الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الآخرُ الجحيمُ … الآخرُ الفردوس

فاطمة ناعوت

2022 / 9 / 25
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


“الجحيمُ هو الآخر" عبارةٌ شهيرة اقترنت بالكاتب الفرنسي الشهير "جان بول سارتر"، وردت في مقطع من إحدى مسرحياته: "لا مخرَج" No Exit. يقول المقطعُ: "الآخرُ جحيمٌ حين يتكبّر، ويتجبّر، ويُنصِّبُ نفسَه ديّانًا عليك. فيفتّش في نواياك جاعلاً منكَ خطّاءً ذميمًا، زاعمًا أن اللهَ قد منحه توكيلاً مباشرًا يُعذّب بموجبِه الناسَ في الأرض، عِوضًا عن حساب السماء.” لكن سياق المسرحية لم يحتمل أن يقدّم الآخرَ "الآخرَ”. فالآخرُ ليس دائمًا جحيمًا بل كثيرًا ما يكونُ فردوسًا ونعيمًا ورغدًا. الآخر جحيمٌ إن اغتالك معنويًّا، وفردوسٌ إن كان صخرةً لك وسندًا. الآخرُ الفردوسُ أراه جليًّا في شهر سبتمبر من كل عام، حيث عيد ميلادي، إذْ تنهمرُ شلالاتُ الحبِّ من كل صوب فأغرق في نعيم المودة ورغد الفرح. الآخرُ الفردوس هو المحبُّ العطوف الذي يمد لك يدًا حانية تشدّ من أزرك، ويستوعب لحظاتِ انكسارك، فيقوّيك لئلا تنكسر، ويجعل من نفسه صخرةً تتكئ عليها إذا ما هدَّك التعب. آنذاك، تتحوّرُ العبارةُ الشهيرةُ المخيفةُ لتغدو: “الفردوسُ هو الآخر"، حين يؤمنُ ذلك الآخرُ أنه إنسانٌ مثلك، يساندك في ضعفك وينتظرُ أن تسانده في ضعفه. فجميعُنا، نحن البشر، ضعافٌ أمام تصاريف الزمان، ننتظرُ يدَ الله الرحيمة لتسندنا، فتتجلّى يدُ الله في صورة البشر الطيبين: الآخرُ الفردوس.
"الآخرُ الفردوسُ" لا يتجلّى فقط في لحظات الفرح كأعياد الميلاد حين يفاجئك الأهلُ والأصدقاء بحفلات مباغتة تغمرك بالفرح. بل كذلك في لحظات الشدّة والانكسار. يغمرني الفردوسُ في صورة "آخرين" يتحلقون حولي في محنتي مع القضايا الكيدية التي يرفعها بشرٌ يستعذبون عذابَ الآخرين. "الآخرون الفردوس" يمحون بأياديهم الطيبة ركاكة "الجحيم" الذي يتسلّل إلى حياتنا في صورة "آخر" ينذرون حياتهم لتكدير حياتنا. فردوسٌ أنيقٌ كلُّ من يرفع يدَه للسماء يدعو اللهَ لي في محنة ألمت بي. فردوسٌ واعٍ هم أصدقائي الأدباء والفنانون الذين قاتلوا لحماية مشاعل التنوير التي يحاول الظلاميون إطفاءها بكل إصرار ودأب. فردوسًا ذكيًّا كان القراءُ المثقفون الذين يدافعون عن صخور القوى الناعمة التي يجاهد أعداءُ مصر من أجل تفتيتها. فردوسٌ طيّبٌ هم الرائعون الذين أقابلهم في طرقات بلادي وفي أسفاري في بلاد الله، يهونون عليّ الظلم ويجعلون من قلوبهم الغنيّة أوطانًا دافئة تحتويني. فردوسٌ مثقفٌ كلُّ قلم نبيل في يد كاتب محترف أو هاوٍ يكتب ليُذّكر الناسَ بما فعلنا جميعًا من أجل الوطن. فردوسٌ مزهرٌ كلُّ ريشة في يد فنان تشكيليّ أو في يد طفل نحتت ملامح وجهي على الصحاف البيضاء. فردوسًا مرحًا كان كلُّ كاريكاتور صوّر لمحةً من قضيتي الشهيرة بريشته الساخرة. فردوسٌ مقيمٌ هو أسرتي الجميلة المثقفة التي تدعمني في جميع أيام حياتي وفي لحظات العسر التي تمرُّ علينا كما الدهر. فردوسًا كان كل محام يُسخّر علمَه وخبرته ووقته ليكتب مذكرات تدفع عنّا أباطيلَ يلصقها بنا حاقدٌ مُزايدٌ، يُكمل نواقصَه من امتلائنا ويعزّز فقرَه من غنانا، فما زاد إلا نقصًا وما نزدادُ إلا امتلاءً وثراءً. وفردوسًا كان، على غير ما أراد، كلُّ من يجهد لتكدير صفو حياتنا؛ لأنه يكون السبب في عثورنا على فراديس الآخرين التي تتجلّى في صورة أصدقاء جدد يساندوننا ويدعمون قلوبنا لئلا تنكسر. فحتى الأشرارُ قد يكونون فراديسَ على غير رغبتهم حين يقصدون بنا شرًّا وحزنًا، فيأتي اللهُ بعدله ورحمته ويستبدلُ بالحزن فرحًا كثيرًا، وبالشرّ خيرًا وفيرًا من ثروات إنسانية هائلة ما كنا نكتسبها ولو عشنا ألفَ عام. وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خيرٌ لكم.
سأُغني يا حبيبي، رغمَ النِّصالِ تتحلّقُ حولَ جسدي من كلِّ صوب، مثل ذِبحٍ بائسٍ لا يقدرُ أن يقولَ: أحسِنوا الذَّبحَ يا جماعةَ الخير؛ فأنتم تجعلونَ السماءَ تبكي! يُشهرون رماحَهم أمامَ عيني حتى أخافْ، ويتلعثمَ النغمُ فوق أوتارِ قيثارتي فأصمِتُ عن العزفِ، ولا أغني. لكنهم ينسونَ أنَّ مالكَ الحزين لا يصدحُ بالنغمِ أجملِه؛ إلا والدمُ يقطرُ من بين ريشِه حارقًا، وأن الأوتارَ لا ترجِفُ بالموسيقى، إلا والعنقُ المذبوحُ ينزفُ القَطْرَ أحمرَ قانيًا من فرطِ الوجع، وأن البجعةَ لا تُجيدُ الرقصَ كالغيدِ على صفحةِ الماء؛ إلا حيَن تحيُن ساعةُ رحيلِها عن الدنيا، أو عن الوطنْ. إن مزّقوا دفترَ أشعارِي وأطبقوا شفتيّ ليصمتَ صوتي عن الغناءْ سأُغنّي بقلبي حتى تطيرَ الفراشاتُ من حولي وتحطَّ فوق كتفي بلادي. سأغنّي لضفائرها، حتى تتواثبَ خُصلاتُ شعرِها، فوق موجِ النسيم فيأتي الربيعُ قبلَ موعدِه. سأغنّي لعينيها حتى تُشرقا للنورِ من جديد، ثم تغفوَا على وهادِ جواباتي وقراراتي.

               ***








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - أرجوا ياسيدتى اللفاضله قرائة أسامى لبيب
Magdi ( 2022 / 9 / 25 - 12:13 )


اهلا أستاذ علي سالم
أنا معجب بهمك وإهتمامك بالشأن المصري رغم أنك تعيش في الغرب المترفه.
كما أنا أخجل من كتاباتك التى تلقي الضوء على المهازل في مصر كحال الطفل شنوده بينما أنا مهموم بالكتابات الفلسفية عن الحياة والوجود.
صدقا كنت أعزم نشر مقال يتناول فضيحة نزع طفل من أبويه الذي تبنوه حرصا من الحكومة علي أن يكون علي دين الإسلام كون هناك مقولة غبية تقول الإنسان يدين الإسلام بالفطرة!
لم يكفي أن الطفل شنوده وجدوه في كنيسة مما يعني أن أبويه كانا علي علاقة جنسية حرة فخافا من الفضيحة فتركاه في كنيسة ليتبناه من يتبناه.
لا يكفي أن الوشاية بتبني الأبوين جاءت نتيجة الطمع في الميراث كي تفضح المغزي.
قبل كل هذا لا يكفي إعتناء الأم والأب بشنوده وتربيته ومنحه كل الحب والرعاية والأمان لينزع منهم ويتم إلقاءه في ملجأ !
لا يعتني القانون المصري الذي جاء لمغازلة الإسلاميين والمتعصبين أن بمصر عشرات بل مئات الآلاف من الأطفال المشردين في الشوارع ولا يجدوا المأوي والمأكل والرعاية فلا يعتنوا بهم رغم ان معظمهم مسلمين ليكون الإهتمام بشنوده!!
يا سادة


2 - لماذا كاتبتنا الفاضله لاتهتم بشنوده وهي الانسانية
الدكتور صادق الكحلاوي ( 2022 / 9 / 25 - 16:17 )
الرقيقه-شنوده اصبح رمزا بل مقياسا لصدق انسانيتك ام انك عبد لخرافات ذالكم البدو المتوحشين الذين ليس فيهم ذرة من انسانية الا يكفي حرقهم وهدمهم لخمس حضارات تتفاخر بها الانسانية خارج جغرافيتنا =1الحضاره المصريه2 -الحضارة الرافدينيه 3 الحضارة الامازيغية 4حضارة بلاد الشام و5الحضارة الفارسية ماذا تقول عزيزي شريكي في التعليق للمرة الثانية -تحياتي


3 - لمذا لم تكتب ليدى فاطمة ناعوت عن الطفل شنودة?
Magdi ( 2022 / 9 / 25 - 18:08 )

لمذا لم تكتب ليدى فاطمة ناعوت عن الطفل شنودة?
فى يناير 2017 كتبت العديد من التعليقات على مقالات ليدى فاطمة ناعوت
اتهمت ليدى فاطمة المفكر والناشط الشهير مجدى خليل بأنه طلب منها فىى أمريكا (حيث دعاها الى مؤتمر ) بالكتابة ضد مصر فأنكر خليل ذلك قائلا انه طلب منها الكتابة عن أضطهاد الدولة وعنصريتها ضد الأقباط.
زعلت ليدى فاطمة وأستعانت بآية قرآنية : لن ترضى عنك اليهود والنصارى مما أثار شكوك بعض
المسيحيات الذين نصحوها بأن تترك الأقباط فى حالهم ولكن أبنها قال لوالدته : أستمرى ياماما فى الدفاع عن الأقباط المظلومين .
لاحظت محبة وأعجاب ليدى فاطمة بالرئيس السيسى فرجوتها أن تساعدنا فى أرجاع الطفل شنودة إلى أحضان والديه المعذبين فتجمع بذلك بين عمق الفكر وعظمة الأكشن.تحية لصاحب القلب الكبير الدكتور صادق الكحلاوي
-------------
مجدى سامى زكى
Magdi Sami Zaki


4 - دي حرباية يا ساده
أبو ترتر ( 2022 / 9 / 26 - 06:54 )



دي حرباية يا سادة , جاهزة لتتلون بجميع الألوان

اخر الافلام

.. يهود من الحريديم يتظاهرون في تل أبيب احتجاجا على قانون التجن


.. شاهد: -أموت أو أقتل أفضل لي من التجنيد بجيش التدمير- يهودي م




.. المحكمة العليا الإسرائيلية تبدأ النظر في تجنيد -اليهود المتش


.. الشرطة الإسرائيلية تعتدي على اليهود الحريديم بعد خروجهم في ت




.. 86-Ali-Imran