الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الحقيقة وفلسفة السؤال ح3

عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني

(Abbas Ali Al Ali)

2022 / 9 / 22
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


جربها مرة وأثنان وكرر التجربة أكثر من مرة فتبين له أنه كان موفقا بأستدلالاته خاصة عندما تكون الشجرة أو الخشبة بحجم بساعد فعلا على حمل جسده، لذا أصبحت عنده قاعدة وهي " كلما كبر الخشب أو مقطع الشجرة تكون فرصته أفضل في العوم والنجاة" هذه القاعدة باقية لليوم وتتعلق بعدة مواضيع منها قاعدة النسبة والتناسب المنطقية، بهذا السؤال أسس الإنسان الأول ما تراكم من خبرة أوصلته وبمراحل زمنية وتجارب متواصلة أن يكتشف وبالتسلسل "أن كبر قاعدة الخشب على وجه الماء هي المسئولة عن القدرة على الحمل"، لذا بادر إلى توسيع هذه القاعدة بربط مجموعة من الأشجار معا لتكون له أول قارب بدائي أستطاع به الشعور بالأنتصار على ألهة الماء ووحشه، ليصل لاحقا ليصنع حاملة الطائرات الحربية التي تساوي مساحة إحداها أكبر من الغابة التي عاش فيها أول مرة، وتحمل عددا كبيرا من الأشخاص أكثر من تعداد الجنس البشري يوم فكر بالسؤال الأول قبل بضعة ألاف من السنين.
نعود إلى عنوان المقالة الحقيقة وفلسفة السؤال وما هو الرابط بين الأثنين، فالحقيقة موضوع فكري مختلف عليه أصلا كما قلنا لأن الفهم الشائع لدينا "أن لا حقيقية في البحث عن الحقيقة"، يستغرب البعض من هذه البديهية عندما ننكر حقيقة البحث عن الحقيقة، والجواب بسيط بدون تعقيد لأننا نبحث عن شيء مختلف عليه أصلا، ولو أتفقنا من البداية عبى معيار تشخيصي ثابت لماهية الحقيقة بدون أن نفترق على جزئية أو تفصيل غير مهم نكون قد شخصنا الحقيقة كما هي، وبالتالي تكون هنا عملية البحث عنها وهي بين أيدينا جزء من العبث واللغو الذي لا داعي له ولا من مبرر نحتاجه، مشكلة الحقيقة أنا أكبر من كل إطار يمكن أن نضعها فيه لأنها موضوع مطلق وقضية لا يتسعها العقل البشري، إلا بحدود ما يتسع الفهم والإدراك من ضروريات الذهاب إلى المطلق الكامل الثابت الذي لا يتغير ولا يتبدل، ولكنه يتحرك بنا ونتحرك به فنرى التغيرات والتبدلات كأنها تصدر وتؤثر على الحقيقة فتجعلها بنظرنا متغيرة متبدلة ذات وجوه ومظاهر خارجية نراها بأكثر من صورة، أو على الأقل ندركها بكم متفاوت من الإدراكات الذهنية والحسية المختلفة.
يظن البعض أن البحث عن الحقيقة مجرد وهم لأن لا حقيقة في الوجود وكل ما نسميه حقائق أو حتى قضايا حقيقية هي نتيجة تسليمات عقلية وربما لم ولن تكون بهذا اليقين لو تبدلت وسائل الكشف والسؤال والظروف والمعطيات، فالحقيقة هي أفتراض منا وليس واقع أو قضية واقعية، ولا يمكن أن تكون الحقيقة حقيقية ما لم تصدر من واحد حقيقي ثابت مطلق لا يتغير ولا يتبدل ولا يخرج منه التناقض ولا يلحق تصوره تطور وأرتقاء لأنه كامل أصلا، هذا الواحد الذي يمتاز بكل هذه المواصفات قد يكون هو عند البعض غير حقيقي وبالتالي قما نسميه حقيقة يبقى مجرد وهم ملتصق بعجزنا وفشلنا أن نكون هذا المطلق الذي يمكن أن يكون معيارا دالا أو صانعا أو شبيها بالحقيقة.
قد لا أكون مجافيا للحقيقة ذاتها عندما أسلم بهذه المقولات التي تنكر واقعية الحقيقة المجردة وترى فيه مجرد هذيان ذهني أو عبث تعقلي لا لزوم له، وحتى نقائضها من النظريات التي ترى الحقيقة ليست أكثر مما هي في الواقع حقيقة ينكرها العقل المشوش الذي لا يرى إلا الفراغ في الوجود، هذا التسليم بهذا التضاد والتضارب أمر حقيقي وعلى أنه جزء من الحقيقة التي نسعى جميعا ليس فقط لأدراكها بشكل ولو نسبي، ولكن لأن العقل مهما بلغ من القدرة على النفاذ في أي موضوع يبقى مرتبكا وقليلا ما يحيط بالأشياء من خارجها أو من داخلها، فسعة العقل المبني على الجزئيات والتفاصيل وإدمانه الطبيعي على التدرج في الإدراك والفهم يمنعه من الإحاطة الكاملة بالكليات والتماميات مرة واحدة أو بشكل كامل، وإلا تعدى حدود ما يمكن أن نسميه عقل بشري قائم على الأفتراض والتأمل والبرهنة والتقرير وأيضا قبوله الطبيعي لتعدد الأحتمالات، فحتى لو كانت الحقيقة مجرد قضية ذهنية أو تصور للعقل عن ماهية مطلقة لا تقبل البديل ولا تقبل التجزئة، لكنها تبقى قضية قابلة للتفكيك ومستعدة دوما أن تسمح بالدخول لها من دائرة البحث والتفتيش بواسطة السؤال، إذن الجواب على سؤالنا السابق حول ماهية الربط بين الحقيقة والسؤال عنوانا لبحثنا تتجلى بأن روح البحث عن الحقيقة في سؤال "ما هي الحقيقة؟".
لقد أدخل الإنسان نفسه في متاهة عقلية بدأت ولن تنتهي في أي حال حتى يبلغ العقل الإنساني أشده، أي يتحول العقل إلى كائن مطلق يبدا وينتهي كما هو حاملا لكل المعرفة بشكلها اليقيني المؤكد دون أدنى شك أو أحتمال، في هذا الوقت لا يكون له حاجة للبحث عن الحقيقة لا شكلها ولا حدودها ولا معالمها لأنه صنع حقيقة أخرى، حقيقة لا منطقية تتنافى من كون العقل كائن متطور إدراكي حسي يصنه الخارج كما يتطور من الداخل، هذا العقل السوبر عقل لا منطقي لا يحمل أي صفة من صفات العقل لأنه كائن معد سلفا ومبرمج خارج ما يمكن أن يتناسب مع حاضنه الطبيعي الإنسان، فهو أشبه بالعقل الإليكتروني الذي تربط به الأجهزة ذاتية العمل التي تعمل وفق نظام وذاكرة تلقائية معدة ومبرمجة على نمط واحد من الأعمال وله خصيصة أن لا يمكنه فعل ما هو خارج القدرة الذاتية على الحركة في داخله ولا علاقة للخارج به.
العقل الإليكتروني مثلا لا يقبل السؤال الذي لم يبرمج على نمطيته ولا هو يعرف جوابا لم يحفظ في الذاكرة، العقل الإنساني برغم ما يقال عن بساطته وعدم قدرته على الأحتواء أكثر مما يتلقى من تجربة وعلم وإدراك وفهم، لكنه يبقى عقلا مذهلا حينما يصر على إجابة عن أسئلة لم ترد عليه مسبقا، أو حتى لم يكن يتصور أنها ترد عليه في مفصل من مفاصل وجوده، في قضية قصة المغامرة التي تحدثنا به قبل قليل كان العقل هو من حول خوفه من الماء إلى أداة تخويف للأخر عبر السؤال والسؤال عن السؤال، لم يكن لديه تصور مسبق عن جواب لماذا يطفو الخشب ولا يطفو هو فوق سطح الماء؟ هذه الميزة في العقل البشري يمكن أن تكون شافعا له في قضية البحث عن الحقيقة، يمكن أن تتعبه ترهقه وتؤدي به أحيانا إلى مظاهر العجز، ولكن لا يترك قضية البحث هذه مهما طال الزمن به.
الخلاصة في الحديث تتمثل في إدراك ووعي قضية مهمة وجديرة بالمراعاة، وهي أن الحقيقة سوف يكتشفها العقل البشري يوما ما طالما أنه يواظب على السؤال، وترتيبا على هذه القضية يمكنا أن نصف العقل البشري وفقا لما يمكن أن نقوله من التجربة التاريخية له أنه "عقل تساؤلي" بمعنى أن طبيعته قائمة على السؤال، تطوره قائم على إثارة المزيد من الأسئلة، نتائج وجوده الوجودي هي إجابات على أسئلة، فكلما دربنا العقل على التساؤل أمكننا أن نحصل على عقل فذ، عقل لا يؤمن بالتسليم ولا يخضع للنقل على أنه نهاية الأشياء، العقل التساؤلي يكون تشكيكيا لكنه لا يقبل أن تبقى الشكوك مصدر للحيرة عنده، لذا يحول التساؤلات دوما إلى قضايا قائمة بذاتها ويمنحها حق المرور بين النقد والقويم، حتى يقطع شكها بعجز عن إثارة سؤال أخر عليها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. استهداف فلسطينيين أثناء تجمعهم حول نقطة للإنترنت في غزة


.. طلبة في تونس يرفعون شعارات مناصرة لفلسطين خلال امتحان البكال




.. الخارجية القطرية: هناك إساءة في استخدام الوساطة وتوظيفها لتح


.. مجلس الحرب الإسرائيلي يناقش خياري إيران ورفح.. أيهما العاجل




.. سيارة كهربائية تهاجر من بكين إلى واشنطن.. لماذا يخشاها ترمب