الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ظاهرة العنف وأزمة الثقافات الفرعية

ثامر عباس

2022 / 9 / 17
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


ليس غريبا"القول أن ظاهرة العدوان واستخدام العنف في المجتمعات البشرية قديمة قدم الإنسان ذاته ؛ فهي لصيقة بطبيعة وجوده ، وشاهد على اعتلال بيئته واختلال علاقاته ، ودليلا"على قصور وعيه وانتكاس أعرافه ، ومؤشرا"على تقهقر معاييره وانحراف قيمه . ولكنه ، وبرغم ذلك ورغما"عنه ، ما أن يدلف إلى حظيرة الاجتماع الإنساني ليلجم نوازعه وينظم علاقاته من جهة ، ويضع أولى خطواته على سلّم الحضارة ويلج عوالمها المتنوعة ويستبطن فضائلها المتعددة من جهة أخرى ، حتى يشرع بتشذيب أنماط سلوكه ، وتقويم معايير أخلاقه ، ويهتم بتلطيف حدة طباعه ، ويميل ، من ثم ، إلى الكفّ عن التطرف في ضروب الفكر والامتناع عن العنف في ميادين الواقع . بيد أن الغريب في هذه المسألة حقا"، هو أن يتحول العنف إلى واقعة مستديمة تتحكم بآفاق مصيره وتقرر مآل خياراته ، الأمر الذي يتطلب البحث عن جذور تلك الظاهرة ، ويستقصي عوامل تكوينها في المجتمعات المأزومة سياسيا"والمخترقة حضاريا"؛ لا في إطار الأوضاع القائمة والظروف الراهنة فحسب ، التي قد توحي بأنها المسؤولة عن اندلاع تلك النزعات وانفلات زمامها وتفاقم ميولها ، وإنما بالتنقيب عن بواعثها الاجتماعية المضمرة ، والحفر في طبقاتها النفسية المخفية ، والكشف عن ملابساتها السياسية المتقادمة . ذلك لأن (( العنف – كما يؤكد أحد علماء الاجتماع الغربيين- يقوم حيثما تخضع القيم والأهداف التي تخص فردا"أو جماعة ، والتي تنطوي على معنى عام كلي ، لقمع يمارسه حيالها فردا"آخر أو جماعة أخرى . وفي حال حدوث عنف ظاهر ، واضطرابات اجتماعية أو ثورة ، يجدر بنا أن نتساءل ما هي مجموعة القيم ، وما هو النظام الثقافي الذي عانى من القمع طوال هذه المدة ، حتى لم يعد يجد من سبيل للتعبير عن ذاته إلاّ الثورة ))(1) .
ولا ريب فقد اجتهدت العديد من النظريات النفسية والفلسفات الاجتماعية ، في تفسير هذه الظاهرة لجهة حصر أسبابها وتقنين منطلقاتها ، بحيث ذهب البعض منها إلى الزعم بان ارتباط العنف بالإنسان هو من باب ارتباط العلة بالمعلول ،على اعتبار إن السلوك العدواني هو منزع بيولوجي مقرر في طبيعة الكائن الاجتماعي . هذا ما تؤكده ، على سبيل المثال لا الحصر ، نظرية (التحليل النفسي) بصيغتها الفرويدية من خلال تمسكها بالأطروحة القائلة : إن العدوانية ليست أمرا"عارضا" أو طارئا"ينتاب المرء ضمن مرحلة من مراحل سيرورته الاجتماعية ، لا يلبث أن يتخطاه ويتجاوز آثاره فيما هو يدلف حقبة أطواره الحضارية ، إنما هي ركن أساسي ومقوم بنيوي من مقومات كينونته الانطولوجية . هذا في حين تعتقد بعض النظريات الأخرى ؛ إن ظاهرة العنف المصاحبة للإنسان والممسكة بتلابيبه ، تشكل قرينة رمزية لا يصعب إدراكها على تفاقم أزماته الحضارية ، مثلما يمكن اعتبارها أحد أوجه محاولاته للتغلب على معاناة استلابه القيمي ، والإفلات من دوامات اغترابه الاجتماعي . وقد عبر عن هذا التوجه أحد أشياع النظرية السوسيولوجية (تونيز) حين كتب يقول (( طالما إن كل شخص يبحث في المجتمع عن فائدته ، ويجاري الآخرين إلى المدى والوقت الذي يبحثون فيه مثله عن نفس الفوائد ، فان علاقة الكل بالكل ، فوق ووراء الاتفاق يمكن اعتبارها عداوة مقنعة أو حرب مستترة ))(2) .
وبصر النظر عن القيمة العلمية لتلك الطروحات ومتانة الأسس المنهجية التي تقوم عليها وتنطلق منها ، في رصد مقومات ظاهرة العنف وتحليل أنماطها ، فإنها ستجانب الصواب وتنأى عن السداد إن هي أهدرت حقيقة الاختلاف النوعي بين المجتمعات ، وتجاهلت واقعة التفاوت الحضاري بين الأمم . الشيء الذي يستلزم التروي في صياغة الأحكام الجازمة ، والحذر من إطلاق التعميمات القطعية ، حيال البحث عن بداهات نشوء تلك الظاهرة وتعيين منطلقات تكوينها ، فضلا"عن استخلاص الكيفيات المسؤولة عن تبلور عناصرها وانبعاث ملامحها ،عبر تشققات كيان المجتمع المعني وتمزقات وحدة نسيجه . صحيح أنها (=ظاهرة العنف) من حيث المبدأ أضحت تشكل القاسم المشترك لمعظم شعوب العالم ، بمختلف أصولها وتباين أعراقها وتنوع ثقافاتها وتعدد أديانها ، إلاّ إن مغزى دوافعها وزخم انفلاتها وشدة وطأتها ، تتفاوت من بلد لآخر ومن مجتمع لآخر ، لا بل إن شدة إيقاعها لا تلبث أن تتغير من فترة لأخرى ضمن البلد الواحد وفي المجتمع نفسه .
فتعاطي الإنسان الغربي ،على سبيل المثال لا الحصر ، مع ظاهرة العنف إبان فترة وقوعه تحت طائلة المنافسات الاقتصادية الضارية ، وانخراطه في أتون الصراعات السياسية الشرسة ، وانهماكه في دوامة الحروب الدينية القاسية ، لا تشبه في شيء إجراءات تعاطيه لذات الظاهرة في مراحل لاحقة ، لاسيما بعدما بلغ مستوى الإشباع المادي لحاجاته ، وتخطى عتبة النضوج الفكري لطموحاته . وحقق ، بالإضافة لذلك ، حالة من التوازن السياسي والاستقرار الأمني والتعايش الاجتماعي ، بفعل جملة من الشروط الذاتية والتوافقات الموضوعية – ليست هذه الدراسة محل تناولها - بحيث إن بوصلة اهتماماته تحولت صوب البحث عن السبل القمينة بالإبقاء على مستوى رخائه الاقتصادي ، والمحافظة على وتيرة تطوره الاجتماعي ، والثبات على سياق رقيه الحضاري .
ولهذا فان أي تغيير يطرأ على تلك الأوضاع ويطال تلك المستويات ، سرعان ما يعتبر بمثابة الصاعق الذي لا يلبث أن يفجر بواعث قلقه ويضاعف وساوس مخاوفه ، ويصعّد بالتالي محفزات تعاطيه للعنف ويسوغ مبررات انخراطه في العدوان . هذا في حين نجد ، بالمقابل ، إن مظاهر التعصب القومي والتطرف الديني ، التي تجتاح وجود الإنسان في المجتمعات الموصوفة بالتخلف الاجتماعي والممهورة بالطغيان السياسي ، ناهيك عما يتمخض عنها ويترتب عليها من استشراء نوازع العنف ودوافع العدوان ، تتغذى من مصادر أخرى وتمتح من أصول مغايرة ، لا تمت بصلة لتلك التي ألفيناها تحرك كوامن الظاهرة وتدير دفة اتجاهاتها في المجتمعات الغربية المتقدمة . إذ إن طبيعة النظم السياسية الحاكمة ، ونمط العلاقات الاجتماعية القائمة ، وشكل البنى الحضارية السائدة ، ومحتوى القواعد الأخلاقية الفاعلة ، وقيمة الرموز العرفية المهيمنة ، لا تفترض فقط حصول الاختلاف في نوع المدخلات القيمية المسؤولة عن ضبط العلاقة بين التوافق النفسي والتكامل الاجتماعي ، على صعيد (الذات – الأنا) لكل منهما فحسب ، وإنما تستوجب وقوع التعارض في نمط المخرجات السلوكية الموكول إليها تحقيق التوازن وبلوغ التكافؤ على مستوى الندية مع (الآخر – الأنت) كذلك .
وعلى هذا الأساس ، وبقدر ما يكون للعنف من أسباب ظاهرة مختلفة ودوافع خفية متباينة ، بقدر ما تكون الأوجه التي يتمظهر بها متنوعة ، والمسالك التي يتسرب منها متعددة . وإذا كان الإنسان في المجتمعات المتقدمة ، يمتلك آليات سياسية مشروعة ، ويمارس فعاليات اجتماعية متحضرة ، يستطيع من خلالها التعبير عما يشعر به من هموم ويطرح ما يعانيه من مشاكل ، الأمر الذي تتيح له (= الآليات والفعاليات) فرصة المشاركة في استخلاص أشكال خياراته ، واستنباط أنواع تطلعاته ، ورسم معالم مستقبله ، ضمن أطار دولة يحكمها القانون وتؤطرها المؤسسات ، قادرة على استيعاب إرهاصات الثقافات الفرعية ، واستدماج خصائصها في بوتقة الثقافة الوطنية الشاملة والموحدة ، حيث تنتفي الحساسيات العرقية وتختفي الصراعات الطائفية . نعم قد تندلع هنا أو هناك بعض مظاهر العنف على خلفية الأحقاد الاثنية أو الضغائن الدينية ، بيد أن ذلك يحصل من باب الاستثناء وليس القاعدة ، كما هو الشأن في المجتمعات المتخلفة ، التي أمسى تعاطي القوة في أوساطها ليس شائعا"فقط بل ومسوّغ أيضا"، حيث لغة العنف هي المفضلة وعرف العدوان هو السائد .
ففي هذا الشطر من المجتمعات القابعة خلف التاريخ والزاهدة بمعطيات الحضارة ، تنقلب معالم الصور وتختلف معايير التصور ؛ حيث مضاعفات الطغيان السياسي دائمة ، ومخلفات الحرمان الاقتصادي مزمنة ، وتداعيات القهر الاجتماعي متواصلة ، وترسبات الكبت النفسي مستمرة ، وتركات الجدب الثقافي متطاولة . كل هذه المساوئ وغيرها الكثير تركت بصماتها وحفرت آثارها في بنى هذه المجتمعات ، بحيث نخرت أسسها المادية وقوضت دعائمها المعنوية ، الشيء الذي أفضى – دائما"وفي مطلق الأحوال – إلى استدراج دوافع العنف واستدعاء مبررات العدوان . ذلك لأن الظروف في مثل هذه الأجواء الملبدة والأوضاع المكفهرة ، تغدو مؤاتية لكي تعم الفوضى ويستشري الفساد في جميع مفاصل الدولة ومجمل قطاعات المجتمع ، بعدما يتم تغييب القانون الوضعي وتعليق الشرعية الدستورية من جهة ، وتخصيب نوازع الشخصنة للثوابت الوطنية ، وازدراء القيم الاجتماعية ونبذ المعايير الأخلاقية من جهة أخرى . كل ذلك على خلفية جملة من الأساليب والممارسات التي من أبرزها ؛ إن وسائل الإعلام الرسمية ومؤسسات الرأي العام تتحول من أداة لتنوير الوعي وتثوير الواقع ، فضلا"عن إشاعة الروح المواطنة وتربية حسّ المسؤولية الوطنية ، إلى مجرد مواخير تعمية وإفساد تمارس من خلالها عمليات غسل أدمغة المواطنين بالترهات ، وتسطيح وعيهم بالخرافات ، وشلّ إرادتهم بالممنوعات ، واخصاء شخصيتهم بالمحرمات .
وحيث لا عاصم من بطش السلطة المستبدة وطغيانها الأمني ، ولا رادع لإرهاب الدولة الشمولية وجبروتها البوليسي ، ناهيك عن شباك ومصائد علاقات الاستزلام والاستتباع ، التي تحاصر الفرد وتضيّق الخناق عليه في كل مفردة من مفردات حياته الخاصة والعامة . فانه لا حيلة له ولا خيار أمامه إزاء مجابهة فلتان مقومات الحاضر ومجهولية مكونات المستقبل ، بعد أن فقد غطاء القانون وجرّد من حماية الدولة وأقصي عن ولاء الوطن ، سوى اللجوء إلى سواتر ثقافاته الفرعية (العنصرية والطائفية) ، والانكفاء إلى قواعد علاقاته الأولية (الأسرية والقبلية) ، يطلب منها الحماية وينشد فيها الأمان ويجد لديها الكرامة ، وهنا إذاك تكمن المفارقة والمأساة معا". ولما كان المجتمع المتخلف – في الغالب – متأزم سياسيا"ومتصدع اجتماعيا"ومعبأ إيديولوجيا"ومحتقن نفسيا"، فان ذلك يجعله عرضة مستمرة لانهيار أمنه الشخصي وتداعي استقراره العائلي ، ويصبح ، تبعا"لذلك ، بمثابة حقل خصب لتفريخ الفتن بين (الملل والنحل) ومضمار واسع لتصفية الحسابات بين (الجماعات والكتل) . وهذا ما لاحظه أستاذ علم النفس (مصطفى حجازي) حينما وصف ذلك بالقول (( يبقى المجتمع المتخلف يضجّ بالعنف ، يمارس على إنسانه ويصدر عنه في آن معا"، حتى في أكثر المظاهر سكونا"ودعة واستسلاما" ))(3) .

وفي ظل غياب الثقافة الوطنية الشاملة ، وانعدام الثوابت الرمزية الموحدة ، وخشية الاضطهاد السياسي والتهميش الاجتماعي والإقصاء العرقي والاستبعاد الطائفي ، يعمد كل فريق سياسي أو طرف جماعي إلى استنفار مخزون ثقافاته الفرعية ، واستحضار رصيد مواريثه القبلية ، واستصراخ حميات ولاءاته الجهوية ، بغية الانكفاء إليها الاحتماء فيها والاتكاء عليها ، ساعيا"من وراء ذلك إلى تغليب مصالحه الآنية وفرض وجهة نظره الجزئية وترويج قيمه التحتية ، والمواظبة ، من ثم ، على توسيع دائرة نفوذه ونشر مضمون أفكاره وترسيخ سلطان معتقداته . نقول انه في مثل هذه المعطيات والتداعيات فان ديناميات اشتغال الثقافات الفرعية (العنصرية والطائفية والعشائرية) ، تتحول من وظيفة شدّ لحمة المجتمع ولملمت شعثه ورأب صدوعه وترميم تشققاته ، إلى عوامل أساسية في تعميق الخلافات بين مكوناته ، وتأكيد التمايزات بين عناصره ، وتأجيج الصراعات بين جماعات ، وترسيخ الانقسام بين ذاكراته ، وتعميم العدوات بين هوياته . وفي سياق الولاء القائم على العجز والخضوع – كما يستنتج الباحث (هشام شرابي) – (( يبدو جليا"أنه لا يمكن تصور فكرة العقد الاجتماعي .. ولأن المعارضة الشرعية غير ممكنة ، فان التآمر والتمرد يصبحان البديلين الوحيدين . وعلى نحو مماثل فحين يحضر النقاش العلني ، فان التآمر والعنف هما الشكل الباقي للإقناع ))(4) .
وهكذا فان أزمة المجتمع المتخلف ، لا تخرج عن كونها انعكاسا"لأزمة ثقافاته الفرعية ، وقصور ولاءاته الأولية ، وانتكاس انتماءاته الهامشية ، والتي لا تشرأب رموزها وتتوثب أعرافها وتنثال قيمها وتسلل عاداتها ، إلاّ على أشلاء الثوابت الوطنية للدولة ، ونفي الخصائص المعيارية للمجتمع . ولكي تتجاوز الأولى عوامل ضعفها ومحنة تفككها ، ويتخطى الثاني عواقب أزمته وينهض من حطام كبوته ويستأنف خطى مسيرته ، لابد أن تستعيد الثقافة الوطنية الموحدة عافيتها وتتمكن من بسط سلطانها ، ليس فقط على المستوى المادي المتمثل بالإطار الجغرافي / السيادي فحسب ، وإنما – وهو الأهم في اعتقادنا المتواضع – على المستوى الاعتباري / الرمزي ، لكي تترسب بين تضاعيف الوعي الفردي ، وتترسخ داخل أروقة المخيال الجمعي على حدّ سواء .


الهوامش

1. قيليب برونو ؛ العنف وعلم الاجتماع ، ضمن المؤلف الجماعي ؛ المجتمع والعنف ، ترجمة الأب الياس زحلاوي والأستاذ أنطوان مقدسي ، ( بيروت ، المؤسسة الجامعية للدراسات / مجد ، 1985 ) ، ص86 .
2. المصدر ذاته ؛
3. الدكتور مصطفى حجازي ؛ التخلف الاجتماعي : سيكولوجية الإنسان المقهور ، ( بيروت ، معهد الإنماء العربي ، 1976 ) ، ص255 .
4. الدكتور هشام شرابي ؛ النظام الأبوي وإشكالية تخلف المجتمع العربي ، ( بيروت ، مركز دراسات الوحدة العربية ، 1993 ) ، ط2 ، ص65 .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. خامنئي و الرئيس الإيراني .. من يسيطر فعليا على الدولة؟ | الأ


.. مناظرة بايدن-ترامب .. ما الدروس المستخلصة ؟ • فرانس 24 / FRA




.. #فرنسا...إلى أين؟ | #سوشال_سكاي


.. المناظرة الأولى بين بايدن وترامب.. الديمقراطيون الخاسر الأكب




.. خامنئي يدعو الإيرانيين لمشاركة أكبر بالانتخابات | #غرفة_الأخ