الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سورة يوسف جمالية الأداء اللغوي وعلمية الطرح الفكري ح1

عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني

(Abbas Ali Al Ali)

2022 / 9 / 16
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


تنفرد سورة يوسف بجمالية خاصة في البناء السردي ليس من ناحية الشكل ولكن أيضا من ناحية البناء الوصفي واستخدام الإيحاءات اللغوية المعبرة عن مفاهيم محددة، دون أن تضع القارئ والمتدبر في إشكالية البلاغة وأجانسها وفنونها، لقد جاءت الصياغات فكرية عقلية بأسلوب قصصي فريد يجمع بين جزالة اللفظ وفخامة المعنى، مع إقصار متعمد بمفردات البناء اللفظي دون إخلال بالهدف ولا تضييع للدلالات، وقد جاءت منذ بداية سرد القصة بمقدمات لا تنفصل عن القصة وترتبط بالنهاية ،وكأن السورة تعرض لنا فلما سينمائيا حديثا كامل المواصفات الفنية التي تجعله أقرب قريبا من الواقع المعاش، بدأت القصة بذكر رمز كمفتاح يعبر عن أن هناك ما يلفت النظر بعيدا عن معنى الرمز (الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ)، فالرمز هنا مشروح بالنص ويعود عليه كمفتاح بداية لآيات الكتاب وليس منفصلا عنها، ولتكون الرواية كلها بجميع تفاصيلها وأحداثها رمز تجسيدي لصراع الخير والشر، الصراع الأولي الأبدي الوجودي وتعطي عنوان يبعد النص مع حضورية الزمان والمكان، لكنه أيضا يعرض الحال خارجهما ليقول لنا أن الحكاية هي خارج مدى ما تدور في أجواءه القصة كلها.
هذه الرمزية المقصودة تشير إلى أن القادم من السرد والبناء اللفظي لا يخرج عن كونه جولة في تفكير وتعقل الإنسان وهو يمارس وجوده من خلال عالمين، عالم الواقع المعلوم والمكتشف وعالم الغيب الذي سيظهره عقل الإنسان لاحقا معتمدا على حقائق العالم الأول، وكيف أن كل منهم له تأثير محوري على الأخر من خلال الربط والمقاربة العقلية والإيمانية بين الرموز والدلالات المذكورة في ثنايا القصة، وأن على الإنسان أن يربط بين الدلالات مهما كانت صغيرة لأنها بالنهاية هي كل من مجموع متفرق لكنه متسق ويسير على طريقة واحدة.
فالكون كله عبارة عن ربط أجزاء صغيرة لتشكل عالما أخر لا ينتمي للصغير والكبير ولكن ينتمي للتجمع والتراكم والتنسيق، أو مثل جبل رهيب هو في الحقيقية عبارة عن ذرات من الرمال والحجر والطين وأشياء أخرى تجمعت فصارت هذا الكيان العظيم، من النص نرى جماليات الأداء الفتي اللغوي بطريقة هادئة شفافة تخبر عن عالم مرئي لفرد ليكون رؤية لعالم أكبر وأوسع وسيغير من التفاصيل بالواقع نحو الخلاصة من الرؤيا وهي السجود لأمر الله (إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ)، لكن ما يجعل من الخبر به دلالة إيحائية تخالف إيمان يوسف وبعقوب هو قول "ساجدين لي"، السؤال هل كان ذلك إشارة لفعل ماضي يتصل بمبدأ الخروج والنزول من الجنة عندما أمر الله الملائكة أن تسجد لأدم ولم يأمرهم بالسجود له؟ أم أن المعنى المكتنز هنا يعود للسجود بمعنى الخضوع المستقبلي له بأعتباره موعودا به، على كل حال فالأمرين ممكنين من ناحية التدبر ولا خلاف بينهما، هذا الخبر سيكون كل محور السرد ومحور الدلالة أيضا للتفريق بين مفهوم الرؤية ومفهوم الحلم بين الواقع المتخيل وبين الخيال المتوقع، بين أن تكون حقيقة وعلم وبين أن تكون مجرد خيالات بأثر نفسي حسي غير منضبط (قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلامِ بِعَالِمِينَ).
بعد هذه المقدمة التي ساقها النص يبدأ التقديم للقصة من خلال عنوان غيبي وكأن الغيب يقرأ والحاضر يستجيب، هنا يتوهم قليل الخبرة والدراية بالنص القرآني وكيفية تعامله مع سرديات مماثلة ويقع في عشق التتابع ويبتعد عن روح وجوهر الغائية منها أصلا، ليتابع القصة من خلال البطل يوسف ويتعاطف معه بالمأساة والملهاة وصور الغرام التي يعرضها النص بإيجاز شديد، ولكن بعرض كامل للواعج الإنسانية حين يقرر الإنسان أن يمنح روحه حرية التمرد على الواقع، بمقابل قوة الإرادة التي تناهض التمرد وتنحاز لحدود الخلق الإنساني المراقب للغيب، وليس الغيب المراقب كشعور تحرزي قائم على مجرد الخوف من السلطة القائمة، فالخلق الإنساني الذي يستشعر في داخله وظيفة المراقبة الذاتية على السلوكيات والأفكار والأعمال سيؤتي ثماره بمسمى التقوى (ومن يتق الله يجعل له مخرجا)، هنا يكون المراقب ليس الخوف المجرد الخوف المادي من العقوبة، لكنه الخوف الإصلاحي المستبق الوقوع في الخطأ والخطيئة (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ).
الجميل والفريد في الطراز من السرد هو حرصه على الجمع بين التفاصيل الصغيرة وبين إطار الكبريات التي تؤسس للمعنى، فلم يهمل النص مثلا تحديد شكل المكان ولا طريقة الأداء ولا إلى ما يشير فيه لسلسلة من الأحداث التي تتابع في المشهد، وربط هذا كله بالغاية التي يريدها ان تصل (وَجَاؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ) و (أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا) وأيضا (ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ)، هذه المفردات التفصيلية تقدم لوحة بانوراميه متعددة الوظائف والزوايا في الرؤية المتكاملة من جميع جوانبها، وبفنون الدقة والجمال في البناء توحي للقارئ أنه أمام عناصر تشويق أخاذة تسلبه من الواقع ليعيش عصر الأحداث وكأنه جزء من الحدث، هذا التشويق قد لا تتناسب مع نص يمتاز بالجدية والقداسة والإحكام عند البعض الذين يرون في النص الديني مجرد عصا من أدوات القمع التي يستخدمه الله مع الإنسان، لكن الذين لا يعرفوا منهج السرد في كتاب الله لا يفهمون من أن القرآن الكريم يتعامل مع عقول يراد لها التفاعل والإنتاج، وليس فقط تعبئة القصة ثم تحويلها إلى مفردات عباديه .
الميزة الإبداعية في النص هنا قدرته على حمل الكثير من المعاني والدلالات بالقليل والجميل من الهيكل البنائي للنص دون إطناب أو حتى ما هو طبيعي في السرد الأدبي، يختصر النص مثلا قصة أخرى تجري داخل القصة الأم ويربطها بسلسلة الدلالات من خلال بعض الكلمات، ليكون ما يسمى الصورة المجمعة وعبر مهارة فائقة لا يمكن أن نتلمسها في بنائيات لغوية أخرى مشابهة، لاحظ القصة الفرعية في نسيج القصة الأصل حينما (وَجَاؤُواْ أَبَاهُمْ عِشَاء يَبْكُونَ)، دلالاتها واسعة لتعطي حدث أخر كبير أيضا ولكن بكم قليل من المفردات، نعم مارس الناص التكثيف بأعلى درجة فهي مضغوطة هذه القصة للحد الذي لا يفقدها الربط الكامل لمضمونها مع مضمون السياق السردي العام، وسنرى من خلالها كيف لخصت محمل الحدث الذي أسس فيما بعد لأصل القصة، إنها مهارة تعميق النصر والرؤية من خلال العمق لنرى أيضا عمق الدلالات التي ستتلاحق نتيجة هذه القصة بالذات، حتى نصل المفصلية التي ستكون المحور الأهم بالقصة لاحقا كنتيجة للقصة المقدمة (وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ) ... هذا الترابط بين الأحداث بهذا الاختصار الفني ومن ضمن حبكة درامية قليلا ما نجدها تتوفر في نصوص أدبية مقاربة لها تأريخا وحتى أيضا الكثير من النصوص التي يعتقد أنها دينية.
نعود إلى النسقية السردية التي سخرها النص لخدمة الهدف وصاغها بجمالية تساعد القارئ على الاندماج والتفاعل من خلال صيغة الجملة ذاتها، فهو أعتمد الرمز ليبوح بالحقيقة وبنفس الوقت هناك جمل تبوح بالسر والحقيقة ولكنها تقصد الرمزية المتناغمة مع خلط الغيب بالحاضر والحاضر بالمستقبل، لنتأمل هذه النصوص الجميلة (إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ)، الرؤية هنا حقيقية وليست حلما وإلا لكان النص صرح أن يوسف كان في منام، بل مؤكد الدلالة على أن يوسف وأبيه على خط واحد من الفهم بمعنى الرؤيا المشاهدة الواقع المرموز بحكايات لن تلد بعد، هذه الجمالية بالتفريق بين عالم الأحلام التي لا تعدو أن تكون أضغاث وبين الرؤية التي هي خروج من عالم الزمن الآن إلى عالم الزمن الحقيقة، في حالة عبور للواقع المحدد بالزمان والمكان والذي صرح به يوسف لأبيه عبور الرؤيا الإيحائية المنبه للمستقبل على أنه قدر وتهيئة وإعداد لأمر لاحق.
في موضع جمالي أخر تأمل معي أيضا نصا زاهيا بالفن القصصي المترف بتناغم بين رقة الإحساس وعنف الحدث أخر (وَاسْتَبَقَا الْبَابَ)، تعبير في غاية الدقة في تحديد مسار الحدث أستبقا ولم يقل سارع فالموضوع ليس منه وحده فقط بل من الطرفين يحاول كل منهم أن يسلف الأخر، وكأن هناك حالة من اللا متوقع من يوسف فسارع مسابقا سيدة القصر التي همت به، وتحديد عن أنتهاء المسابقة التي حدودها باب المكان حدث اللا متوقع (وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ)، هذا اللا متوقع أنها أستعملت العنف بعد فشل ما نوت عليه من رغبة جامحة، لتتفاجأ هي وليس يوسف بأمر أخر وإن كان الحدث مر صعبا على الأثنين (وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ)، هنا النص جاء بالواقع ليرمز للحقيقة التي ستنكشف لاحقا من خلال كيفية القد، النص ثري جدا ولكنه في حروف معدودة يجعل القارئ في سياحة حقيقة في جنة الجمال البلاغي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الشيف عمر.. طريقة أشهى ا?كلات يوم الجمعة من كبسة ومندي وبريا


.. المغرب.. تطبيق -المعقول- للزواج يثير جدلا واسعا




.. حزب الله ينفي تصريحات وزير الدفاع الإسرائيلي بالقضاء على نصف


.. بودكاست بداية الحكاية: قصة التوقيت الصيفي وحب الحشرات




.. وزارة الدفاع الأميركية تعلن بدء تشييد رصيف بحري قبالة قطاع غ