الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سوسيولوجيا الخبرة: الباحث الجامعي والخبير (الجزء2)

نورالدين لشكر
باحث

(Noureddine Lachgar)

2022 / 9 / 2
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


2. العلوم الاجتماعية والخبرة: جذور التجاذب
1.2- منطق السوق وتسليع المعرفة
تطرح مسألة التجاذبات بين الخبير والباحث سؤالا أساسيا يتعلق بالخلفيات الإيديولوجية التي ساهمت في هذا النوع من التقاطب، فالعودة للسياق التاريخي لابد منه لفهم أن هذا التجاذب يتعلق بإيديولوجية معينة، حيث بدأ في السبعينات والثمانينات المد النيوليبرالي، وكان الهدف منه، أن يغزو منطق السوق كل المجالات، وليس فقط أسواق السلع المادية بل أيضا المعرفة والعلم، وتم اعتبار الأساتذة الجامعيين منعزلون عن الواقع ومكتفون بمكاتبهم المكيفة، ومغرقون في النظريات، وهنا تشكلت (عقدة نقص) فرضت معها إيديولوجيا معينة على الأوساط الجامعية، حيث أصبح الباحث على المستوى النظري كأنه لا يساوي شيئا، إذ ليس له أي قيمة في السوق. لأن القيمة في المفاهيم النيوليبرالية يعطيها السوق، وهو من يحددها وليس العلم. فتشكلت رغبة عند عدد من الأساتذة الجامعيين للتعامل مع الشركات، وتقديم دراسات للمؤسسات، عوض البحث الجامعي لتكون لهم "تجربة"، وبالطبع هناك الجانب المادي الذي لا ينبغي أن ينسى وخاصة في الدول المتخلفة، لتعميق التحليل في هذا المسار لابد من العودة إلى الإسهامات الكبيرة التي قدمها الفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني يورغن هابرماس حول علاقة المعرفة بالمصلحة .لقد أصبح جل الاساتذة الباحثين يتوجهون للسوق لكي يقدموا إجابات عن الأسئلة التي تطرحها المؤسسات، وهنا لابد من العودة لذلك التحديد المفاهيمي، فلم يعد الباحث هو من يمتلك أسئلته ومنهجيته ومفاهيمه، بل حتى الموضوع لم يعد يمتلكه، فأصبح فقط يجيب على "الطلب" للمؤسسات وليس للبحث العلمي. بالمقابل لقد بدأ يهيمن على الدراسات جماعة من الخبراء أغلبهم ليسوا جامعيين، وكرسوا عددا من القيم والمبادئ والمظاهر وجعلت الباحث الجامعي المستقل يبدو على الهامش، في حين تعطى الأسبقية للخبراء رغم بعدهم الكلي أو الغالب عن روح البحث العلمي، فأغلبهم مهندسون، تخرجوا من جامعات عالمية باريسية ثم اشتغلوا في مراكز كمركز "مكنزيMcKinsey" أو غيره، وهي شركات عالمية للخبرة، وصنعوا لأنفسهم مسارا كبيرا كخبراء، هذا الصنف لم يعرف في حياته ما هي الجامعة ولا ما هو البحث العلمي. وأما المفارقة التي يعكسها الواقع الأوروبي هي أن المجتمعات هناك تستفيد من الاستعمالات اليومية للخبرة ويساهم ذلك في تمكينهم من معرفة بهذه الأخيرة ولو كانت معرفة عادية، "هاته التغيرات ستؤدي إلى الإختفاء التدريجي للحدود بين المعرفة العادية والمعرفة الخبيرة" . وهذا يعني أن دراسات الخبرة ساهمت في الرفع من منسوب المعرفة لدى المجتمعات وقلصت فجوة التباعد بينها وبين المعرفة العلمية الخبيرة.
2.2- انخراط ميداني يكسب معرفة مرغوب فيها
إن الباحث السوسيولوجي مهمته علمية ولا ينبغي أن ينفصل عن الجامعة، لكن بقاءه في برجه العاجي مرة أخرى هو بدون فائدة، فالمعرفة في العلوم الاجتماعية بدون ميدان ضعيفة، لكن الميدان تبقى أبوابه موصدة أمام الباحث المستقل، ذلك أن الجهات الراعية تمكن الباحث الخبير من الولوج للمعلومة وللمعطيات الميدانية والموثقة على السواء، لكن لابد من أن يراعي الخبير المسافة الجيدة بينه وبين السياسي، "فمهما كانت الخلافات داخل البحث الأكاديمي، فالجميع يتفق على أن الموضوعية أمر مطلوب، ولا يمكن طبعا إزالة المصالح، ولكن لابد من الوعي بها، فالموضوعية تمر عبر الوعي" ، لكن الخبرة حين تمتح من المعرفة فإن هذه الأخيرة "مقرونة بالإلتزام (...)، فالإلتزام لا يقبل الخلط بين ما هو سياسي وما هو علمي" ، إن هذه المسافة هي التي تجعله يقترب أكثر من "الحياد العلمي". فكيف يمكن إذن التوفيق بين الخبرة وما تتطلب من انغماس في الميدان يغري بولوج مرن للمعطيات، وما يفرضه هذا الأخير من دعم مالي من طرف هيئات حكومية ومستقلة تمتلك السلطة من جهة، وبين الحياد العلمي والموضوعية والإستقلالية من جهة أخرى؟
3.2- بين التوظيف السياسي ونشر المعرفة
إن الجدار الذي يريد السوسيولوجي أن يبقى خارجه سيحرص السياسي وصانع القرار دوما على هدمه، فتلاعبات السياسة وأجهزتها من الصعب الإحتماء منها، فالأمر ليس هينا حسب بعض الباحثين الذي يعتبر "أن البقاء في البرج العاجي مرة أخرى هو بدون فائدة، فالشروط المهنية والأخلاقية لها قيمتها وكذا الحفاظ على الاستقلالية، لكن اكتساب معرفة عملية من خلال مجموعة من الأخطاء الميدانية تصلح لأن تدرس للطلبة أمر مرغوب فيه" . إن الدافع وراء هذا النقاش هو عدم خلط الأوراق بين السوسيولوجي والسياسي في صورة خبير، ورغم أن الدافع وراء ذلك الخلط قد يكون مغريا، خاصة في حالة المشاركة في الأبحاث الدولية التي تمولها مؤسسات أو منظمات دولية كالمفوضية الأوربية والبنك الدولي ومنظمة العمل الدولية، إلخ. إن العلاقة بين الخبير وصانع القرار ليست ثابتة، "بل تتميز بوضعية الطوارئ التي هي عليها، فالحدود بينهما متحركة، بسبب وضع المجال الذي هم فيه والسياقات الكثيرة" .
لا ينبغي أن ننسى هنا، أن مساهمة الخبرة في تطوير عمل المؤسسات وعلى رأسها الدولة وأجهزتها، وكذا الشكل الديمقراطي التقليدي، القائم على الصوت الإنتخابي الذي يجعل من المواطن مجرد رقم في المعادلة السياسية، لا يتحقق إلا من خلال هاته المستويات على الأقل، والتي تشرك الجميع في النقاش العمومي حول طبيعة وعلمية القرارات المتخذة، وهو ما يدفع باتجاه مجتمعات الخبرة .
إن الذي يعمق من إشكاليات الخبير المنتمي لحقل العلوم الاجتماعية، هو أن عددا من الخبراء الإجتماعيين والإقتصاديين يشتغلون جنبا إلى جنب مع السياسي، هذا الخبير الذي يستمد شرعيته من تخصصه العلمي (علم الإجتماع أو الاقتصاد)، سرعان ما سيصبح في مأزق وضعه المتأرجح بين العالم والسياسي، دون الحديث عن سعي العديد من مراكز الخبرة إلى ربط العلوم الاجتماعية بصناع القرار من السياسيين والاقتصاديين ، بل هناك محاولات حثيثة تريد المزج بين علم الاجتماع وعلم الاقتصاد من خلال مفهوم الخبرة. فالخبير لا يملك سلطة القرار النهائي، بل يقدم خبرته بمقابل، وقد عبر عن ذلك بعضهم بالقول "أن هناك محاولات دائمة من الفاعلين السياسيين لاستخدام الباحثين كخبراء فقط أثناء اجتماعاتهم واستئجارهم ومكافأتهم والتشاور معهم" ، فإذا كان ما يحرك الفاعلين السياسيين هو اختياراتهم وطموحاتهم السياسية الخاصة وطبيعة السلطة السياسية التي ينتمون إليها، فإن ارتباط عالم الإجتماع بهؤلاء الفاعلين قد يجعل منه مجرد واجهة لمعاركهم، وهنا يصبح التساؤل العميق هو "هل وظيفة عالم الاجتماع هي المشاركة في المعارك السياسية؟ أم المساهمة في نشر المعرفة؟"
لقد حاول ماكس فيبر أن يضع حدودا صارمة بين وظائف كل من الخبير والسياسي، بين القيادة السياسية وبين المعرفة المختصة ، طبعا هناك مسافة مفترضة بين العالم والسياسي، ومن لا يضع هذه المسافة ولا يجنب نفسه اللعب فيها فإنه لا محالة يخطئ مهنيا أو أخلاقيا "ربما لسذاجته أو لعدم وعيه" ، وإلا فإنه مشارك في اللعبة وفاعل فيها، الشيء الذي جعل البعض يحذر من هذه الوضعية قائلا: "تأكد أنك إن لم تكن حذرا فإنه سيتم توظيفك على حساب المعرفة العلمية" ، فهذه الأخيرة بشكل عام، والمعرفة السوسيولوجية تحديدا قد تصبح أداة سياسية يوظفها الفاعل السياسي كيف يشاء. ففي العديد من المناسبات يتم التوجه إلى السوسيولوجيين من طرف الفاعلين السياسيين أو الإعلاميين لأخذ رأيهم في قضية ما، بدعوى أنهم حكم أو مساعدين على الفهم، مما يجعلهم عرضة للإستغلال السياسي وتغليف الإختيارات السياسية بغطاء يدعي العلمية.
4.2- العلوم الإجتماعية والخبرة: دور المؤسسات في التجاذب
تأخذ الخبرة وضعا متوترا ضمن حقل العلوم الإجتماعية، وتحديدا ضمن السوسيولوجيا لطابعها النقدي. ذلك أن العلوم الإجتماعية ذاتها عاشت توترات وتعثرات قبل أن تجد مكانها عربيا في الجامعة، إذ تأرجحت السياسات نحوها من المنع والمحاصرة، إلى الترخيص مع الضبط والمراقبة ، إلا أن تأسيس منظمات وهيئات دولية، سيجلب معه رياحا سياسية واقتصادية وثقافية، وهي من مظاهر العولمة التي ستؤثر بشكل كبير وعميق في سياسات الدول وأنماط عيش المجتمعات. في هذا الإطار يرى د المختار الهراس أن الفضل في رفع الحصار عن علم الإجتماع يرجع "لسيرورة الدمقرطة التي شهدتها الحياة السياسية، وإلى حد ما أيضا، للمؤسسات الدولية ولمكاتب الدراسات الوطنية والأجنبية، وللجامعات الأجنبية، إلخ" . من هنا تبدو الخبرات المنجزة من طرف المؤسسات الدولية عبر باحثين اجتماعيين لها الأثر الكبير في عودة النشاط السوسيولوجي إلى المدرجات الجامعية. ويسترسل د المختار الهراس في إطار دفاعه عن تكامل الخبرة والبحث الأكاديمي للإجابة عن سؤال: هل الخبرة ضد البحث الأكاديمي؟
إن هناك نظرة سائدة لهذا الموضوع تعتبر أن الخبرة والبحث الأكاديمي يقفان على طرفي نقيض يتحقق أحدهما على حساب الآخر، بل تعتبر هذه النظرة "أن تواضع إنجازات البحث العلمي الجامعي يرجع إلى طغيان الإستشارات والدراسات التطبيقية" . فبعد عرضه لوجهات نظر كل من الطرفين حول الموضوع (المنتقدين للخبرة والمدافعين عنها)، يقدم المختار الهراس وجهة نظره التي توائم بينهما وتبرز أهمية كل جانب في الموضوع. فالعلوم الإجتماعية تتمظهر من خلال صورتين تبدوان متناقضتين، مما قد ينتج عنهما تفضيل واحدة على الأخرى. فالصورة الأولى هي للبحث الجامعي الأكاديمي الذي راكم الدراسات والأبحاث الشيء الذي جعله ينمو بشكل مهم وإيجابي . وأما الصورة الثانية فهي للإستشارات والدراسات التطبيقية التي تقدم في شكل "خبرات" وتكون بطلب من الهيئات والمؤسسات المحلية والدولية. هذه القطبية بين البحث الأكاديمي و"الخبرة" هي ما سيؤسس لنقاش محتدم بين المشتغلين ضمن حقل هذه العلوم.
وبالرغم من الوضع المتوتر الذي يوجد فيه الخبير، وقوة التجاذبات التي تقع عليه من ثلاث جهات على الأقل: (الجهة الراعية-الميدان-الجامعة)، فإن هذا التجاذب يساهم في حوار دائم يفضي إلى نتائج تعود بالنفع على المعرفة العلمية تحديدا. وبالتالي فإن الحوار الدائم بين الخبير وأبحاثه الميدانية وبين الجامعة والأكاديميين يؤدي إلى نتيجتين على الأقل:
1- تعزيز استقلالية الخبير وتخفيف البعد التقنوي للخبرة: ويتم ذلك من خلال مناقشة خبرته حتى لا يصبح وضعه ضعيفا أمام المؤسسات الراعية للخبرة، وكذلك من خلال نقد تقاريره والنتائج التي توصل إليها، والتي من المحتمل أن الجهات الراعية تضغط بوسائلها الخاصة للوصول إليها، ناهيك عن نقد معايير الخبرة المعتمدة وتخفيفها من البعد التقنوي.
2- تغذية المعرفة الأكاديمية مقابل ضعف الدعم للبحث الجامعي: وتكمن في التجاذب بين الجامعة والمؤسسات حول الدراسات والأبحاث الميدانية، في كون الخبرة تساهم في تغذية المعرفة الأكاديمية التي هي في حاجة ماسة لأبحاث ميدانية جادة تشرف عليها مؤسسات كبرى قادرة على تمويل مثل هذه الأبحاث، مقارنة مع ما تقدمه الجامعة من دعم متواضع للبحث العلمي. (يتبع)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اليمن.. حملة لإنقاذ سمعة -المانجو-! • فرانس 24 / FRANCE 24


.. ردا على الاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين: مجلس النواب الأمريكي




.. -العملاق الجديد-.. الصين تقتحم السوق العالمية للسيارات الكهر


.. عائلات الرهائن تمارس مزيدا من الضغط على نتنياهو وحكومته لإبر




.. أقمار صناعية تكشف.. الحوثيون يحفرون منشآت عسكرية جديدة وكبير