الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المنقذ التاريخي شكية الصورة والإمكان

عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني

(Abbas Ali Al Ali)

2022 / 9 / 8
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


صورة المنقذ الذي يأتي في أخر الزمن فكرة قديمة قدم الإنسانية فهي لا بدعة دينية ولا نظرة فلسفية أبدا إنها أحدى نتائج حلم آدم الأرضي عندما فشل في التكيف مع الواقع الجديد وعدم قدرته على العودة لسالف المكان والزمان ، فصار يحلم بالعودة بواسطة المنقذ الذي يأت عندما لا يجد طريقا مهيأ ومعبدا للعودة للجنة وأنه يستند بذلك لقاعدة إيمانية أن البقاء كما في العهد إلى أجل وبالتالي فهو محكوم والرب بهذا العقد الأساسي ، عقد الزمن الذي لا بد أن يكون في وقت ما ، وحيث أن التاريخ الحقيقي له بدأ من أول حركة أبتدأ بها على الكرة الأرضية، فمن المحتم يكون أخر الزمن وليس أخر لحظة منه هي الفترة التي تسبق وترافق العودة للجنة، حينما يختفي الزمن الأرضي ويبدأ تاريخ جديد لذا أمن الجميع أن موعد الإنقاذ هو أخر الزمان .
إذا فكرة المخلص المنتظر واحدة من الأفكار الإنسانية التي ما أنفك الكثيرون في رجاء أنتظارها كحل لإشكاليات الوجود، ويعدون الأمر هو نتيجة منطقية لأنتشار ظاهرة عدم التوازن بين واقع الإنسان الراهن وبين ضروريات العدل، وإعادة تموضعه في منظومة ترتكز على المساواة والتساوي المطلق المنشود، هذه الظاهرة في التفكير البشري وخاصة فيما يتعلق منها بوعي الإنسان الذي تصنعه فكرة الدين، وتتناغم مع حلمه بعالم يسوده الأمان والأستقرار وتخفيف حدة التفاوت بين أفراده، جذرت في العقول فكرة الأنتظار لهذه اللحظة التأريخية، والصبر على تحمل نتائج خطأ الأخر وخطيئته في محاولة منه لأستيعاب وأحتواء العجز الذاتي عن مقاومة كل أشكال الانحراف والتزييف والقهر.
وهذا ما جعل من الفكرة كشكل عام واحدة من عناصر التخريب والتسويف وفقدان الإنسان القدرة على التحدي والعجز عن خلق حالة نهوض مستمر له في عالم لا يؤمن أصلا بالمجهول المنتظر، بقدر ما يؤمن بالحقائق الواقعية والمنطق العملي للبقاء، فكرة المهدوية بحقيقتها الجوهرية ليست أنتظارا للمجهول القادم أذن على أفتراض صحة الإيمان بها، بل خلق حالة وعي يومي وتفصيلي وممارسة لا تنقطع من أننا يجب أن نكون عنصرا خالقا لها وموجدا لمعطياتها ومقدمتها العملية، وأول الطريق أن يجعل كل منا من نفسه مهدي لنفسه ومخلص لها من أثام الظلم الذاتي أبتدأ، فسر المهدوية هو سر خلاص الإنسان من حالة الظلم لنفسه ومنها للغير، حتى يستطيع أن ينشر العدل والإحسان ويحيي قيمة الإنسان المصلح في واقعه قبل أن ينتظر من يصلح له حاله.
البعض من النظريات أثبتت فشلها بالتوقيت وربطها بأحداث ما معتمدا على قراءة أما نصية خاصة أو لتنظيرات تستمد روحها من نص وبالتالي فمسألة الربط هذه أضعفت كثيرا من كونية الحدث كما أضعفت الإيمان بالفكرة أساسا ، فلجأت للتورية والتمويه والتأويل كما حدث فبي تاريخ قريب لنا التاريخ الإسلامي والمسيحي التوراتي، لكن تبقى الحياة مستمرة تعتمد على الفعل وردة الفعل وتنساق لناموس طبيعي وسنة تأريخية تتحكم بمجريات الفعل الإنساني، دون تعليق الأمر على ظاهرة المنقذ وخاصة إذا تجردنا من حشر العقيدة في كل تفصيل مادي أو علمي .
لله يطلب من الإنسان العمل والكدح والتعالي عن حيوانيته الطبيعية من خلال الإيمان برسالته الأولى وهي إعمار الأرض وإخراج زينتها، ولو فعل كما أمره الله لم يعد للحلم هذا مكان في تفكيره، لأن الله سيفتح بركات كل شيء كما في العهد الأول، فوق هذا أن الله كذلك ومن جانب الألتزام الثاني كتب على نفسه الرحمة في أن يخلقهم لأجلها، والرحمة ليست شرطا أن تكون العودة للجنة ولكن تهيئة أسبابها للعودة الفردية بموجب قاعدة العمل والإخلاص والخيرية في التعاطي الوجودي، أما فكرة الأنتقال الجماعي كما يصورها الإنسان الديني بظهور المنقذ مع التشدد بالأسباب والعلات تبقى صورة شكية لا يمكن للعقل السليم قبولها خاصة أنها مشروطة بظهور الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس .
قد يعلل المتدين أن باب العفو مفتوح والمغفرة من صفات الله الأزلية ومن أفعاله المعتادة ولكن هذا لا يناقض أن فكرة الرحيل الفردي ستكون الفيصل في العودة للجنة والنار، خاصة بعدما ترفع الأقلام وتجف الصحف عندها لا عذر لمعتذر، ويبقى فيصل الحساب الشديد هو معيار الأنتقال فتنتهي أسطورة الرحيل الجماعي للجنة .
إذا الفكرة مع الإيمان بالنصوص الدينية أو إبعادها عن رسم الصورة لا تتعدى حلم قديم توافقت عليه البشرية بعدما وجدت في جذور الفطرة روحية الإيمان الأولى المعلقة بالسماء من حيث لا تعلم، وتوقها المضطرد للحاق بالرب فوق على أمل تحقيق الصورة المثالية المطلقة للحياة السرمدية الأبدية، التي تعط الإنسان حدود تمتع لا يمكن أن يجد مثيلا لها في الأرض، أو يتصور أن ذلك من الممكنات ،وبدأ يبني على هذا الحلم فكرة وإشارة كل أمالها من خلال توثيق الحلم وإدراجه في النص الذي وافق الظاهر الإنساني في البناء دون أن يوافقها في القصد، الفكرة القرآنية الخاصة بالمنقذ لا تتناول شخصية محددة بل تتناول حالة تتوقف عندها تغيرات في الملامح السلوكية للمجتمع عندما يرث الأرض العباد الصالحون، وهي نتيجة متوقعة من الصراع بين الخير والشر، وبالتالي الفكرة لا تتكلم عن منقذ بل تتكلم عن حالة تاريخية بانتصار منهج الله وطريقته في الحياة عندما يكون للعنصر الإيجابي الوجود القائد المتفرد بالحق وسلطانه، عندها سيصبح عالم الفضيلة والمثالية ممكن فتنزل إرادة الله في فتح بركات كل شيء ويصبح الوجود الحالي من سنخ الوجود الأخروي، ويكون الأنتقال أيضا فرديا بالمرحلة الأولى وجماعيا عندما تتحقق كلمة الرب الأولى وتنتهي مفاعيل علة الخلق الأبدية .
إن من أسباب شيوع الظاهرة وتفاقهما في الفكر الديني لها علل تاريخية وعقائدية من خلال ربط الظاهرة بالمظاهر التي يمكن أن تكون عوارض واقعية تنشأ في ظل نظام كوني لا يمكنه نكرانها، ولا يمكن القبول بها على أنها معجز تاريخي مثل الزلازل والنار التي تخرج من المشرق والصيحة في السماء وغيرها من الأحدث التي جعلت مواقيت ومواعيد للظهور، الهدف من إشاعة الفكرة أساسا هو جعل الإنسان مترقب حائر يخضع في تقدير وتدبير الحوادث لعقلية تسعى للسيطرة والتوجيه من خلال فرز المجتمع إلى مؤمن بالفكرة، وبالتالي منحه صفة الإيمان بالله وفكرة أخرى لا يتم وصفها كذلك، وهنا يسهل على الفئة المتسلطة أن تعبئ أنصارها بسلسلة من التحليلات والتخريجات التي تقود إلى السلبية من حركة الزمن وعادة الواقع والتشبث بالرأي التأويلي دون الوعي بأصلية النص وقدرته على أن يعبر الفكرة الموهومة .
نجد أن الفكرة تنمو في البيئة التي تصاب بالإحباط وبعدم القدرة على الوعي بالوعي ومن ثم الوعي بالوجود، وهنا يصبح نشر الفكرة تبرير للعجز وتخاذل عن نصرة النفس التي هي أساس طبيعي وتمهيدي لطلب النصرة من الله حسب النص الديني الإسلامي، بالطريقة هذا على المؤمن الإسلامي أن يربط الانتظار بواقعه مما يحده من العمل الحر والخروج عن قدسية البناء النصي، لأنه لا يعلم بالتحديد أولا في أي لحظة الخروج، وقد يكون في زمنها وبالتالي سيواجه بفضيحة سطرها مخترع ومروج الفكرة، أو أن المنقذ والذي هو حسب الزعم حاضر غائب سيتدخل بشكل فردي للانتقام ممن حاول الخروج على الرأي التأويلي ويناصر داع الانتظار، وبكلا الحالين يتحول الدين من ممارسة عقلية تحرر العقل من سطوة الواقع المادي الجسدي إلى إدخاله في سجن أكثر ضيقا وأقل حرية ليوافي أصل الفكرة التي من المحبذ بل المأمور بها شرعا أن تكون من أركان الدين الأساسية .
هذا الرأي لا يعني أبدا أن ننفي فكرة المنقذ وضرورتها الواقعية على الإنسان، ولكن نفترق في القراءة على مخارج الفكرة وتصورها عقليا عن المتاح من تفسير وتأويل، نعم يحتاج الإنسان للحظة محاسبة مفصلية ويحتاج أيضا لرقيب يترقب سلوكه وكأنه حاضر غائب طالما أنه مأمور بالحساب في الدنيا قبل الأخرة (حاسب نفسك قبل أن تحاسب)، لكن هذا لا يعني تعطيل مدركات الإنسان بالزمن والتوقف في كل صغيرة وكبيرة لمقارنتها بالإرث النصي، ومحاولة إقحام التفسيرات العقيدية الضيقة بدل الوسيلة العلمية والعملية التي يجري التأكيد عليها في نصوص أكثر من واقع فكرة المنذر( النصوص الدينية التي تحرر الإنسان من الانتظار تبدا من ( وقل أعملوا ...) و(كل نفس بما كسبت رهين ) وأنتهاء بـ (لا يؤاخذكم الله باللغو في إيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت أيمانكم ).
المبدأ في القرآن الكريم العمل الإيجابي سواء كان على المستوى الفردي أو على الإطار الجماعي، وبالتالي من يتحسس هذا التناقض أو ينفيه عليه أن يعود للمقارنة القصدية في المباني التي تحتوي المشابهة أو التناقض المزعوم، إن الكتاب المحكم آياته لا يمكن أن يكون بمحل لوجود التناقض والتضارب ويحمل الفكرة ونقيضها وحتى على المستوى الحسابي المنطقي، ترديد الشيء بأكبر عدد مكن في نصوص كثيرة وبمناسبات عديدة يعطيه زخما أقوى للمنافسة في الحضور، ويمنحه جدارة التقدم على نص أو نصين غير حاسمين بالدلالة الظاهرة والخفية .
في الوقت الذي يشدد الإسلام على العمل والتدبر والتفكر والتعقل لا يمكنه أيضا التحايل على هذه الفكرة بنص أخر يمنع العمل الإيجابي، ويحرر الإنسان من الأسر الروحي لتأويلات بشرية من نصوص تحمل ظاهرا تأويلات عدة وأتجاهات متنوعة، إذ لا يمكن الحكم بأحقية أي قصد إلا من خلاله إحاطة النص بموضعيته الذاتية المقترن بمعيار الميزان الذي نزل من القرآن، وهو الوحيد الذي يمكن به فك الإشكالية والتفريق بين شكية النص وشكية الإمكان.
الفكر الديني في عمومه يركز على الأستسلام التام لهذه الفكرة وعلى لزوم البقاء في حالة ترقب لها، وهذا الفكر برغم أن فيه الكثير من التفصيلات والتحديدات التي تنافي فكرة المهدي المخلص، إلا أن ما يظهر منه على سبيل الشيوع في غالب الديانات هو أمتداد لحالة مأزومة أصلا، ملخصها أن الإنسان عاجز أن يكون بمفرده منقذا، وأن القوة الفوقية هي من تتحمل رفع حالة اللا توازن وحالة الظلم، هذه القضية أو الفكرة التي تحمل السماء المسئولية لا تخلو من ظلم هي الأخرى، ظلم الإنسان وظلم السماء وبالتالي تبرئة قوى الشر وأولها فعل الإنسان ذاته من المسئولية عما أسس وعما كسب وعما يجب أن لا يكون أصلا.
فالله أو السماء أو القوى الفوقية بعد أن منحت الإنسان كل ما يمكن أن يكون قادرا على المواجهة وزودته بتقنيات الوعي والإدراك، لن تتدخل في كل مرة يفسد فيها الإنسان وجوده، ولا تشارك أصلا في تغيير ما أختاره بوعيه أو جهله، إلا في حدود ما لا يعلم بالقوة وأنه واجب أو عليه أن يعرف أن ما لا يعلمه يحتاج إلى تذكرة أو أشارة ليمارس عملية التعلم وصولا للعلم به حتى تبلغه الحجة، قضية الإنسان مع واقعه قضية شخصية ونتيجة حتمية للتجربة وخلاصتها، فكلنا يعرف أن الظلم إنحراف وأن الشر من صنع وجودنا، ومع ذلك نمارس الظلم كما نمارس الإنحراف والانجرار نحو الخطيئة دون أن نستفيد أصلا من تجربتنا معهما.
هذا ليس مبررا كافيا لأن نلزم السماء أن تبعث مخلص أو منقذ وعلينا أن ننتظره ليكون حلا لعجز ذاتي، فمن لا يستطيع تجاوز حالة الظلم وهو يعلم ويعرف ما يعني الظلم، لا يمكنه أن يؤمن بفكرة المهدي ولا يمكن أن يتعامل معها أصلا، لأن الظالم أو من يقبل الظلم أو يروج له أو لا يقاومه كوظيفة طبيعية أعجز من أن يدرك معنى العدل، وأعجز من أن ينتظر عادلا مجهولا يمنحه ما هو أصلا من واجباته الأساسية في الوجود، الحل دوما هو في قرار الإنسان، والحل دوما في إرادة واعية تعرف أن تفرق بين الأحلام والواقع على أنهما نقيضان حتى يتحول الحلم إلى فعل على الأرض وفي خضم حركة الواقع.
قد يتهمنا البعض أننا نربك في بعض أساسيات الفكر الديني المتأصل في وعي الإنسان ونحاول الأعتداء على الإيمان بالدين، هذا الإرباك في الحقيقة ليس من جانبنا ولا نتبرأ منه، ولكن ما نمارسه من نقد فكري إنما نمس به التابو التقليدي الذي يتمسك به الكثيرون دون فهم لحقيقته، ولا تلمس لجوهر الفكرة بذاتها بعيدا عن كونها جزء من الإيمان بالدين أو هي نتاج أفكار بشرية عن نتائج قراءة ما، المهدوية ليست حلا ولا يمكن أن تكون حلا إلا إذا أمنا وأقول مخاطبا المؤمنين بكل دياناتهم، أن مشاريع السماء كانت كلها فاشلة ولم تنتج حلا حقيقيا للإنسان، وإلا ما معنى أن تكون لنا أديان ورسل وكتب وعبادات نؤمن بها ولن تستطيع أن ترسي للحلم الإنساني بالعدل من واقع، فهل هذا أن القادم المجهول سوف يمتلك قدرات أعظم وأكبر مما سبقه من أنبياء أو رسل؟ ولماذا تأخرت السماء بالحل أصلا وهي ترى أن الإنسان عبث وأفسد وظلم ولا بد من مصلح فوقي له؟.
إن مراجعة ونقد الفكري الديني الموروث يضعنا دائما أمام حقائق مغيبة صنعها الإنسان كحلول وقتية أو لتصورات تتعلق بالفشل عن التفسير والتأويل لحقائق الدين وأفكاره، فليس كل ما نؤمن به تأريخيا هو محل تقديس وألتزام به بعلاته، ولا يمكن جعل أساس تفكرينا ثبوت المخيلة الدينية التقليدية على أنها كل وكامل الحقيقة، فما كان من تسليمات أو ثوابت هي وبكل أوجه التعامل معها هو محض أفكار إنعكاسية عن مراحل زمنية للعقل الإنساني في سيرورته نحو الكشف والتقرير، وهي جزء من التجربة الوجودية للإنسان في إدراكه للوجود وما بعد الوجود المحسوس، والتي تخلق حقائق ظنية تتطور تبعا لما ينتج عن تعاملها مع الواقع أولا ومع قدرته على أن يطور هذا الواقع كوظيفة، والمهدوية كفكرة تخضع لنفس النظام والمنهج هذا، وأن تسخر في جانبها التجديدي الإصلاحي لصالح حركة الواقع ولا ينبغي لها أن تتوقف على أن الإنسان عاجز أن يبتدع ويجدد أفكاره، وصولا للخلاص الذاتي من إفرازات التعامل القسري للدين والمعرفة وإخضاعهما للذاتية التصورية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الجماعة الإسلامية في لبنان: استشهاد اثنين من قادة الجناح الع


.. شاهد: الأقلية المسلمة تنتقد ازدواج معايير الشرطة الأسترالية




.. منظمات إسلامية ترفض -ازدواجية الشرطة الأسترالية-


.. صابرين الروح.. وفاة الرضيعة التي خطفت أنظار العالم بإخراجها




.. كاهنات في الكنيسة الكاثوليكية؟ • فرانس 24 / FRANCE 24