الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ليس فصاماً -أنت كما تحلم أن تكون 4-

لمى محمد
كاتبة، طبيبة نفسية أخصائية طب نفسي جسدي-طب نفسي تجميلي، ناشطة حقوق إنسان

(Lama Muhammad)

2022 / 9 / 14
الادب والفن


هناك قوانين كثيرة في هذه الحياة، لكن القانون الأساس هو: كما تدين تدان.

هو يشمل قانون الجذب وقوانين أخرى لا تعد ولا تحصى، اعمل خيراً تراه، اعمل شراً يلاحقك وأحبابك.. اشكر تزداد النعم، ابطرْ تتقلص الفرص..
اذهب شرقاً يكبر القلب، هاجم غرباً يفترسك سم نكران الجميل…
قانون كما تدين تدان، ذهب بنا إلى الطب النفسي، واسمعوا ما حصل…
********

في ثمانينيات القرن الماضي قررت أمي الفرار مع أبي خارج الشرق الحزين الجميل.. كانا من ديانتين مختلفتين، ولست هنا بصدد فتح صنابير الطوائف والأديان، المهم أنهما رحلا إلى أوروبا، تزوجا وكنت أنا…

اسمي قرنفل، هي وردة أمي المفضلة.. تربيت في دلال وحرية.. لم أدرس يوماً على ضوء الكاز كأهلي، ولم تقرصني معدتي جوعاً في ليالٍ باردة…
امتلأ بيتنا بالقرنفل من كل الألوان، عزفت البيانو وغنيت في أوركسترا المدينة.. ربيت القطط كعادة أمي عندما كانت طفلة…

أنتم مثلي تعلمون أن الحياة تقرض من أمانينا مع كل قضمة أحلام استحصلناها…
في يوم لا يشبه ما قبله رأيت أمي تغلق النوافذ والستائر.. ثم رأيتها في يوم بعده تفتش تحت السرير وخلف الأبواب، وتشابهت الأيام…
صارت أمي تتحدث مع نفسها، كبر شكها وزادت غيرتها.. أكلت التوهمات وقتها كما يأكل النمل جثة ميت طازجة…
حاول أبي اقناعها بمراجعة الطبيب:
-ربما هذا فصام..
فهاجمته، وفي اليوم التالي لم نجدها…

أجل رحلت أمي، لا نعرف إلى أين ولا لماذا.. لكنها رحلت.. تركت لنا رسالة تقول فيها أنهم يلاحقونها، وأنها رحلت من أجل حمايتنا…

وتحوّلت حياتي، دارت دوائر شفقة الناس أو استغلالهم حولي.. أما أبي فقد أصبح ضعيفاً، هزيلاً، منهكاً، وكأنما أمي ضخت الدم إلى روحه وعندما رحلت مات في الروح قلبها…
*********

في صباح يوم تشريني حانٍ، تلقيت حبل النجاة..
وصلتني مكالمة تلفونية من مستشفى للطب النفسي، بعد التأكد من هويتي قالت لي الدكتورة:

-سعيدة بسماع صوتك يا قرنفل، أمك عندنا في المستشفى، طلبت مني أن أكلمك…

بدأت بالبكاء، وصمتت الدكتورة، خيّل إليّ أنها تبكي أيضاً…

-شكراً دكتورة، ما حصل؟

-وجدتها الشرطة حافية وجائعة في محطة القطار في مدينتنا، وأحضرتها هنا.. يبدو أنها سافرت منذ زمن، أليس كذلك؟

-أجل رحلت من دون سابق إنذار منذ حوالي سبعة أشهر…

-احكِ لي ما حدث بالتفصيل…

حكيت للدكتورة تفاصيل دقيقة عمّا حدث..

-فهمت، دعيني أراجع الحكاية والتحاليل والصور الشعاعية، ثم أخابرك.. أجل بالطبع تستطيعين زيارتها…

وضعت الهاتف وقلبي على الأريكة.. تنفست بعمق، ثم بدأت بحمد الله.. الحمد لله الحمد لك يا رب.. تابعت البكاء.. لبرهة، اتصلت بأبي، فرن جواله في المطبخ.. دخلت المطبخ وجدته يبكي..
-سمعتك، ثم لم تحملني قدماي.. احجزي لنا لنذهب اليوم إليها..

حجزت تذاكر طائرة لصباح بعد الغد، لم أجد قبلها حجزاً لاثنين.. ولم أرده أن يذهب أو يبقى لوحده في حالته هذه..
أرسلت للطبيبة بالبريد السريع الصندوق الأزرق الذي جمعت فيه كثيراً من ذكرياتي مع أمي وصورها قبل أن تمرض.. سيصل الصندوق قبلنا، وسيشرح لها أكثر…
*********


في الساعة الثانية من يوم الخميس، دخلنا أنا وأبي مكان الزيارة في مستشفى الأمراض النفسية الهادئ…
-قرنفل، ابنتي أنا آسفة.. آسفة…
ضمتني وأبي وبدأت بالبكاء…
كانت أحسن بكثير، نحيلة جداً، لكنها هي، هي كما أعرفها.. نظراتها لا ترتعد، وعضلات وجهها لا تتقلص بشكل مخيف.. صوتها ثابت ودافئ…

قلت في نفسي: ربما هذا هو الفصام، وأصبحت أفضل بعد الأدوية، لكن كان للطبيبة الهادئة رأي آخر…

-أهلاً وسهلاً بكما، الحالة ليست فصام، ولا ثنائي قطب، السيدة أم قرنفل عندها تكلسات في الدماغ، ناتجة عن تربية القطط.. المرض يسمى المقوسة الغوندية ( التوكسوبلاسموز)
هو طفيلي تنقله أي قطة مصابة لم تعالج…

-القطط هي السبب؟

ابتسمت الطبيبة بهدوء:

-أجل القطط، وبسبب وجود الطفيلي في الدماغ، اختلت النواقل الكيميائية وتم الضغط على مناطق في الدماغ مسؤولة عن الشخصية، المزاج وسماع الأصوات، وهذا كان سبب الذهان -أو ما اعتقدتم بكونه فصام.. سنجري بعض التحاليل لكما أيضاً…

لم أعرف كيف أشكر الدكتورة، نظرت إليها، ثم ضممتها وبكيت.. أما أبي فقبل يدها، فاضت كلمات الشكر، وبكت الطبيبة من جديد…

بعد أسبوع أخرجنا أمي من المستشفى.. كان من بين أغراضها الصندوق الأزرق، وقد زاد ذكرى.. فيه الان صورتنا مع الطبيبة النفسية النبيلة.. إيمان بعلم الطب النفسي مع أمل “كثير” …


يتبع…








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نهال عنبر ترد على شائعة اعتزالها الفن: سأظل فى التمثيل لآخر


.. أول ظهور للفنان أحمد عبد العزيز مع شاب ذوى الهمم صاحب واقعة




.. منهم رانيا يوسف وناهد السباعي.. أفلام من قلب غزة تُبــ ــكي


.. اومرحبا يعيد إحياء الموروث الموسيقي الصحراوي بحلة معاصرة




.. فيلم -شقو- بطولة عمرو يوسف يحصد 916 ألف جنيه آخر ليلة عرض با