماذا أغفل الإنجيلان الآخران ذكر هذه المعجزة مع كونها أهم معجزات المسيح، إذ هو وأمه آيتان للعالمين يدلان على قدرة العلي؟ بينما ذكرت الأناجيل الأربعة مجتمعة قضية أن المسيح قد ركب الحمار أو غيرها من الأمور العادية في حياة الناس.
وإذا كان المسيح عيسى بن مريم ولد من غير أب، فما معنى أن يسمى ابن داود عن طريق يوسف الذي كان خطيبا لأمه، فهل كان يوسف النجار هذا فعلا خطيبا لمريم العذراء؟ وما معنى أن يصطفي الله امرأة ستكون آية للعالمين هي وابنها وهي مخطوبة ليوسف النجار هذا؟ إن وجود هذا الخطيب في حياة مريم العذراء، الذي لم يرد أن يشهر بها، وترك قضية حبلها سرا، وأدخلها بيته حتى ولدت ابنها يسوع، ثم دخل بها، فعرف الابن ابنه، فنسب له ثم إلى جده داود، وكتب أهل الإنجيل في كتابهم المقدس:" وكان معروفا أنه ابن يوسف بن هالي..." ليطرح على قصة معجزة الولادة ظلا قاتما يجعلها غير ذات أهمية في معجزات المسيح، إن لم نقل موضع شك وارتياب.
وخلاصة القول إن وجود هذا الرجل في حياة العذراء يكيل لها ولابنها من التهم والبهتان مالا يحصى ويجردها من كل دليل وآية تبرئ ساحتها من هذا الافتراء البين، وهو غاية ما يطمح إليه الذين كفروا من بني إسرائيل فهم لم يؤمنوا بعيسى بن مريم ورسالته، ولا بالله وقدرته، ولا بالبعث والنشور والحساب، وكالوا لمريم سيلا من التهم والافتراء ومن مظاهر إسرارهم على إقحام هذه الشخصية " المورطة في قصة ولادة المسيح أن جعلوا لها أنسابا تربطها بداود فإبراهيم، وقد وصلها لوقا بآدم وبالله(1).
ولادة الـمـسيــح فـي القرآن:
يبدأ القرآن الكريم حديثه عن مريم العذراء بقضية اصطفاء آل عمران ، قال تعالى:" إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين. ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم"(2) ثم يذكر لنا أم مريم وإيمانها وتقواها ودعاءها ونذرها ما في بطنها لله، ثم يذكر ولادة مريم وإعادتها بالله وذريتها من الشيطان الرجيم، ثم تحدث لنا القرآن عن التقبل والنبات الحسن والكفالة الرشيدة ومن تم فقد حدثنا القرآن الكريم عن عائلة مريم وحياتها ووسطها الاجتماعي وبيت الطهر والنبوة الذي ربيت فيه، ويبين لنا الله سبحانه كيف يتسابق العلماء والأنبياء على كفالتها. وهذه الأمور كلها لا نجد لها ذكرا في الأناجيل وهي أخبار أساسية في معرفة مريم الصديقة قبل مجيء الملاك إليها، وكان الأولى أن تحدثنا الأناجيل عن مظاهر هذه النعمة والإكرام من حياتها كما فعل القرآن الكريم، وإلا فغياب حقائق الوسط الطاهر العفيف الثقي الذي ربيت فيه يؤثر سلبا على فهم القصة. ولا أدري كيف أن قوما يجعلون مـن امرأة ثالث ثلاثة في الألوهية ولا يتحدثون عن أجزاء مهمة وضرورية من حياتها؟ ولا أجد تفسيرا لغياب هذه المرحلة المهمة من حياة مريم العذراء في الأناجيل إلا بغاية إبراز شخصية يوسف الأسطورية، الذي كان بارا والذي هو من نسل داود على حساب عفة وكرامة وطهارة مريم البتول، ليحقق الذين لا هم لهم إلا تحريف الكلم عن مواضعه ما به يستطيعون تملك الناس إلى الأبد.
تعتبر هذه البيانات القرآنية ضرورية لمعرفة شخصية مريم الصديقة القانتة الطاهرة، قبل الولوج إلى قصة الولادة المعجزة، التي يفصلها القرآن الكريم تفصيلا دقيقا يقول تعالى:" واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا"(3) لقد كانت في عزلة تامة عن قومها، ومن تم لم يكن معها أي شخص وخصوصا ما يدعى أنه خطيبها. وقال تعالى: "فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشر سويا"(4) إن هذا الحدث العظيم حيث يتمثل الروح في صورة بشر يكلم مريم العذراء في عزلتها ، فتواجهه وترد عليه:" قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا"(5) فيحيها مبشرا " إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا قالت : أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا. قال : كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا"(6) ولم يكن الروح وحيدا وهو يخبرها بهذه البشارة السارة وإنما كان في حشد من الملائكة كما هو معهود فيه كلما نزل لأمر عظيم – ينزل الروح والملائكة بإذن ربهم من كل أمر – ولنستمع إلى حوار الملائكة مع مريم كما ورد في سورة آل عمران قال تعالى: " إذ قالت الملائكة : يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين" الآية(7) إنه الحوار نفسه الوارد في إنجيل لوقا مع بعض الحذف والإضافة التي يسهل الإطلاع عليها واكتشافها حيث نجد إضافة الزمان والمكان الذي لا يهمنا من أمرهما شيء في بيان الآية البينة، غير أن لأهل الكتاب في إضافة اسم المكان خصوصا محاولة لتصديق ما يقال إنه نبوءات الكتاب ومنها " وأنه يكون ناصريا" . ثم يستمر القرآن الكريم فيفصل لنا مسألـة الحبل والولادة كما فصل لنا مسـألـة البشـارة ولم يرد في النص الإنجيلي شيء من هذه الفقرة، رغم ما تكتسبه من أهمية، خاصـة بالنسبة لمريم وقومها وللبشرية عامة. حدثنا القرآن عن العزلة الثانية وهذه المرة خوفا من قومها لأنها تعرف بهتانهم ولا دليل لها مما يتهمها به قومها قال تعالى:" فحملته فانتبذت به مكانا قصيا"(8) لقد اعتزلت أبعد مكان عن الناس حتى تأمن من قومها وأقوالهم ودعواهم، والواضح من خلال النص القرآني أنها في هاته المرة كذلك كانت وحيدة ولم يكن معها أي رجل خطيبا أو غيره، وهو ما يفند ادعاء صحبتها ليوسف المزعوم. ويستمر القرآن في بيان معاناة المرأة الصديقة الطاهرة وهي وحدها في البراري قال تعالى:" فأجاءها المخاض إلى جدع النخلة، قالت: يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا"(9) يصور لنا القرآن الكريم أحرج اللحظات في حياة العفيفة الطاهرة حيث جاءها المخاض إلى جدع النخلة فتتمنى الموت قبل أن تصل هذه اللحظات فلا يطلع عليها أحد من قومها، إنه مخافة العار والخزي والفضيحة الذي تشعر به كل عفيفة عندما تتهم بما هي منه براء زيادة على المخاض وعذاباته والوحدة ووحشتها. هذا الوصف العميق للنفس البشرية والمجتمع الإنساني في عصر مريم العذراء، يبين لنا مدى الاهتمام القرآني بالجوانب النفسية والاجتماعية في صياغة أخباره وقصصه، وهو يدل على العلم المطلق لقائل هذا الكتاب ولم تذكر لنا الأناجيل عن هذه الأحداث شيئا ولو بإشارة بسيطة وكأنها أحداث عادية لا فائدة من ذكرها.
لقد وضعت مريم العذراء وليدها وبقي أمامها كيف ستفسر لأهلها دخولها عليهم وهي تحمله؟ كيف يتقبلون منها هذا؟ وكيف ستواجه اتهاماتهم ونظراتهم؟(10) أنظر الكلام في المهد" " معجزاته".
نـسـب الـمـسـيــح فـي الأنـاجـيـل .
من بين مؤلفي الأناجيل الأربعة لم يسجل إلا اثنين منهم سلسلة نسب عيسى عليه السلام والواضح أن هؤلاء الكتاب قد وقعوا في مأزق عجيب بل وفي تناقض صارخ، فبينمـا يقرون أن عيسى ولد من مريم دون أن يمسها رجل، يعودون فيقرون – جريا وراء أسطورة المسيح المخلص- أن عيسى من نسل داود، ولو كان عيسى ينسب إلى داود من جهة الأم لكان أمرا من الممكن قبوله، أي لو كانت مريم من ذرية داود لكانت نسبة عيسى إلى داود أمرا مفهوما، ولكن الدهشة تعلو وجوهنا عندما نراهم يربطون بين عيسى وداود عن طريق يوسف النجار. يقول متى عن نسب عيسى :" هذا سجل نسب يسوع المسيح بن داود بن إبراهيم" ثم يذكر هذه السلسلة من الأنساب مبتدأ بإبراهيم إلى أن يصل إلى ": وداود انجب سليمان" إلى آخر السلسلة حيث يقول :" ويعقوب أنجب يوسف رجل مريم الذي ولد منها يسوع الذي يدعى المسيح، فجملة الأجيال من إبراهيم إلى داود أربعة عشر جيلا، ومن داود إلى السبي البابلي أربعة عشر جيلا، ومن السبي البابلي إلى المسيح أربعة عشر جيلا"(متى 1:1-17).
يعلق جون فنتون على هذه الجملة الأخيرة فيقول: يشير متى إلى أنه في كل من العصور الثلاثة يوجد أربعة عشر جيلا، رغم أنه في الحقيقة لم يذكر سوى ثلاثة عشر اسما في العصر الأخير"(11).
أضف على ذلك أننا إذا نظرنا إلى سلسلة النسب التي ذكرها متى، نجد أنها تضم عددا من الزناة وأبناء الزنا بل ومومس مشهورة جاء ذكرها في سفر يشوع. ويمكن قراءة قصص هؤلاء في أسفار العهد القديم كالآتي:
• يهوذا وفارص وثامار: جاء فارص من زنى يهوذا بن يعقوب بامرأة ابنه المتوفي والتي تدعى ثامار حسبما جاء في ( سفر التكوين 13:38-29).
• راحاب الزانية ( سفر يشوع 2: 1- 6)(17) .
• راعوث الموآبية: جاء موآب من زنى لوط (المزعوم) بابنته البكر حسب (سفر التكوين: 19: 30-38) وراعوث موآبية حسب (سفر راعوث 1:1-4/ 41: 13-22) وتحرم توراة موسى دخول الموآبيين وأبناء الزنا في جماعة الرب (المقدسة) حتى الجيل العاشر كما في ( سفر التثنية 2:23-3).
• داود وامرأة أوريا : (سفر صموئيل الثاني 11: 1-27)(12).

أما لوقا فيسجل نسب المسيح على الشكل التالي:" ولما ابتدأ يسوع كان له نحو ثلاثين سنة وكان معروفا أنه ابن يوسف بن هالي بن متثات بن لاوي... بن ناثان بن داود " (لوقا 3: 23-31) إذا قارنا بين ما ذكره متى في الإصحاح الأول ولوقا في الإصحاح الثالث فيما يخص سلسلة نسب عيسى يتضح لنا مدى التناقض والتعارض الحاصل بينهما:
1- اختلف متى ولوقا في ابن داود الذي انحدر منه يوسف النجار أدى إلى اختلاف سلسلة النسب عند كل منهما فعلى حسب متى كان يوسف ابن يعقوب وحسب لوقا كان يوسف ابن هالي.
2-اختلاف مجموع الأجيال من داود إلى يوسف، فعلى حسب متى 27 جيلا بينما حسب لوقا 42 جيلا.
3- اختلاف متى ولوقا حول سلسلة النسب فمتى يقول انه ابن داود مارا بسليمان ولكن لوقا يقول أنه ابن داود مارا بناثان، ولا يحتاج الأمر إلى عالم متخصص في علم الأنساب ليوضح لنا أنه لا يمكن لبذرة داود أن تكون قد وصلت إلى والدة عيسى من خلال سليمان وناثان في نفس الوقت.
لقد طمسوا معجزة الميلاد سعيا وراء أسطورة قديمة. قضوا على عيسى ابن العذراء ليقيموا المسيح ابن داود مخلص إسرائيل وباعث مجدها، ورفض أغلبهم ذكر شيء في إنجيله عن معجزة الميلاد وكأنها عار أو فضيحة يجدر إقبارها وإبقاؤها في طي الكتمان، وحتى من ذكر المعجزة منهم فإنه كان في سردها أقرب إلى الشك منه إلى اليقين، مما أزكى لهيب الشائعات، ومرت الأيام ونسي الناس الحقيقة وسط الترهات، وتمسكوا بالأكاذيب والشائعات، وضاعت في اليم معجزة الميلاد، إلى أن نزل القرآن فأعلى الحقيقة وقطع دابر الشكوك وأعاد لمريم عفافها وطهارتها، وأعاد لعيسى عليه السلام قدره واحترامه، ولولا القرآن لاندثرت رواية الميلاد ولعدت من الأباطيل والخرافات التي ترددها الأديان الوثنية وفيما يلي حديث عن حقيقة النسب.

حـقـيـقـة نـسـب الـمـسـيـح:

لقد تحدثت الأناجيل عن المسيح باعتباره : ابن يوسف النجار. وتحدثت عنه باعتباره: ابن الله فهل يتفق هذا والفهم والعقل الذي دعت إليه الأسفار المقدسة، بعد أن عابت على الأنبياء عديمي البصيرة، ولقد رأينا كيف أدى الإصرار على نسب المسيح ليوسف، من منطلق ما سمي بالأبوة الشرعية، وجعل يوسف ينحدر من نسل داود الملك، ثم مخاطبة المسيح في الأناجيل بقولهم: يا سيد يا ابن داود، أن احتوت سلسلة النسب هذه على عدد من الزناة.
أما كان الأولى – وهو الحق الذي لا مرية فيه على الإطلاق – أن ينسب المسيح إلى أمه الطاهرة البتول التي اصطفاها الله على نساء العالمين، فيقال : المسيح ابن مريم . ولقد عرف بين الإسرائيليين من انتسب إلى أمه، وكان من كبار القوم، مثل يوآب بن صروية قائد جيش داود (سفر صموئيل الثاني:8: 16) وكان داود يخشى بنو صروية في أول حكمه إذ قال: " أنا اليوم ضعيف وممسوح ملكا، وهؤلاء الرجال بنو صروية أقوى مني"(صموئيل الثاني3: 39).
ومن المؤكد أن مريم تجيء من نسل هارون فقد كانت قريبة لامرأة زكريا التي كانت " من بنات هارون واسمها اليصابات" (لوقا1 :5) وقد قال الملاك لمريم حين جاء يبشرها قبل الحمل: " هو ذا اليصابات نسيبتك( قريبتك) هي أيضا حبلى بابن في شيخوختها..) (لوقا 1: 36- 37) ولقد كان هذا هو ما قرره ويلز أستاذ التاريخ بجامعة لندن في كتابه " يسوع المسيحيين الأوائل" ويقال في العربية: أخو تميم، أي واحد منهم. أخو الصدق، أي ملازم له ومثله: يا أخا العرب، أي يا ابن العرب. فحق لمريم إذن أن تنسب إلى هارون الذي كان أول من اختص هو وبنيه من بين بني إسرائيل بالكهانة والحفاظ على الشريعة (سفر الخروج 28 : 1). وقد اقتصرت على سبط لاوى وهو واحد منهم. ومن الجدير بالذكر أنه كان في بدء ظهور المسيحية إنجيل ينسب لمتى ويعرف باسم " إنجيل ميلاد مريم" وقد أشار إليه جيوم أحد آباء الكنيسة الكبار، ومن هذا الإنجيل حاول العالم البريطاني فاوستس أن يثبت أن المسيح لم يكن من بيت داود ومن سبط يهوذا، لأنه حسب ذلك الإنجيل لم تكن العذراء من سبط يهوذا، وإنما كانت من سبط لاوى، وأن أباها كان كاهنا.
وعلى ضوء ما سبق، نفهم لماذا قال قوم مريم لها، عندما أتتهم تحمل وليدها :" يا أخت هارون ما كان أبوك مرأ سوء وما كانت أمك بغيا"(13) وإن نسبة المسيح إلى أمه، بأن يقال المسيح ابن مريم، لهو القول الحق الذي لا مراء فيه وهو الوسيلة الوحيدة لتخليص نسب المسيح الطاهر مما علق به من أذى، وحل مشكلة الخلاف بين إنجيلي متى ولوقا(14).

مـعــجـزات المـسـيـح بين الـقـرآن والإنـجـيـل .

ومعجزاته التي ذكرها القرآن الكريم تتلخص في خمسة أمور، جاء ذكر أربعة منها في سورة المائدة في قوله تعالى :" إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك، إذ أيدتك بروح القدس، تكلم الناس في المهد وكهلا، وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل.." إلى قوله تعالى :" فمن يكفر بعد منكم، فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين"(15).
يقول أبو زهرة : ويتبين من هذه الآيات الكريمة أربع معجزات:
الأولى : أنه يصور من الطين كهيئة الطير فينفخ فيها فتكون طيرا بإذن الله.
الثانية : إحياؤه عليه السلام الموتى بإذن الله جلت قدرته، والمحيي في الحقيقة هو الله العلي القدير.
الثالثة: إبراؤه عليه السلام الأكمه والأبرص، وهما مرضان تعذر على العالم قديمه وحديثه العثور على دواء لهما.
الرابعة: إنزال المائدة من السماء بطلب الحواريين ، لتطمئن قلوبهم.
الخامسة: ذكرت في سورة آل عمران، وهي إنباؤه عليه السلام بأمور غائبة عن حسه، قال تعالى حاكيا عنه:" وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم، إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين" (16).
ويقول محمد مجدي مرجان :" تروي السير المسيحية أن عيسى عليه السلام قد صنع كثيرا من المعجزات، أخرج الشياطين، وشفى المجانين، جعل العرج يمشون والخرس يتكلمون، والعمي يبصرون، والبرص يبرأون، بل أحيا الموتى من القبور وخلق من الطين الطيور"(17).
لقد تحدث غالبية العلماء سواء منهم المسلمين أو النصارى عن معجزات المسيح عليه السلام بل وأفاضوا في الحديث عنها لكننا نجدهم قد أغفلوا أو غضوا الطرف عما يمكـن اعتباره أبرز معجزة بعد الولادة إنها معجزة الكلام في المهد. فإذا كان النصارى قد أهملوا الحديث عنها وذلك لسبب واضح ألا وهو التحريف وتزييف الحقائق، وهو السبب نفسه الذي جعلهم يخفون أهم الأحداث قي قصة الحمل والولادة، فلماذا نحن المسلمون لا نستوفيها حقها؟ رغم أن القرآن قد أشار لها غير ما مرة، لماذا لا نستوفيها حقها وكأنها حدث عابر لا يمكن أن نستشف منه أية آية أو حكمة أو عبرة؟ إنها دليل على عظمة الله وجلال قدرته وفيما يلي استعراض لأهم أحداث هذه المعجزة من خلال النص القرآني مع الإشارة إلى مكانها في الإنجيل:
الـكـلام فـي المهـد في القـرآن :
قال تعالى :" فأتت به قومها تحمله"(18) لن تملك امرأة عفيفة أبدا القدرة على حمل وليدها والذهاب به إلى قومها الذين هم على استعداد كامل لكيلها بمكاييل الاتهامات، إلا إذا كانت على يقين أنها قادرة على تحديهم وإسقاط دعواهم. فهي لم تكن فقط تريد مجابهتهم، وإنما تريد أن تبين لهم آية عظمة التي قال عنها تعالى :" وجعلناها وابنها آية للعالمين"(19) وما أن رأوها حاملة وليدها حتى انهالت عليها التهم ، فلم يسألوها عن الوليد، وابن من يكون، هـل هو ابنها أم ابن غيرها؟ وإنما قالوا:" يا مريم لقد جئت شيئا فريا، يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا"(20) إن كل جملة من هذه الجمل تحمل كيلا من الشتائم الموجهة إلى العذراء أولها أنها ارتكبت فرية وجريمة، وثانيها أن هذا ليس من خصال آل هارون وهي قد خالفت خصالهم، وثالثها أن أباها لم يكن أمرئ سوء وهي امرأة سوء، ورابعها أن أمها لم تكن بغيا وهي بغي- حاشا لله- ولا شك أن هذه الاتهامات المركزة والتي عرضها علينا القرآن الكريم بشكل موجز، تسلب الصديقة كل فرصة للدفاع عن نفسها، وتسلبها كل ركن يمكن أن تلجأ إليه. فلا هي قادرة على تذكيرهم بأسرتها، وطهارة وعفة منبتها، ولا بأصلها العالي الممتد إلى الأنبياء، ولقد كانت تعلم مسبقا هذا الموقف الذي تقفه الآن أمام قومها...ولعل الحسم يكون من خلال القصة نفسها، إذ من الذي يدافع عن صدق الصديقة؟ الخطيب المزعوم؟ إنه محل الشبهة والاتهام- أم انه يسترها ولا يشهر بها، كما ادعت بعض النصوص الإنجيلية، وفي هذه الحالة ستقبر الآية العظيمة من أساسها.
مريم الصديقة لا تستطيع الدفاع عن نفسها، لأنه لن يصدق أحد امرأة عذراء ولدت من غير زوج. الوليد الذي ولد ولادة معجزة، فإذا تكلم في المهد مؤيدا بالروح القدس، فسيصدقونه لأنه هو محل الاتهام ثم هو محل البراءة، فإذا كان من عند الله فسيثبت ذلك بما لا يقبل الشك .." فأشارت إليه قالوا: كيف نكلم من كان في المهد صبيا"(21) فهم لا يتوقعون – و لا أحد من العالمين – أن صبيا في المهد يمكنه إجابتهم والحديث معهم والرد على اتهاماتهم "قال : إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا وجعلني مباركا أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا "(22) -فبهت الذي كفر– يدل كلامه على براءة أمه، فهو يحمل رسالة منذ ولادته وهو مباركا أتاه الله الكتاب وهو عبد الله وليس ابنه أو شريكه أو ثالث الثلاثة. لم تتحدث الأناجيل عن كل هذا رغم أهميته وضرورته لتبرئة مريم العذراء من كل ما يمكن أن ينسب إليها.
الـكـلام فـي الـمهـد فـي الإنـجـيـل :
قال تعالى :" فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا وهزي إليك بجدع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا"(23) إنه تصديق ما ورد في البشارة " ويكلم الناس في المهد" وكلامه في المهد ليس كلاما عاديا وإنما هو كلام النبوة والوحي.
لن نجد كبير عناء في استخراج هذا المعنى من النص الإنجيلي رغم ما لحق به من تحريفات وتغيير. ففي إنجيل لوقا وفي بشارة الملائكة لزكرياء بيحيى ورد ما يلي:" ويكون له فرح وابتهاج وكثيرون سيفرحون بولادته، لأنه يكون عظيما أمام الرب، وخمرا ومسكرا لا يشرب، ومن بطن أمه يمتلئ من الروح القدس ويرد كثيرين من بني إسرائيل إلى الرب إلههم" (لوقا 1 : 14- 16).
ومن بطن أمه يمتلئ من الروح القدس – فالامتلاء من الروح القدس نجده في الأناجيل وأسفار العهد القديم، وهو يعني يوحي عليه ، أي يتكلم بما يوحي الروح القدس إليه، فإذا امتلأ نبي أو شخص ما من الروح القدس فإنه يتكلم بكلام الله. وهذا المعنى هو الذي نجده في القرآن الكريم، إذ كلام الله إلى المرسلين والبشر عموما، لا يكون إلا عن طريق الوحي بأنواعه المعلومة ومنها إرسال الروح القدس "وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحـيا أو مـن وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم"(24) والذي يمتلئ من الروح القدس من بطن أمه، سيتكلم بالوحي من بطن أمه، وهذا الأمر لم يحدث لنبي الله يحيى، ولا حاجة له به، فهل كان هذا النص من غير معنى في البشارة بيحيى؟ أم أن هذه البشارة تخص شخصا آخر وبدل أن ينسبوها إليه نسبوها إلى يحيى؟ إنه عيسى ابن مريم هو الذي كـان فـي زمانه، وهو الذي بشر بولادته معه، وهو الأحوج إلى الدفاع عن طهارة أمه وعفتها، وهو المؤيد بروح القدس الذي صنعت على يده العظائم والمعجزات كما تنص على ذلك الأناجيل، بينما لم يفعل – حسب الأناجيل – يحيى شيء من ذلك ، وإنما كان يهيء لعيسى الطريق ليقوم بدوره المنوط به.
لقد ورد في هذه البشارة :" ويرد كثيرين من بني إسرائيل إلى الرب إلههم " وحسب النص الإنجيلي دائما، فالذي رد الكثيرين إلى الرب إلههم ، ليس هو يحيى وإنما هو عيسى بن مريم ومن تم فهذا الجزء الوارد في البشارة، لا يختص بيحيى وإنما بعيسى بن مريـم(25).

لائحة المصادر والمراجع:

1) العقائد النصرانية وعلم التفسير الإسلامي( دراسة مقارنة) ـ مصطفى بوهندي ـ أطروحة الدولة في الدراسات الإسلامية ( تخصص العقيدة ومقارنة الأديان) السنة الدراسية 1999م ـ 2000م. ص 151- 152-153.
2) سورة آل عمران الآيات 33-34.
3) سورة مريم الآية 15.
4) سورة مريم الآية 16.
5) سورة مريم الآية 17.
6) سورة مريم الآيات 18-20.
7) سورة أل عمران 45-47.
8) سورة مريم الآية 21.
9) سورة مريم الآية 22.
10) العقائد النصرانية وعلم التفسير الإسلامي – مصطفى بوهندي – ص 158- إلى 161.
11) الإسلام والأديان الأخرى ـ أحمد عبد الوهاب ـ مكتبة التراث الإسلامي – ص 122.
12) الإسلام والأديان الأخرى – ص 120-121.
13) سورة مريم الآية 27.
14) المرجع السابق ( ص 123 – 124- 125).
15) سورة المائدة الآيات 112-117.
16) محاضرات في النصرانية ـ الإمام محمد أبو زهرة ـ الدار الفكر العربي ـ الطبعة الثالثة 1961م. ص 19- 20 وآل عمران الآية 48.
17) المسيح إنسان أم إله ـ مجدي مرجان ـ هذبه وحققه وعلق عليه عبد الرحمن دمشقية 1406ه. ص 71- 72.
18) سورة مريم الآية 26.
19) سورة الأنبياء الآية 90.
20) سورة مريم الآيات 26- 27.
21) سورة مريم الآية 28.
22) سورة مريم الآيات 29- 32.
23) سورة مريم الآيات 23-24.
24) سورة الشورى 48.
25) المسيح إنسان أم إله، ص 163 إلى 165.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بين الحنين والغضب...اليهود الإيرانيون في إسرائيل يشعرون بالت


.. #shorts - Baqarah-53




.. عرب ويهود ينددون بتصدير الأسلحة لإسرائيل في مظاهرات بلندن


.. إيهود باراك: إرسال نتنياهو فريق تفاوض لمجرد الاستماع سيفشل ص




.. التهديد بالنووي.. إيران تلوح بمراجعة فتوى خامنئي وإسرائيل تح