الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


-حاجة لله- - المفهوم الاجتماعي للنص

عبد المجيد إسماعيل الشهاوي

2022 / 9 / 8
المجتمع المدني


مدت يدها نحوي وتوسلت: "حاجة لله". ماذا تقصد السيدة؟ هل هي تطلب شيئاً لنفسها، أم لشخص آخر يدعى "الله"؟ إذا كان لنفسها، لماذا لا تقول "حاجة ليّ"؟ لماذا تُوسط هذا الشخص بالذات- الله- بينها وبيني، الطالب والمطلوب منه؟ وكيف لهذه السيدة البسيطة أن أدركت أثر ذلك الوسيط، المدعو الله، على المطلوب منهم حتى تتوسل به إليهم وعليهم؟

ببعض التحليل، سيتبين أن عبارة "حاجة لله" ليست أكثر من رموز تقف إلى معاني وعلاقات اجتماعية هي الأساس وهي التي قد خلقت النص وتصون وجوده واستمراريته. فمن دون هذه العلاقات الاجتماعية وما تمخض عنها من معاني ما وجد وما استمر النص، أي وكل نص على الإطلاق. كل ما في الأمر أن هذه السيدة مثل غيرها تحترف علاقة اجتماعية معينة- التسول- ومن ثم تستغل كل الرموز والهيئات الممكنة التي قد أفرزها المجتمع لهذه العلاقة بالذات- بين المتسول والمتسول إليه، أو المتوسل والمتوسل إليه.

حين تطلب السيدة متوسلة بالله قضاء ’حاجة‘ لها، هذا يقتضي بالضرورة طرف آخر يرتجى منه قضاء هذه الحاجة. في غياب هذا الطرف المقابل، تنتفي علاقة الطرفين معاً من الوجود، ومن ثم لن تلفظ السيدة عبارتها من الأصل وستصبح عديمة النفع، عدا أن تطرب بها مسامعها نفسها لا غير. لكن في النهاية، ما من أحد هناك موجود في محيطها (مهيأ لكي يقيم معها علاقة اجتماعية من نوع أو آخر) حتى تبلغه سؤالها ويلبي لها حاجتها. بالتالي يصبح النص في حد ذاته غير منطقي وغير مبرر- بل الحماقة ذاتها.

لكن اللغة في حد ذاتها هي اختراع للحماقة (الخيال) بامتياز! فاللغة قادرة على التعبير عن العلاقات الاجتماعية أثناء وجودها وتفاعلها، وفيما وراء ذلك، وحتى بعد انتفائها. فما من شيء على الاطلاق يمنع سيدتنا من أن تواصل ترديد العبارة "حاجة لله" مع نفسها فقط، حتى وهي ممدودة على فرشتها نائمة. وهنا سنتحول إلى ذلك المدعو "الله" الذي توسلت به السيدة رغم عدم حضوره فعلياً كطرف ثالث (وسيط) في العلاقة بيني وبينها.

العلاقات داخل الجماعة هي ذات طبائع مختلفة. والعلاقة محل نظرنا هي تلك المتعلقة بالقوة. فلا شك أن السيدة تلعب بذكاء دور ’الضعيف‘ الذي يستخدم كل الحيل لكي يستدر عطف وكرم طرف مقابل ’قوى‘، أو على الأقل أكثر قوة (ومالاً) من الطالب. هذه العلاقة قائمة داخل الجماعة منذ نشأتها الأولى، بالنظر إلى التفاوت والتباين الطبيعي والحتمي بين أفرادها المؤسسين. طالما وجدت ’جماعة‘، وجدت ’علاقات‘ بين أفرادها المكونين؛ وطالما وجدت ’علاقات‘، وجدت ’موازين‘ لتلك العلاقات ستكون دائماً مختلة ومائلة بدرجة أو بأخرى ولن تكون أبداً ’متوازنة‘ بالمطلق. ومن مادة هذا التباين القائم طبيعيًا وحتمياً في موازين العلاقات بين أفراد ومكونات الجماعة، تستطيع اللغة (الخيال) أن تختلق الكثير من المعاني والمفاهيم غير الموجودة فعلاً داخل العلاقات الحقيقية وقد توليها دلالة وأهمية تفوق كثيراً ما هو قائم بالفعل على الأرض.

في علاقة ’القوة‘ بين البشر، هناك دائماً وأبداً ’القوي‘ و’الأقوى‘ منه- حتى نبلغ صاحب الأكثر قوة على الإطلاق داخل الجماعة كلها. فإذا لم تُقضى حاجتنا قد نستنجد بجماعة ’أجنبية‘ أكثر قوة من ’جماعتنا‘، ونتوسل تحديداً إلى رجلها (حاكمها) الأكثر قوة من رجلنا (حاكمنا)، وهكذا دواليك حتى نقطة النهاية التي لن نعثر بعدها على من يستطيع نجدتنا. لكن، إذا توسلنا بالملوك كافة ولا تزال حاجتنا غير مقضية بعد، عندئذ تستطيع ’اللغة‘ نجدتنا بما عجزت عنه كل العلاقات الاجتماعية الحقيقية على الأرض- ’ملك الملوك‘ أو ذلك الشخص الأكثر قوة من كل ملوك الأرض مجتمعين. وفي هذا تكمن عبقرية اللغة وحماقتها في الوقت عينه.

ملك الملوك إذا وهب فلا تسألنَّ عن السبب! هنا لا مكان للحقيقة والمنطق، بل القول كله ’لغة‘ (خيال/حماقة) فقط.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مفوض الأونروا: إسرائيل رفضت دخولي لغزة للمرة الثانية خلال أس


.. أخبار الساعة | غضب واحتجاجات في تونس بسبب تدفق المهاجرين على




.. الوضع الا?نساني في رفح.. مخاوف متجددة ولا آمل في الحل


.. غزة.. ماذا بعد؟| القادة العسكريون يراكمون الضغوط على نتنياهو




.. احتجاجات متنافسة في الجامعات الأميركية..طلاب مؤيدون لفلسطين