الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ملاحظات أولية في المعرفة والعلم والعمل

هاتف جنابي

2006 / 9 / 29
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


في ظل التشويش والتشوش العام الذي ينخر في بدن وروح الثقافة العربية، ماتزال قضية العلم والمعرفة والعمل أمورا ملتبسة من حيث المصطلح والتفريق بين هذه المفاهيم، وتصور البعض أن العلم حقل محض ولا علاقة له بالعمل أو الحياة، وتبعا لذلك فإن العلماء وأصحاب المعرفة أفراد قد لا يربطهم بمحيطهم رابط ما، وكأنهم جماعة فضائية. إذا ما خلعنا عن هذه الجماعة قضية اغترابهم في محيطهم وهذا أمر قابل للأخذ والرد ويتعلق قبل كشيء بطبيعة الفرد ومحيطه. فكلما كان العالم والعارف عاملين في بيئة تحترم مجهودهما الخاص كان اغترابهما معدوما أو غير محسوس. على أن القضية تتحول إلى نكد وكابوس حقيقيين يلاحقان هذه الفئة المثقفة أو العالمة التي تنشد المعرفة في البلدان المتخلفة والشمولية. ولكيلا نبتعد عن صلب الموضوع سنركز على خصوصية هذه الفضاءات والوشائج التي تجمعها.
يبدو لنا، أن طرح موضوع العلم من أجل العلم فيه شيء من الاستعارة الأدبية، كأن نقول: الأدب أوالفن الصافي أو المحض، وهذه دعوى أثبت الواقع العملي موتها أو عقمها على أقل تقدير، رغم استقلالية الأدب والفنون النسبية عن بقية النشاطات العلمية والفكرية. فالعلم يبقى شأنه شأن العمل سعيا بشريا لتحسين ظروف الإنسان الحياتية والنفسية والصحية، ورفع مكانته في المجتمع، وتفسير الظواهر الكونية والحياتية، وإرضاء فضول الإنسان في الكشف والبحث عما هو جديد. على أن من بين أهم أهداف العلم، كما يؤكد المختصون في هذا الشأن، هو"عرض المشاكل وحلها، وكذلك الوصول إلى الحقيقة الكونية منها أوالبشرية، وهذان يحتاجان إلى نوع من الابتكار"، وبدون مجهود ذهني وعملي لا يمكن أن يتوصل المرء إلى تحقيق أي من تلكم الأهداف.
على أننا أمام سؤال آخر: هل المقصود هنا بالعلم الحصول على المعرفة، سواء أكانت محضة – صرفة أو إنسانية، أم العلم كنشاط إنساني بشقيه النظري والتطبيقي؟ العلم كما يُعَرّفه ذوو الشأن: "نشاط جماعي، يلعب فيه العمل الفردي دورا مهما"، لذا ففيه من التصنيف والقياس والجمع والاستنتاج وإعادة الطرح الشيء الكثير، وبالتالي ففيه من المنطق والرياضيات بعض الملامح. فالعلم يمكن أن يكون عملا بحثيا، مختبريا، أو نتاج عمل بحثي، أو مؤسسة اجتماعية. العمل البحثي يمكنه أن يشمل كل ما له صلة بالعلوم الإنسانية والتطبيقية التي قد تصل مرحلة الدخول المختبري. فالإنجازات البشرية إما أن تمر أولا، عبر موشور المخيلة فالعقل بانتظار إثباتها عمليا، أو أنها تلد مباشرة أثناء العمل في هذا المجال أو ذاك. لذا فمن المفترض بمن يمارس العلم أن يتوفر على شروط من بين أهمها: حب العمل، الانضباط في العمل، حرية وحيادية العمل العلمي. من هذا المنطلق فالمعرفة هي صنو العلم ورديفه. ولا يوجد علم بدون معرفة. إن عصرنا الراهن، هو عصر التخصص. ومن هنا فالمعرفة إما أن تقتصر على هذا الفرع أو الحقل دون سواه فهي إذن معرفة اختصاص بعينه، ولدينا أمثلة جمة من العلماء المهمين ممن تقتصر معرفتهم على اختصاصهم وحسب، وثمة آخرون تتجاوز معرفتهم حدود مجال اختصاصهم الأول. على أن علينا التفريق ما بين العالم المحض والمفكر. عادة ما تكون معرفة المفكرين الحديثين أشمل وأوسع، تذكرنا بمنجزات الحضارة الإغريقية والعربية -الإسلامية، تمثيلا، لا حصرا. بحيث نكون أمام عقل مثل أرسطو وفلاطون وسقراط، وابن رشد، والفارابي، والرازي والخوارزمي وابن الهيثم وابن حزم وسواهم. ولنا أمثلة مشابهة كثيرة في العصر الحديث. الوصول إلى المعرفة، بغض النظر عن طبيعتها وأهميتها، لا يمكن أن يتم بدون العمل المتواصل والمضني في الغالب الأعم. والعمل لا يعني دائما وأبدا المجهود العضلي وحسب، وإنما الفكري- الذهني كذلك. ومن هذا المنطلق فالعلاقة ما بين العلم والمعرفة والعمل وثيقة للغاية، قد تنطبق عليها فكرة الديالكتيك الهيغلي.
في ضوء التقدم العلمي والتكنولوجي المطرد، يبدو أن العمل بمفهومه التقليدي العضلي في انحسار وتراجع في المجتمعات المتطورة خصوصا، بحيث باتت نظرية الطبقة العاملة التقليدية في مأزق حقيقي.
فالآلة وهي نتاج العملية العلمية والتكنولوجية(المختبرية والمكتبية كذلك) أخذت تحل محل قسم من العاملين العضليين. ثمة مشكلة تطال اليوم المجتمعات الغربية، تتمثل بتضاؤل عدد الذين يواصلون تحصيلهم العالي. لكن هذا ليس ناجما في المقام الأول عن العزوف عن الدراسة بحد ذاتها لانعدام المنفعة منها، إذ تلعب الأسباب الاقتصادية والمعيشية(بما في ذلك ارتفاع تكاليف الدراسة مثلا) والعوامل النفسية وسرعة الإيقاع الحياتي وانعدام الطموح الفردي وطبيعة البيئة التي يعيش فيه الفرد والتوجه نحو اكتساب الخبرة والمهارة مبكرا: أي الحصول على حرفة ما، دورا حساسا في مواصلة(أوعدم مواصلة) التحصيل العلمي أو الاهتمام بالعلم في المقام الأول. لذا نرى اليوم انتشار مكاتب سماسرة العمل، التي ترمي إلى استقطاب الخبرات من شتى أرجاء العالم ، حتى أخذوا يتسابقون في ذلك متوسلين بأساليب عدة. يعني وجود مسعى واضح للحصول على أفضل الكفاءات بأقل الأثمان. لأن إعداد وتكوين الخبرة مكلف، وطويل الأمد وغير مضمون دائما. وعليه فالمجتمعات الهرمة أو ذات المشاكل الاقتصادية تعاني من هارمونية وانسيابية العلاقة ما بين العلم والدراسة والعمل، لأن هناك تراجعا في تشغيل الراغبين في العمل، لكننا نلاحظ مقابل ذلك ازدياد فاعلية العاملين في الحقل العلمي والفكري، من جهة وسعي العاملين الواضح للحفاظ على مواقعهم، عبر زيادة خبراتهم من جهة ثانية. ومن هنا فالعمل والعلم مجهودان بشريان مشروعان ومطلوبان. وهما بقدر تداخلهما مستقلان نوعا ما. لكنهما بتميزهما عن بعضهما البعض يعززان موقع القائم بهما. العلم يعزز العمل ويمنح صاحبه دورا أكبر في محيطه. لو نظرنا إلى الولايات المتحدة الأمريكية واليابان وألمانيا وإنجلترا وما شابه، لألفينا أن سر استحواذ هذه البلدان على العالم ناجم عن الإنجازات العلمية الهائلة المتواصلة كما وكيفا، مقترنة بحسن تنظيم العمل والمحافظة على وتيرته وصرامته وحيوية المرتبطين به. هذه البلدان توفر دعما لوجستيا وإمكانيات لا محدودة لكافة أنواع النشاطات الذهنية –الفكرية- النظرية والعملية منها والعلمية التطبيقية. فثمة فلسفة العلم وهناك فلسفة العمل. وتبعا لذلك ثمة حركة انزياحية واضحة في تسريح أو تشغيل العاملين في شتى المجالات.
أما في مجتمعاتنا العربية وما شابهها، فإن مجرد التبرم من العلم والعمل يبدو أمرا غريبا. لأن مجتمعاتنا بحاجة ماسة لقرن العلم بالعمل، والسعي لكي يكون العلم ممارسة طبيعية لمجتمعات وليدة. يمكن الاستفادة من العلم عمليا لدى الضرورة. كما ولا يحق لنا بأن نحصر العلم في إطار ضيق باعتباره تحصيلا من أجل العمل. العلم علم والعمل عمل، لكنهما متماثلان من حيث سعيهما لتسديد ضربة موجعة لمناوئيهما. تبدو لنا مسألة العلاقة ما بين العلم والعمل غير متجانسة على الدوام. فالعلم كممارسة هو عمل بطبيعته سواء وفر لصاحبه مصدرا للرزق أم لا، وليس بالضرورة أن يكون عضليا أو نشاطا مرئيا لكي يجري الاعتراف به. لكن العلم حتى في خصوصيته المحضة لايبقى في المحصلة النهائية علما من أجل العلم، كما هو ليس من أجل العمل دائما. لكن المفترض بالعلم والعمل أن يكونا نافعين فرديا أو جماعيا. ومن هنا، فبغض النظر عن الفائدة المرجوة من هذا الحقل دون ذاك، تبقى ممارسة العلم حتى في أبسط صوره المتمثلة في المدارس والمعاهد والجامعات والمراكز العلمية، أمرا ضروريا للغاية على الصعيدين الفردي والجماعي، الثقافي والحضاري. في عصرنا الراهن، في دول القانون ومؤسسات المجتمع المدني أصبح توفر العلم والثقافة ممكنا بدون اللجوء إلى المراحل الدراسية العليا. ثمة علم شديد الخصوصية والتعقيد متوفر لذوي الشأن أي الاختصاص وثمة معرفة مشرعة الأبواب لمن يطرقها، ومن المفضل أن يرتبط هذا المسعى بأفق ورغبة وطريقة يمكنها اختصار الطريق نحو بلوغ المعرفة.
ما من أمة تريد أن تنهض بمعزل عن العلم والمعرفة والعمل. ما من أمة تريد أن تنهض بدون احترام العلم والمعرفة والعمل.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حماس وإسرائيل.. محادثات الفرصة الأخيرة | #غرفة_الأخبار


.. -نيويورك تايمز-: بايدن قد ينظر في تقييد بعض مبيعات الأسلحة ل




.. الاجتماع التشاوري العربي في الرياض يطالب بوقف فوري لإطلاق ال


.. منظومة -باتريوت- الأميركية.. لماذا كل هذا الإلحاح الأوكراني




.. ?وفد أمني عراقي يبدأ التحقيقات لكشف ملابسات الهجوم على حقل -