الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


- ناسا - زيارة الى وكالة الفضاء الامريكية

اسماعيل شاكر الرفاعي

2022 / 9 / 8
المجتمع المدني


زيارة الى ناسا : وكالة الفضاء الامريكية

لم توجه الدعوة اليَّ جهة رسمية او غير رسمية للقيام بهذه الزيارة . انا مَن دعوت نفسي للقيام بها ، وانا مَن انفق على هذه الزيارة : وهي نفقات ليست ضخمة ، لانني لم أقم بالزيارة من خارج امريكا بل من داخلها . ولم تكن المسافة التي قطعتها واسعة جداً ، ولا مرهقة : انها خضراء معشبة ، وذات شجر مشذب يصطف على جانبي الطريق ، كما لو كان مُوَكّل بالتعبير عن احترام المتنقلين ببن المدن وبين الولايات ، وهم ينهبون المسافات بسياراتهم الخاطفة على الطريق السريع ( highway ) . ومع انني توقفتُ ثلاث مرات في الطريق ، لتعبئة السيارة ولتناول الغداء ، وللاستراحة وشرب القهوة : الا ان المسافة التي قطعتها بين ولاية لويزيانا حيث اسكن كمواطن أمريكي ، وبين مدينة هيوستن في ولاية تكساس : لم تستغرق اكثر من خمس ساعات .

فرحتي عظيمة بزيارة وكالة الفضاء الامريكية ، فلأول مرة في حياتي : ازور مكاناً يرهص بالمستقبل : يدور شغله كله حول ما هو آتٍ . ولذا يتسم المكان بالحركية وليس بالثبات ، الثبات او بتعبير الفقهاء والنحاة : الأصالة ، هي معطىً اولي عاشت عليه حضارات ، كان محور تفكيرها يدور حول الشرح والتأويل لنصوص مقدسة سابقة . اما مفاهيم منظومة " ناسا " الفكرية ، فانها غير مشغولة لا بالنص القديم ، ولا بتأويله ، بل هي مشغولة بعملية الكشف ، والكشف بحد ذاته يحمل دلالته المستقبلية . انها مفاهيم " ناسا " لا تنطوي على هموم لغوية تتعلق بالتفسير الأصح والتأويل الأكمل لنصوص الماضي الدينية بل تنطوي على هموم الكشف ورفع الغطاء عن وجود سابق ايضاً ، ولكن التأويل لم يستطع الكشف عنه . انها تستخدم التلسكوب للنظر في اعماق الكون المجهولة ، لتزويدنا بمعلومات حساسة وذات مس ليس بعقولنا فقط بل وبوجداننا وضمائرنا . والكشف عن اعماق الكون المجهولة هو برنامجها المستقبلي : مستخدمة : البنية العملاقة لتلسكوب جيمس ويب ، الذي تلتقط مراياه الصور بمساعدة الأشعة تحت الحمراء التي لم يعرفها الماضي السابق على القرن العشرين ، ومن هنا يمكن لنا ان نلمس تغيراً عميقاً في معنى الماضي الدي يصبح : ماضي الكيفية التي خرج بها الكون الاول بما فيه من كواكب ومجرات ...

لقد تمردتُ بطريقتي الخاصة كما هي عادتي ، على عاداتنا العراقية الموروثة في الهرب الى الماضي . في كل حياتي لم استنجد بالماضي ابداً اذا واجهتني تحديات جديدة بل امنح للعقل فرصة عظيمة للتفكير والتقيد بما يتوصل اليه من حلول ، حتى لو كانت صعبة ومرهقة . منهج نظامنا التعليمي يشجع على جعل الشباب يمدون عقولهم وأبصارهم الى الماضي : ليغرفوا منه حلولاً جاهزة لمشاكلهم ، فمثلاً يلجأ الموهوبون من شبابنا في الشعر وفي السرد لدراسة ذائقة جمالية عمرها اكثر من 1000 عام ، يتعلمون منها الاحساس بالجمال ، وهم يعيشون ويمارسون مهناً : شركاؤهم فيها لا يتحسسون جمال الكون من خلال : قفا نبك ، او : لخولة اطلال ببرقة ثهمد ، بل من خلال وعي آخر حديث وعصري : انها جمالية صناعة مجتمعات : ويتضمن مفهوم الصناعة بذاته : القطيعة لا الاتصال بمفاهيم الماضي الزراعي ، والانحياز للمفاهيم الحديثة ومنها : مفهوم الحقوق . لكل عصر ذوقه الجمالي : وذائقة عصرنا الجمالية يجسدها الكفاح المعرفي من اجل الكشف عن الحقوق : حقوق الملايين المهضومة الآن ، كما كان الامر في عهد صدام حسين ، من قبل شخص شخص واحد ايضاً : يشبه نوري المالكي او يشبه مقتدى الصدر او العامري او الخزعلي او الحكيم ، يعيش : " بكد ألوف تعلك الكَرَبا"

عمل " ناسا " يتمحور حول صناعة ادوات الطيران ، والطيران لم يكن في الماضي علماً : لا عند ايكاروس اليوناني ، ولا عند عباس بن فرناس القرطبي المسلم : فعلامة العلم والمخترعات العلمية هو تطورها بعيداً عن الجسد في الوقت الذي تلبي للجسد رغباته المكبوتة وأحلامه المقموعة ، عن طريق تضخيم وتكبير حواسه : كما كبّرت السيارة خطو الانسان وجعلته يقطع المسافات الطوال بسويعات . ولم ينفصل علم ايكاروس ولا علم ابن فرناس عن جسديهما .

تعتمد آليات الصناعة مفهوم : التحويل ، تحويل المواد الخام الى سلع وبضائع تسد حاجة الانسان اليها : الذي لا تسد حاجته الى اللباس ، ولا يستر عريه الصوف لوحده ابداً : ان لم يتحوّل الى نسيج من القماش . وقد فشل العالمان القديمان في إنجاز مهمة تحويل الريش الى اجنحة ، ويعود السبب في ذلك الى محاكاتهما للطير في الطبيعة ، مع ان العلم يدور حول اكتشاف المجهول من القوانين ومن المواد وتفاعلاتها .
وعينا العلمي اليوم لا يختلف عن وعي ابن فرناس القرطبي وايكاروس اليوناني : فنحن كعرب وكمسلمين نراوح في وعي خاص حول الجسد البشري ، ونحاول ان ننجز عبقريتنا في الحياة من خلال الجسد ، فنحن نقيس شرفنا وأخلاقنا بما وضعناه للجسد من معايير ، وما زالت قوتنا ونحن نخوض المعارك تعتمد - في عصر التكنولوجيا العسكرية والقنابل النووية - على قوة عضلات اجسادنا ، فزعمائنا وجنرالاتنا ما زالوا يلوحون لنا بهذه النكتة التاريخية الصارخة ، نكتة : ( ها خوتي حيهم ها .. ها ها ) وهكذا اتسعت الفجوة العظيمة وتتسع باستمرار بيننا وبين تلك الشعوب التي لم يعد الجسد مدار وعيهم الأخلاقي والمعنوي وحتى العلمي كما هي الحال في ربوعنا التي يتكاثر عدد مدنها المقدسة ، وتقل خصوبة تربتها ويغزوها : التصحر والجزاء ...

سيتكلل جهد وكالة الفضاء الامريكية هذه ( ووكالات اخرى يابانية وروسية وصينية وأوروبية وكندية ) برفع الغطاء عن التحديات الكثيرة التي تعمل على فك ألغازها : ( الانفجار الكبير ، الثقوب السوداء ، محاولة السفر عبر الزمان الذي حققه بشكل كبير وليس جزئياً مكرسكوب جيمس ويب ، اكتشاف ما تنطوي عليه بعض الكواكب من إمكانيات حياة ) ولهذا اشعر بعمق بانني ذهبتُ لزيارة مكان مستقبلي لا ماضوي ، علمي وليس خرافي ، يقوم منطقه على ترابط السبب والنتيجة ، وليس على " الدعاء " لتحقيق المعجزات التي لم تتحقق يوماً . لقد ارهص هذا المكان بالآتي من المنجزات العلمية : التي يمكن للدراسات المستقبلية استشراف أهدافها ...

اذا اردت القيام بزيارة فرع " ناسا" في مدينة هيوستن الامريكية ، فستجد في استقبالك مكان يفصح عن نفسه وعن الدور الذي يقوم به ، بمجرد اطلاعك على الادوات التي استخدمها طيارو " ناسا " في سفرهم المتكرر الى فضاء العالم الخارجي . وستفهم من خلال ذلك ما تم انجازه من كشوفات في الفضاء الذي يتمدد ويتمدد باستمرار ...
و" ناسا " متعددة الاهتمامات : فإلى جانب دراسة بنية الكواكب ، واستكشاف ما تضمه من مواد وعناصر مهمة وصالحة للاستهلاك الارضي ، تسعى ناسا الى البحث عن الاماكن الشبيهة بالأرض والتي يمكن للانسان العيش فيها : ومن هنا تبدأ مهمتها الاستراتيجية الاخرى المسكوت عنها : نقل المجموعات البشرية المستعدة للعيش في الكواكب الصالحة للسكن في مرحلة لاحقة ...

العروج الى السماء فكرة قديمة ، قِدَم شوق الانسان لاستكشاف الطبيعة وما وراءها ، وقد لعبت الاديان دوراً مهماً في الجواب على هذه الرغبة الجامحة : بقيام أنبيائها بالعروج الى السماء : وما عادوا به من وصف لعالم الربوبية والملائكة ولأنواع العقاب ، مؤكدين في ذلك على وجود عرش الرب ، وعلى وجود الملائكة والشياطين ، وعلى وجود سبع سماوات طباقاً ...

والحقيقة ان علم الفلك ذو انجازات مهمة على مستوى تحرير العقول البشرية من جمودها الذي طال ، خاصة بعد اكتشافات كوبرنيكس وجاليلو الفلكية في القرن السادس والسابع عشر لمركزية الشمس ، ولكروية الارض ، ودورانها حول الشمس . ومع مرور الزمن اصبحت دائرة الناس التي تتابع منجزات علم الفلك تتوسع باستمرار . وقد احدث بناء تلسكوب " هابل " منعطفاً تاريخياً مهماً في مسيرة هذا العلم ؛ تعمقت بعد استقرار التلسكوب العملاق : جيمس ويب في الفضاء على بعد 1,5 مليون ونصف كيلومتر من الارض ، ومباشرته بارسال صور : عن كواكب ومجرات كانت قد تكونت قبل مليارات السنين الضوئية ، وصفها المختصون بالمذهلة . وعلم الفلك واحداً من العلوم الذي دخلت مصطلحاته ومفاهيمه العلمية في لغة التداول اليومي للناس من مختلف الثقافات والجنسيات بفهم وبوعي اكثر وضوحاً من السابق ، وشاعت على ألسنتهم تعبيرات علمية من مثل : الأشعة فوق البنفسجية ، والاشعة تحت الحمراء ، وسنة ضوئية ، والانفجار العظيم ، الطول الموجي وغيرها ...

هيوستن - لويزيانا
الاسبوع الاول / أيلول 2022








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. آلاف الإسرائيليين يتظاهرون للمطالبة بقبول مقترح -خارطة الطري


.. آلاف المجريين يتظاهرون في بودابست دعما لرئيس الوزراء أوربان




.. إسرائيل وافقت على قبول 33 محتجزا حيا أو ميتا في المرحلة الأو


.. مظاهرات لعدة أيام ضد المهاجرين الجزائريين في جزر مايوركا الإ




.. متظاهرون مؤيدون لفلسطين يتظاهرون في باريس بفرنسا