الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


على مقعد الحلاّق

شريف حتاتة

2022 / 9 / 9
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


على مقعد الحلّاق
----------------

جرت العادة أن يأتي إلينا الحلاّق مرة في الشهر. رجل اسمه عم حسين ، يملك محلاً في الزمالك. أيامها كانت الزمالك عزبة لها عمدة. يسير فيها الجاموس والمواشي بين الغيطان. وكان أجر الحلاقة نصف فرنك ، أي قرشان صاغ. ويقوم الحلّاق بقص شَعر جميع ذكور الأسرة في يوم واحد ، وفقا لتسلسل الأعمار.
منذ الصغر وأنا أكره قص الَشعر. لذلك أميل دائما إلى تأجيله. أظل أتهرب منه إلى أن أصبح كمنْ عاش في كهف، ثم بعد سنين طويلة قرر أن يخرج إلى سطح الأرض. ولان أفراد أسرتي يتميزون بطيبة القلب ، فهم يصرون على عدم إزعاجي.
يقولون لي أن شكلي يتحسن كلما طال شَعر رأسي، إن طول الَشعر يجعلني أشبه المفكر أو الفنان المبدع المتسم بالعمق. عندئذ أشعر بالزهو لأنه يوجد في بلادنا منْ يقرن بيني وبين الفكر، وأقرر مثل شمشون أن امتنع عن قص الَشعر ، مادام أنه مصدر إعجاب أقرب الناس إلىّ.
لكن أحيانا عندما أنظر في المرأة ، يصيبني الشك في سلامة هذا الرأي. والشك عندي إحـدى نقاط الضعف، أحسـد الكثيرين في مصر لأنهم معصومون منه . يبدو لي أنني أصبحت أشبه بإنسان الغابة، أو بالأسد العجوز . عندئذ يتملكني القلق ، وأندفع هابطا على السلم لأذهب إلى حلاّق الشعر الذي تعودت على الذهاب إليه. انه رجل أبيض شَعره مثلى ، يقف في المحل الملحق بحجرة خلع الملابس في نادي الجزيرة الرياضي. لديه حسنات تمیزه، منها أنه قادر على التصرف فيما تبقى من شَعرى بحرص، و أنه لا يصر على التحدث معى عن شئون الدنيا، بينما أريد أن اركن إلى الصمت، ومنها أن أجر الحلاقة عنده ثلاث جنيهات ونصف الجنيه ، وأضيف عليها مساهمة صغيرة مِنى في حل مشاكل حياته. وهذه الميزة الأخيرة مهمة عندى ، لان هذا السعر يتناسب تماما مع قلة الشَعر الموجود في رأسي والذي لا يتطلب سوى ضربتين بالمقص، ولا يستغرق أكثر من خمس دقائق لإنهاء إجراءاته. فمازلت أتمسك ببعض القواعد الصارمة فيما يتعلق بالصرف ، غرستها فيّ أمي في وقت مبكر من العمر .
لكن منذ أسبوع ذهبت إلى صالون حلق الشَعر ، ففوجئت بأن المسئولين عن إدارة النادي قرروا أنه في حـاجـة إلى تجـديد مـحـارة الجدران، ودهانها، وإدخال بعض التعديلات في تجهيزاته.
لم أرد أن أعـود إلى البيت دون إنهاء المهمة التي رغبت في إتمامها ، خصوصا أنني اسكن بعيدا عن النادي في حدائق شبرا، فقررت أن أغامر، أن ابحث عن صالون آخر في الزمالك أستطيع أن ألجأ إليه. قدت سيارتي ببطء في شارع ٢٦ يوليو إلى أن اهتديت إليه. كانت الواجهة مدهونة بطلاء أصفر فاقع اللون، وعلى الرصيف أمامها كان يجلس رجلان يستنشقان هواء الصباح ، وإلى جوارهما شماعة علقت عليها المناشف حتى تجف.
هبطت من السيارة، واجتزت الشارع على قدميّ. عندما أصبحت على مقربة منهما لاحظت أن بينهما تشابها كبيرا، شعرهما الاكرت طويل، وهو مربوط خلف العنق بفيونكا سوداء ، وأن لكل منهما لحية مدببة تتدلى من الذقن. عندما ألقيت عليهما التحية قام أصغرهما وفتح الباب ليدخلني في المحل ، ثم وقف ينتظرني حتى خلعت النظارة، ووضعتها على الرف.
جلست على المقعد الوثير من الجلد ، ذكرني بمقاعـد البزنس كلاس ، أمـر عليها في طريقي إلى الاكونومي كلاس عندما اركب الطائرة. اخرج الرجل بعض الأدوات من الدرج، وضغط على مفتاح الراديو فانبثق منه صوت يتلو القرآن الكريم. فيبدو أنه عندما لمح بياض شَعرى ، قرر أن يسمعني ما يتناسب مع احتمالات رحيلي العاجل عن الحياة.
أحاط عنقى برباط عريض من الشاش ، فأصبحت كمنْ أجريت له عملية في الغدة الدرقية. أخرج مفرشا ملونا من الحرير الصناعي ، لفه حولي بحركة تشبه مصارع الثيران يطوح العباءة الحمراء أمام الثور الأسود ليحفزه على الهجوم. ثم مال علىّ وسألني :
" طويل، ولا قصير، ولا وسط " .
ترددت لحظة ثم تذكرت وجه الأستاذ " محمد عمارة " وهو ينظر لى بصرامة وقلت:
" وسط " .
أسلمت نفسي للحلاّق، واستأنفت السرحان الذي تعودت عليه في مثل هذه المواقف. عاد ذهني إلى الوراء عابراً فوق السنين بتلك القدرة العجيبة لمخ الإنسان في إلغاء الزمن والمسافات.
اجتزت اثنين وسبعين سنة في قفزة واحدة لأعود إلى سنة ١٩٢٧، ولأرى نفسي صبياً صغيرا على الشرفة في بيت جـدى الكبير. كانت تطل على حديقة واسعة يوجد عند أخراها اصطبل للخيول . أجلس على مقعد من القش، رأسى محنى ، وحـول جـسـمى شيء كـالمـفـرش الأبيض مربوط من الخلف بدبوس مشبك. وصوت المقص قرب أذني وأنا أتطلع إلى أشجار الكافور العالية.
كان يأتى الينا الحلاّق عم حسين فى بيت الزمالك ، ويبدأ بجدى الكبير ثم عمى نجيب الأكبر ، وفقا للترتيب الأبوى الصارم الذي كان يتطلب التدرج في الحلاقة من أعلى إلى أسفل. أما أبي فكان رجلا يعشق الشياكة ولا يرضى عن درجة مهارة عم حسين. لذلك كـان يذهب إلى صالون يملكه، ويديره رجل إيطالي مغرم بالنبيذ والأغاني، وله أصابع كالفراشات. وكان هذا الصالون في شارع قصر النيل على مقربه من صالة أنيقة للشاى اسمها " سولت " ، يتسامر فيها وجهاء القوم مرتدين الطربوش المائل على جانب.
كانت الأسرة تدفع لعم حسين الحلّاق بالشهر، وفي الموسم كانت جدتي عائشة ترسل إليه إردبا من القمح، وصفيحة من السمن. كان رجلا طيبا مكسور الخاطر خصوصا عندما كبر وقلّ عدد الزبائن، وعندما أصبح التنقل بالنسبة إليه صعباً.
وأنا صغير كنت أكره حلاقة الَشعر ، فهي تنتزعني من اللعب وتتطلب منى أن أظل جالسا دون حركة. كرهتها أيضا عندما كبرت . ربما بقايا الطفولة لم أتخلص منها . لكن جاءت فترة أحببت فيها الذهاب إلى الصالون لقص الشَعر. كنت هاربا من السجن منشغلا بالنضال السياسى السرى. لا أتوقف عن العمل، وبذل الجهد، والسهر، والتنقل المستمر فأعاني من الإرهاق، وأحتاج إلى لحظات من الراحة أقتطعها من الدوامة التي سبحت في تياراتها، وكانت حلاقة الَشعر بالنسبة إلىّ مثل الهدنة. أجلس في المقعد وأسلم نفسي لصوت المقص، و ليدي الرجل تزيل عنى ثقل الشَعر. أسرح. أغلق عيني كأنني نمت حتى أتفادي الأسئلة، واأرب منها الأستاذ اسمه إيه ؟ ، ساكن فين ؟ ، بيشتغل إيه ؟ ، ياترى تعرف الأستاذ محمد الصفتي ساكن في أول الشارع بجانب المقهى . ثم تأتي تلك اللحظة التى أنتظرها عندما يرش شعرى بماء معطر، ويبدأ في تدليك الرأس، يعتصر التوتر. يزيل الإحساس بخلية النحل تظل نطن. يصبح الحلاّق، أي حلّاق صديقي. يصبح كالطبيب المعالج يبث فيّ حيوية متجددة، وينعشني.
لكن انقضى زمن تدليك الرأس، فجلست في المقعد الجلدي الوثير أعاني من الإحـبـاط رغم الأضـواء ، والألوان، وزجـاجـات العطور، والكريمات، والأدوات الكهربائية، والمجفف يطلق عليه السيشوار. ورغم كل مظاهر الاحترام، والانحناء، والصوت الخافت يهمس في أذني: عايز تغسل؟ ، عايز تكوى ؟ ، عايز كريم ؟ ن عايز سيشوار؟ . وعلى كل سؤال أرد بلا . فأنا أدرك أننى إذا أجبت بنعم ، سيكون علىّ أن أدفع ثمن كل خطوة من هذه الخطوات. فبعد قليل كف الرجل عن الهـمس . لكنه ظل يلف، ويدور، وينحني، ويميل، ويفحص رأسي من بعيد أو قريب ، دون أن ألاحظ أي تغيير قد حدث . فالمسألة كلها لم تكن تحتاج سوى إلى حركنين أو ثلاثة بالمقص، وينتهى كل شيء.
أخيرا سمعته يقول نعيما يا بيه ، فأحسست بالراحة. تناولت النظارة من على الرف وارتدينها. فحصت نفسي في المرآة للاطمئنان عليها، وقمت. سألت الرجل كم أجر الحلاقة؟ . فالقي إلىّ بنظرة من تلك النظرات الانفتاحية ، أعجز عن فهم ما تخفيه، نظرة تشعرني بالنقص، بأنني متخلف عن العصر.
ثم قال:
" اللي تدفعوا يا بيه ؟ ".
قلت :
" أليس عندك تسعيرة. اللي بيحلق شَعره بيدفع كام ؟ ".
قال:
" خمستاشر جنبه یا بیه ".
أخرجت المبلغ من جيبي ودفعته . وعندما وصلت إلى البيت سألوني :
" انت حلقت انهاردة ولا إيه ؟".
قلت :
" نعم حلقت .. ليه فيه حاجة؟ ".
" لا ..مفيش . لكن شكلك أحسن من غير حلاقة ".
لم اقل لهم أني دفعت خمسة عشر جنيها. إن قص الّشعرة الواحدة في رأسی کلفتني جنيها. قررت بيني وبين نفسي أن أكف عن قص الشَعر ، حتى يصبح شكلي مثل المفكرين والمبدعين . فالفكر في بلادنا مازال أرخص من قص الَشعر .
من كتاب " فى الأصل كانت الذاكرة " 2002
--------------------------------------------------------------------------








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ماذا نعرف عن انفجارات أصفهان حتى الآن؟


.. دوي انفجارات في إيران والإعلام الأمريكي يتحدث عن ضربة إسرائي




.. الهند: نحو مليار ناخب وأكثر من مليون مركز اقتراع.. انتخابات


.. غموض يكتنف طبيعة الرد الإسرائيلي على إيران




.. شرطة نيويورك تقتحم حرم جامعة كولومبيا وتعتقل طلابا محتجين عل