الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حرب النجوم الإلهية

عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني

(Abbas Ali Al Ali)

2022 / 9 / 11
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


من يفكر بعظمة الله تعالى من خلال عظمة هذا الوجود المتقن في صناعته وضبط حركته وأنتظامه الدقيق للغاية وكأنك أمام مجموعة من النظم المرتبطة بأجهزة تحكم في غاية التوافق والمثالية، لا يعارض شيء فيه شيئا أخر ولا يضرب بعضه بعضا يتحرك في إنسيابية هارمونية مثل معزوفة جميلة من يد موسيقار مرهف الحس حاذف الصنعة، يتأكد حينها أن من وضع هذا النظام العظيم المتكامل الذي لا يمكن خرقه أو أختراقه بأي حال، لا بد أن يكون عظيما بمطلق المطلق الذي لا حدود ولا معيار معروف لمطلقه، وعندما يستمع أو يقرأ ما قيل أنه كلام هذا الخالق الموجه للبشر وفيه ضعف وهنة هنا وهنة هناك يقع في حيرة من أمره، هل هذا العظيم الأعظم الذي خلق كل عظيمة بأعظم منها يتحدث بهذا المنطق الذي قد يتحدث به بشرا ممن خلق؟ السؤال هل من الإيمان بعظمة الله وقدرته أن ننسب له أي كلام أو فكرة لأنها قد تكون حقيقة وجودية ربما نفهمها أولا نفهمها؟ وبالتالي فالأعتراض عليها يصبح تشكيكا بتلك العظمة.
النصوص الدينية المنسوبة لله العظيم في غالبها لا يمكن أن تكون وفقا لمعيار العظمة المطلقة أن تصدر من الله بالكيفية الواردة في الكتب الدينية، فهي تتحدث عن معارف مدركة وأحيانا تتكلم عن معارف غير منطقية لو أخرجناها من دائرة التبرير والتفسير والتأويل اللا منطقي، سأضرب مثالا بسيطا هو قول النص (ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوماً للشياطين)، في نصف النص كلام جميل وليس فيه أكتشاف جديد أو فكرة غير أعتيادية، فالنجوم والكواكب والمجرات بشكلها الجمالي قي غياب مصدر الضوء الرئيسي وهي الشمس، تشكل لوحة فنية زينت السماء ليس بالأضواء فحسب بل بالتشكيل الذي يدعو الإنسان للتفكير بعالم أبعد من محسوساته القريبة، أي أن الجمالية المقصودة متعددة ولا تنحصر بأضواء، فالمصباح إضافة لكونه مصدر ضوء لحامله يكون مصدر دلالة للغير وكاشف للطريق الأمن وواحدة من طرق النجاة في الظلام، فالزينة هنا زينة كبرى عقلية وحسية ودلالية، لكن ما جاء في الشطر الأخر من النص هو محل الكلام الذي أشرنا له في المقدمة.
قد يقول قائل أن المعنى المباشر الظاهري ليس دوما هو المطلوب إيصاله للقارئ أو المتلقي، وقد يكون مجرد إشارة أو تنبيه لقضية أخرى، أو أن النص يخفي حقائق علمية أو أحكام لم يصل لها عقل الإنسان بحسب محدودية القدرة لديه، أيضا هناك من يرى أن التفسير الذي يشير إلى أن هذه المصابيح ليست بالضرورة ما نفهمها على أنها النجوم والكواكب التي تطلع علينا في ليالي الأرض مشعة بنورها، فقد تكون مصابيح معنوية أو مستقاة من كلمة الصباح، فالمصابيح باللغة أيضا لها معاني غير ما نركز عليه بالمعنى المفهوم، ولقطع سلسلة الأحتمالات التفسيرية لا بد أن نستحضر بعض التفسيرات التي عليها غالب الرأي والأعتقاد، المقصود بالمصابيح في الآية هي النجوم التي خلقها الله في السماء، وقد جعل من هذه النجوم رجوما للشياطين، كما قال قتادة رحمه الله في قوله تعالى (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ) "خَلَقَ هَذِهِ النُّجُومَ لِثَلَاثٍ: جَعَلَهَا زِينَةً لِلسَّمَاءِ، وَرُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ، وَعَلَامَاتٍ يُهْتَدَى بِهَا؛ فَمَنْ تَأَوَّلَ فِيهَا بِغَيْرِ ذَلِكَ أَخْطَأَ، وَأَضَاعَ نَصِيبَهُ، وَتَكَلَّفَ مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ " ذكره البخاري عنه في صحيحه (4/107) معلقا مجزوما كما ورد في "تفسير الطبري" (23 / 508) – "تفسير ابن كثير" (3 / 305) - "فتح القدير" (5 / 363) .
هذا الجزم والتأكيد من قبل كبار المفسرين والمسنود بروايات تاريخية معتبرة عند المفسر تخرجنا من دائرة الأحتمال الظني نحو اليقين المقطوع به على الحزم والجزم الكاملين به، فالمصابيح بإجماع أهل التفسير والتأويل هي النجوم ومع دلائل نصية أخرى منها (إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ) ﴿٦ الصافات﴾، فالأمر المقطوع به هنا أن زينة السماء هي الكواكب تحديدا بحسب النص، ومما زاد في قوة الحجة من أن زينة السماء هي الكواكب المنتظمة التي أدركها الإنسان ونظم وجودها الذهني في منظومة تصورية، حسب ما عرفه لاحقا وأدرجه في علم الفلك والنجوم لما يسمى الأبراج أو الروج قول النص الديني (وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ) ﴿١٦ الحجر﴾، والمعروف في علم الفلك الحديث أن السماء التي يفهمها العلم هي في الحقيقة أمتداد لا متناهي من حدود الإدراك ولا يوجد بالواقع أي تقسيم سوى ما هو تقسيم الكتلة الكونية الذي يبدأ من مسمى الموكب وتابعه من الأقمار التي تدور في فلكه والكوكب الذي يدور في مدار وفلك نجم رئيسي يسمى المجموعة باسم النجم الرئيسي كما في المجموعة الشمسية، ثم مجموعة النجوم التي تدور في فلك موحد وتسمى مجره ثم سديم ثم تقسيمات أخرى لا حاجة لذكرها هنا فهي من المعروفات العلمية.
إذا البروج أو الأبراج هي تصورات صاغها الإنسان نظرا لثبوتها النسبي لديه وجعل منها ولها قياسات وقوانين وهي بالحقيقة لا تشكل إلا جزء يسير من النجوم التي نرى في السماء، فهي مصطلح معرفي حسابي حسي لا واقع له في ترتيب السماء ولا قيمة له خارج ما كان الإنسان بحاجة له، المهم في الأمر أن كل النصوص التي أشرنا لها هنا تتعلق بمدركات البشر لها، وليس مما يعد حقائق وجودية عامة وكبرى يطرحها عظيم بما خلق، كما أنها في بعض التفصيلات غير منطقية لا تتناسب حتى مع القوانين والمعادلات الوجودية التي وضعها الله من قبل لتسير هذا الكون لما فيه من وسعة وتنوع وأنضباط، من هذه المفاهيم اللا منطقية على الأقل في ظاهرها العام والمطروح ما يعرف بحرب النجوم الإلهية (وجعلناها رجوماً للشياطين)، أي أن النص يشير بشكل علني لوجود حرب بين الله والشياطين السلاح الرئيس والوحيد فيها النجوم والكواكب التي هي زينة السماء.
هذه الصورة المرسومة بالنص ليست تعديا على الله من قبل القارئ ولا من قبلي أنا الذي أستعرض هذا النص بهذه القراءة، بل هي تهوين لعظمة الله أولا ومسا بالذات العظمى التي يسخر النص منها حينما يجعلها ندا لمن خلق هو من قبل، فالحرب هي صراع بين طرفين كل منهم يحمل رأيا أو فكرة يدافع عنها أو يحاول فرض فكرته بالقوة على الأخر الرافض لها، فحرب الله ضد الشياطين إذا لا بد أن تدور في مفهوم الدفاع أو الهجوم، فإذا كانت في حالة الدفاع فالله هنا ضعيف لا يملك القدرة على الهجوم القوي والقضاء على الشياطين بغير وسيلة الرجم، فهو يستخدم بها النجوم التي هي جزء من سلسلة مترابطة ومتشابكة من التكوينات الوجودية التي تحافظ على توازن وديموميه النظام الكوني من الأضطراب والتصدع، أو هو قد هاجم ضد طرف ضعيف لا يملك نفس القوة والقدرة للمواجهة، فالحرب المستمرة والغير عادلة هذه هي حرب القوي على الضعيف الذي ليس فيها منتصر طالما أنها مستمرة ولم ولن تتوقف، هنا الله أيضا عاجز عن أن يكون على الأقل ندا للشياطين بكل القوة والعظمة التي يمتلكها.
هذه حرب عبثية بالنظرة المنطقية للأشياء لا في شكلها ولا في منطقها ولا حتى في النواتج المطلوبة منها، فحرب النجوم هذه مع كثرة الشياطين قد تخل بالنظام الكوني وتعيد فكرة الأضطراب فيه خاصة وأن النظام الوجودي مبني على توازنات بين المادة والكثافة والجاذبية وعوامل الربط بين الموجودات، السؤال الذي يرد ومن تاريخ رصد الإنسان للكواكب لم يجد أي فقدان حقيقي للنجوم في السماء الدنيا حسب تعبير النص، ولكن وجد مون نجوم نتيجة فقدانها للطاقة أو نتيجة قوانين تحكم فيزياء الكون، كما وجد أيضا ما يعرف بالنيازك والشهب التي هي عبارة عن بقايا أجرام سماوية متحطمة أو منفصلة نتيجة ظروف خاصة، تتحرك في الكون وفق قوانين الجاذبية وحركتها في السماء محكومة بضوابط وليس من أجل شياطين هي كما يقدمها النص الديني عبارة عن مارج من نار.
هنا نعود إلى لب السؤال وهو لو كان النص من لدن الرب مباشرة فهذا بعني أن الله لا يعرف بما يجري في الكون من نظم وحركة وضبط وبالتالي فالعظمة التي هو عليها عظمة غير حقيقية، أي أن غياب المنطق العلمي الذي خلقه الله ونفذ به مشيئته في تثبيت الروابط الوجودية الكونية والحفاظ عليها هو مجرد أفتراض يفضحه النص الذي يثبت عكس ما نؤمن به من حقيقة الله، أو أن يكون النص منتحلا عن الله وليس منه مطلقا وأبدا، هنا الخيار صعب بين إيمان غيبي غير خاضع للنقد والتفكيك والبرهان والمنطق، وبين إيمان يرفع الله عن كل شبهة أو دعوة تنسب له وهو بعيد عنها ولا يمكن أن تصدر منه، هذا الخيار أحيانا يصطدم بحقيقة أن بعض النصوص التي نقرأها في المتن الديني تمثل تصورات عالية الدقة في توصيفاتها وفي طرحها لقضابا أخرى، هذه الحيرة يمكن تفسيرها أيضا أن من كتب النص الديني بشريا بالتأكيد لكنه ممن يحملون عقلا نابغا نجح في قراءة جزء مهم من قوانين الوجود، وفهمها وأدرك أسرارها خاصة مع حضوره في أوقات وأزمان كان العلم فيها في مدارجه الأولى.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شاهد: الأقلية المسلمة تنتقد ازدواج معايير الشرطة الأسترالية


.. منظمات إسلامية ترفض -ازدواجية الشرطة الأسترالية-




.. صابرين الروح.. وفاة الرضيعة التي خطفت أنظار العالم بإخراجها


.. كاهنات في الكنيسة الكاثوليكية؟ • فرانس 24 / FRANCE 24




.. الدكتور قطب سانو يوضح في سؤال مباشر أسباب فوضى الدعاوى في ال