الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مفهوم العنف الاجتماعي : دلالاته وأشكال تجليه

ثامر عباس

2022 / 9 / 18
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


مفهوم العنف الاجتماعي – دلالاته وأشكال تجليه
المقدمة
لعل من نافل القول إن أبرز ما يمكن أن يواجهه الكتاب والباحثين - لاسيما المتخصصين منهم بالحقول الاجتماعية والإنسانية - أثناء شروعهم بالكتابة عن موضوع معين ، هي جملة الصعوبات المعرفية الجمة والمعوقات المنهجية الشائكة المتعلقة بقدرتهم على ضبط المفاهيم وتقنين المصطلحات المستخدمة ، فضلا"عن سلامة توظيفها ودقة استثمارها في إطار نصوصهم وخطاباتهم ، حيث يراد لها أن تكون بمثابة مجسات استشعار لمسالك بحوثهم وتوجهات دراساتهم وسط غابة متشابكة من المعاني والدلالات ، وخصوصا"حين يتعلق الأمر بالمواضيع ذات الشأن بالعلوم الاجتماعية أو الإنسانية كما هو معروف لغالبية الكتاب والباحثين .
وعلى الرغم من أن تلك المفاهيم والمصطلحات قد نالت – بعد التشذيب والتهذيب – شرعيتها المعرفية وصلاحيتها السوسيولوجية ، وحظيت من ثم بإجماع العاملين في الحقول ذات الشأن الإنساني من خلال تصديهم ومقارعتهم للظواهر الاجتماعية المتنوعة ، إلاّ أنها ستبقى دائما"محط اختلاف في المنظورات وتباين في وجهات النظر ، ليس فقط لأنها تهتم بتحليل وتاويل ظواهر ذات طبيعة جدلية متغيرة ومتطورة فحسب ، بل وكذلك لتعدد المنطلقات الفكرية وتنوع المشارب الإيديولوجية وتغاير الاهتمامات الاجتماعية للمتخصصين في مثل هذه الميادين والمضامير المعرفية .
وعلى هذا الأساس فان السلوك العدواني الذي يكاد يخترق كل جزئية في حياة الإنسان كما لو أنه خاصية في طبيعته ومكوّن في جبلته ، لا ينظر إليه من قبل (الجلاد) و(الضحية) بنفس المعنى والدلالة التي يعطيها كليهما لهذا النمط من السلوك العنيف . مثلما إن نزعة (التطرف) الديني أو (التعصب) القومي التي تمارسها جماعة ضد أخرى كما هو شائع في المجتمعات المتخلفة التي لم تبلغ بعد طور الكيانات الحضارية المستقرة ، لا تحمل ذات الأبعاد السياسية والأخلاقية التي تفرضها وتسوغها بين كلا الجماعتين المتنازعتين . وبنفس المعنى فان (الإكراه) الذي تمارسه الدولة ضد المجتمع لا يثير نفس الانطباعات والتمثلات بين دولة تنتهج النظام الديمقراطي وبين تلك التي تتصرف بوحي من نزوعها التوتاليتاري . وهو الأمر الذي دفع ببعض الباحثين للتحذير من مغبة التسرع في صياغة تعاريف قطعية ونهائية لمفهوم يمتاز بالسيولة وانعدام الثبات كالعنف ، حيث (( سيكون من قبيل الوهم السعي إلى تقديم تعريف عن العنف ، وهو بمصطلحه الفرنسي (Vioience) يرجع إلى جذر لاتيني يحيل إلى مجموعة متعددة من المعاني : التواء ، لولب ، التفاف ، ثقب (...) يشير جان لوكا (Jean Leca) إلى أنه لا يمكن أن نفهم العنف كمتغير تابع (مسبّب) – بالفتح - ولا كمتغير مستقل (مسبّب) – بالكسر - ، ولا (كوظيفة) أو ثقافة ، ولا كسلسلة أطلقها طرف (هو البادئ) ، بل كعنصر في أنظمة عمل متعددة حيث يمكن ، بحسب الحالات الملموسة والأسئلة المطروحة ، تفكيك العنف إلى حالات عنف ))(24) .
هذا وقد أشار من جانبه الباحث المصري (حسنين توفيق إبراهيم) ضمن دراسته الممتازة لظاهرة العنف السياسي في النظم العربية ، إلى طبيعة الصعوبات الناجمة عن محاولة إيجاد تعريف جامع ومانع لمفهوم العنف حين كتب مستعرضا"يقول (( تعدّ مشكلة التعريف بالمفاهيم وتحديدها من المشكلات الأساسية في التحليل السياسي ، بل والتحليل الاجتماعي بصفة عامة . إذ تتعدد وتتداخل التعريفات للمفهوم الواحد ، الأمر الذي يخلق قدرا"من الاضطراب واللبس عند استعمال مثل هذه المفاهيم . ويرجع عدم الاتفاق حول تعريف المفاهيم في العلوم الاجتماعية وتحديدها إلى عدة اعتبارات منها : أن الظواهر الدالة عليها تتسم بالعمومية والتعقيد وتعدد الأبعاد . كما أن المفاهيم تعتبر نتاجا"لخبرة اجتماعية مشتركة . ولما كانت خبرات الأفراد والجماعات تختلف من حيث الزمان والمكان ، فان ذلك ينعكس على معاني المفاهيم واستخداماتها . ولذلك فان استخدام مفاهيم معينة ، أو فهمها بدلالات ومعان محددة ، إنما يعكس في حدّ ذاته تفضيلات وانحيازات وثيقة الصلة بخبرة الجماعة .
وبالإضافة إلى ما سبق ، فان المفاهيم الاجتماعية ليست جامدة أو ثابتة ، بل أغلبها يتغير مع مرور الزمن وتغير الظروف والبيئات ، وقد تختفي أو تندثر مفاهيم قديمة وتظهر مفاهيم أخرى جديدة تؤدي وظيفتها . وقد يتخذ المفهوم نفسه معاني مختلفة من فترة زمنية إلى أخرى ، ومن بيئة اجتماعية وثقافية إلى أخرى... ولا يختلف مفهوما العنف والعنف السياسي عن غيرهما من المفاهيم الاجتماعية ، إذ تتعدد وتتداخل تعريفات كل منهما . وذلك نظرا"لاتسام ظاهرة العنف بالتعقيد والتداخل ، وتعدد صور العنف وأشكاله ، وتتنوع دوافعه وأسبابه ، وتتعدد مستويات ممارسته . كما أن للظاهرة أبعادها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والنفسية . وبالإضافة إلى هذا ، فانه ليس هماك اتفاق بين الباحثين حول التعريف الإجرائي للمفهوم ، إذ تتعدد المؤشرات التي يطرحونها له ))(25) .
على أن غموض مفهوم من المفاهيم أو صعوبة تحديد مصطلح من المصطلحات ، لا ينبغي أن تحول دون الاستئناس بما قدمته المعاجم والقواميس ، فضلا"عما صدر من قبل المفكرين والباحثين المتخصصين في هذه المجالات ، من تعاريف مختصرة وشروحات موجزة لتسهيل عمليات البحث وتوضيح مسارات الدراسة في مضامير العلوم الاجتماعية والإنسانية ، وخصوصا"بالنسبة لمفهوم (العنف) وما يرتبط به وينسب إليه من مفاهيم توحي بنفس المعنى الذي يتضمنه وتشي بذات الدلالة التي يحملها . لاسيما وان جميع تلك المفاهيم أو المصطلحات المتواترة تستهدف غاية واحدة وتروم هدف مشترك ، ألا وهو إيقاع الأذى وإلحاق الضرر الجسدي أو النفسي بالإنسان فردا"كان أم جماعة ، ومن ثم كسر إرادته وتحطيم معنوياته وتبخيس كرامته .

ولتلافي مثل هذه الصعوبات والإشكاليات التي من المرجح أنها ستواجهنا ونحن نشرع في محاولة استخلاص تعريف مناسب لمفهوم العنف وما قد يوحي به ويشير إليه، فقد آثرنا انتقاء بعضا"من تلك المفاهيم التي نرى أنها تحايثه في المعنى وتوازيه في الدلالة ، لكي يتسنى لنا استخدامه كأداة في التحليل واعتماده كمرجع في الإسناد . وعلى الرغم من اعتقاد البعض من إن مفهوم العنف واضح المقصد وبائن الدلالة ، بحيث لن يحتاج المرء إلى الكثير من البحث والاستقصاء لمعرفة مضمونه والكشف عن ماهيته ، إلاّ إن هناك بعضا"آخر يرى إن مفهوم العنف من سعة التوظيف وتنوع الاستخدام واختلاف المقاصد ، بات من الصعوبة بمكان ضبطه في تعريف واحد وصبّه في قالب جامع يمكن الركون إلى معناه والاطمئنان إلى دلالته . إذ (( يلف مفهوم العنف لبس كبير ومرد ذلك إلى تعدد صوره وتناميها الكبير بفعل تطور وسائل ممارسته ؛ حيث لا ينحصر العنف في الفعل أو السلوك المادي الذي يحمل في طياته شحنة إيذاء أو تدمير ، بقدر ما انه يشمل كل سلوك ماديا"كان أم رمزيا"، لفظيا"أو إيحائيا"، مباشرا"أو غير مباشر ، يستعمله فرد ضد آخر أو جماعة ضد أخرى ))(26).

ولأجل ذلك فقد استلزمنا الأمر أن نقوم بجردة سريعة ومقتضبة لأبرز المفاهيم والمصطلحات التي يقود مآلها ويوحي مضمونها بواقعة العنف الاجتماعي سواء منه الظاهر أو المضمر ، وما قد يقع في مضمارها من تصورات محايثة وسلوكيات مقاربة . وهنا لابد من أن نسارع إلى القول ؛ إننا لم نعمد في سعينا لذكر هذه الباقة من المفاهيم إلى مراعاة تسلسل أولوياتها وتدرج أهميتها ، لجهة ما تحمله من انطباعات ذهنية وما تعكسه من شحنات انفعالية ، كما لم نعتزم تقديم جردة كاملة بكل المفاهيم والمصطلحات التي لها علاقة – بهذا القدر أو ذاك – بظاهرة العنف وما تنطوي عليه من معاني ودلالات ، الأمر الذي يتخطى حدود هذه الدراسة المبتسرة ويخرج عن اهتماماتها المتواضعة .
ولعدم إرهاق القارئ الباحث عن المعلومة السريعة والمقتضبة ، ولعدم زجه في زحمة المفاهيم المتشابكة والمتنوعة ، وتجنب حمله على الخوض في أتونها دفعة واحدة ، فقد آثرنا تخصيص حلقة خاصة لكل مفهوم من تلك المفاهيم ، مع الاقتصار على توخي الضروري في بيان الدلالات وأشكال التمظهر . وهكذا سيكون موضعنا القادم هو بمثابة الحلقة الأولى في هذه السلسلة .

الهوامش

1. حميد بوزارسلان ؛ قراءة في تاريخ العنف في الشرق الأوسط : من نهاية السلطة العثمانية الى تنظيم القاعدة ، ترجمة هدى مقنص ، ( بيروت ، المنظمة العربية للترجمة ، 2015 ) ، ص18 وص19 .
2. الدكتور حسنين توفيق إبراهيم ؛ ظاهرة العنف السياسي في النظم العربية ، سلسلة أطروحات الدكتوراه (17) ، ( بيروت ، مركز دراسات الوحدة العربية ، 1999 ) ، ط2 ، ص39 وص40 .
3. محمد بهاوي ؛ العنف والعدالة – نصوص فلسفية مختارة ومترجمة ، مصدر سابق ، ص6 . من جهته فقد أشار الباحث الايكولوجي (دين كورتين) إلى حقيقة هذه الصعوبة قائلا"(( يوحي الافتقار إلى أرضية راسخة لمناقشة العنف إلى إننا ربما لم نفهم بعد تماما"ما العنف )) . راجع بحثه حول (العنف المؤسساتي والمنهجي) ، ضمن مايكل زيمرمان (محرر) الفلسفة البيئية : من حقوق الحيوان إلى الايكولوجيا الجذرية ، جزأين ، ترجمة معين شفيق رومية ، سلسلة عالم المعرفة (333) ، ( الكويت ، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب ، 2006) ، ج2 ، ص75 .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. خامنئي و الرئيس الإيراني .. من يسيطر فعليا على الدولة؟ | الأ


.. مناظرة بايدن-ترامب .. ما الدروس المستخلصة ؟ • فرانس 24 / FRA




.. #فرنسا...إلى أين؟ | #سوشال_سكاي


.. المناظرة الأولى بين بايدن وترامب.. الديمقراطيون الخاسر الأكب




.. خامنئي يدعو الإيرانيين لمشاركة أكبر بالانتخابات | #غرفة_الأخ