الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الفضاء والزمان: تأملات شذرية

خالد أمزال
كاتب وباحث في القضايا السياسية والفكرية

(Khalid Amazzal)

2022 / 9 / 29
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


1- زئبقية الفضاء والزمان:
الفضاء والزمان ليسا غريبين على الفكر الإنساني، ويبدوان في البداية شيئين بديهيين إذ يُدْرَكان بالحس والحدس، فالاعتقاد السائد ظل هو أن الزمان والفضاء ثابتان فيزيائيان يؤطران وجود الإنسان والكون، والحياة دونهما تبدو مستحيلة.
الفضاء مفهوم متعدد لا يتوحد حول تصور مركزي، إذ يتم توظيفه بشكل بوليفوني يفتقد في العديد من الأحيان التماسك والانسجام، بحيث نكاد نسمع أصواتا مختلفة داخل نفس المفهوم، فالمفهوم الفيزيائي والنفسي والمعرفي والجغرافي والاستعاري للفضاء كلها تستعمل جنبا إلى جنب، بحيث تلتبس مدلولاتها داخل الاستعمال ذاته.
إذا نظرنا إلى الزمان فسنجده جزءا من معيشنا، إذ نلاحظ أثره من خلال ما يحدث في ذواتنا ومحيطنا، إلا أننا غير قادرين على الإمساك به، فما نسميه ماض لم يعد موجودا، والمستقبل لم يوجد بعد، والحاضر الذي يوجد سرعان ما لا يوجد، فأين الزمان إذن؟
ولعل زئبقية مفهوم الفضاء مردها إلى الانزياح والزحزحة التي عرفتها "فكرة الفضاء" نفسها على مدار التجربة البشرية، إلى جانب مرونة استعمال المصطلح للتدليل على أشياء كثيرة ومختلفة. لكن العامل الحاسم في سيولة فكرة الفضاء لحد الميوعة راجع إلى أن الإنسان، في أبسط عمليات التفكير، عمل على تحويل تمثلاته الذهنية إلى إدراك بصري، فترجم المجرد إلى محسوس، فكان الفضاء بكل مؤثثاته هو عماد هذا التحويل وأداته ومادته.
أما زئبقية الزمان فتلعب فيها اللغة المستعملة دورا كبيرا، فكلمة "زمان" المتداولة في كل اللغات تحيل على معاني كثيرة، فالزمان يعني: الوقت والمدة والديمومة والعصر والدهر والتعاقب والتزامن والتغير والماضي والأبدية والموت. وبالتالي يصير من المتعسر تَسْيِيجُ الزمان بمفهوم محدد مادامت اللغة سَيَّالة وهي تحاول تَعْيِينَهُ.
2- زمنية الفضاء:
عندما ننتقل للنظر لفكرة الفضاء من وجهة أخرى، سنجد الفضاء والزمان يشكلان الإطار الأساسي للتجربة الإدراكية، إلا أنه غالبا ما تم النظر إليهما باعتبارهما تقاطُبًا، أي ثنائية ضدية، فالفضاء قابل للتعيين المادي ويمكن تَمَلُّكُه، في حين أن الزمان لا يَتَعَيَّنُ إلا نفسيا، وبمقاييس متفاوتة، ومن المستحيل تَمَلُّكُه.
لكن الفضاء في جوهره يظل زمنيا، سواء أ ظهرت عليه معالم التطور والتغير، أم تمكن من مقاومة عوادي الزمن، فهو ليس بمقدوره إلا أن يحمل تاريخيته على أكتافه، شاء أم أبى. وليس ذلك راجع لكون الفضاء سكونيا والزمان ديناميا كما يرى العديد من الدارسين، بل لأن إدراك الفضاء يكون حسيا ونفسيا، بينما إدراك الزمان نفسي فقط. فلا فضاء بمقدوره الوجود والتحقق خارج الزمان، لأن لكل حيز أو مكان أو شيء متموقع داخل الفضاء هويته الخاصة، هذه الهوية لا نستطيع إدراكها إلا من خلال تاريخيته.
علم النفس المعرفي مثلا أكد على صعوبة إدراك مفهوم الفضاء بمعزل عن الزمان، فتعلم الطفل للفضاء مرتبط بتجربة الحركة والزمن. ونفس الأمر تؤكد عليه الظاهراتية حين ترى أن النظام الربطي ينبني على علاقة "أنا – هنا - الآن" بــــ "القريب و البعيد". فلا يمكن إذن تخيل فعل "التَّفْضِيءِ" بمعزل عن "التَّزْمِين"، لأن وجود الفضاء نفسه مرتبط بالفعل، فعندما بدأ الفعل بدأ الزمان، ثم تلاه بعد ذلك الفضاء، فهو وجوديا ملازم للزمان ومُعَاقِب له.
3- الفضاء فعل إبداعي وترميزي:
إن الفضاء في حقيقته وجوهره ليس شيئا في ذاته، بل هو معطى ذهني وعطية الخيال، وهو رغبة إنسانية في الامتلاك الإدراكي للعالم، وقد أبرزت أبحاث علم النفس التجريبي أن الفضاء هو إدراك نسبي للواقع، إنه صورة أو تشكيل وترتيب للعناصر، وبَنْيَنَةٌ للفوضى البدائية. فقبل خلق الكون كان كل شيء غير متمايز ومبهم، لكن مع خلق الكون بدأ الفضاء بالوجود والتشكل، وذلك بفضل التَّمايز والتوزيع الذي أصبح ممكنا داخل الكون.
الفضاء كذلك فعل إبداعي، فتصورات خلق الكون في الديانات الإبراهيمية تبرز أن الله خلق العالم وأعطاه صفة الشكل، وجعله قابلا للتمييز من خلال أفعال كلامية، ففي العهد القديم نجد: " وَكَانَتِ الأرضُ خَرِبَةً وَخَالِيَةً وَعَلَى وَجْهِ الْغَمْرِ ظُلْمَةٌ وَرُوحُ اللهِ يَرِفُّ عَلَى وَجْهِ الْمِيَاهِ. وَقَالَ اللهُ: «لِيَكُنْ نُورٌ» فَكَانَ نُورٌ".(سفر التكوين – الإصحاح 1). أما القرآن فيقول: "بديع السماوات والأرض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون" (سورة البقرة – الآية 117).
وهنا لا بد من التأكيد على نقطة مفصلية هي أن الفضاء لا يوجد أبدا خارج اللغة، فهذه الأخيرة هي التي تحدده وتخرجه من هُلاميته، وبالتالي هو نتاج تلك القدرة الخلاقة على بناء العالم بواسطة الكلام.
فداخل ثلاثية "جاك لاكان" (الواقعي – الخيالي – الرمزي) يتموقع الفضاء داخل الرمزي، فهو يقع بين الخيالي الذي ينتمي للتجربة قبل اللفظية، وبين الواقعي الذي يوجد خارج كل عملية ترميز، فمن خلال عمليات اجتماعية وثقافية يتمكن الكائن البشري من تمثيل رغبته في تنظيم العالم بواسطة الكلام والكتابة، من هنا يتولد الفضاء كابن شرعي لعملية الترميز التي تجعل منه معطى ذهنيا، لا هو بالخيالي المنبثق من صورة الأنا عن ذاتها، ولا هو بالواقعي الذي يقبل القياس.
4- خبرتنا بالزمان:
الزمان نابع من تجربتنا والتي منها استطعنا صوغ إدراكنا له، وهذا الإدراك، رغم أنه مغرق في الذاتية، يتم عادة عبر وسيط أنظمة الترميز الخاصة بكل جماعة بشرية. فالزمان يستعصي على التفاعل المباشر، إذ لا يمكن تحسسه ماديا، أو التعامل معه بمعزل عن الأشياء الأخرى، فهو لا يوجد إلا باعتباره مؤوَّلا ومرموزا.
عند محاولة الإجابة عن سؤال: أ نعيش في الحاضر أم في الماضي أم في المستقبل؟ الجميع سيجيب: في الحاضر طبعا، لكن ليس هناك شيء يصعب الإمساك به أكثر من اللحظة الراهنة، ففي الوقت الذي نشعر أننا أمسكنا بها تتحول إلى ماضٍ، ومن أجل محاصرة تلك اللحظة يجب أن نتموقع في المستقبل لكي نستبق حدوثها. إذن إذا كان جسدنا يعيش في الحاضر فإن ذهننا لا محالة ليس كذلك.
وعليه، فإن ما نسميه عادة بـ "الزمان" هو ذلك التصور الذي ينبثق بشكل عفوي من أذهاننا، والناتج عن تجربتنا الوجودية المختلفة واللانهائية مع ما نعتقد أنه زمان، إنه تجربة الحاضر التي نشبكها في نفس الوقت بذاكرة الماضي، وباستباق وتَوَقُّع للمستقبل.
التجربة الوجودية للإنسان مع الزمان يلعب ذهننا في تشكيلها دورا أكبر من أجسادنا، فليس الزمان هو ما تدركه حواسنا، إذ لو كان الأمر كذلك لأدركنا الزمان بشكل متماثل أو متقارب على الأقل. لذلك فالخبرة الإنسانية بالزمان لا تُستَمَدُّ إلا من "التَّزْمِين"، والمقصود بـ"التزمين" هنا تلك القدرة على تعظيم وجودنا في هذا العالم، وتمديد حضورنا في الماضي والمستقبل، إنه العيش في الحاضر مع محاولة دائبة لتضييق الفجوة بينه (أي الحاضر) وبين الذاكرة والتجربة المُنْجَزَة من جهة، وبين الافتراض والتجربة المنتَظَر ولوجها من جهة أخرى.
هكذا يتحول الزمان بواسطة "التزمين" لحقل يمارس فيه الإنسان تلك المحاولات اللانهائية للإبقاء على وعيه بوجوده نَشِطًا ومُتَّقِدًا، إنها محاولات حثيثة لحفظ أو طمس شظايا الماضي في ثنايا الحاضر، توجُّسًا من المستقبل أو أملا فيما يخفيه.
إن هذه القدرة الفائقة التي سميناها بـ "التزمين"، هي نتاج مسعى وجودي فريد لا يتكرر حتى مع الفرد ذاته، لأن تمديد الذات لوجودها يتم وفي نفس الوقت بمحاولة إيقاف اللحظة عندما يقع، وبمعاكسة المنحى التعاقبـي لما وقع، وباستشراف الأحداث التي قد تقع وقد لا تقع.
لذلك نجد أن خبرتنا بالزمان متفاوتة، بل متناقضة، ليس لأنها خاضعة للمزاج أو للحالة الذهنية، بل لأنها خبرة صنعها إدراكنا الذاتي لوجودنا في خضم تموجات ما كنا، وما نكون، وما سنكون، ومادام هذا الإدراك الذاتي مُفَارِقا للإدراك الحسي والحدسي للزمان، فخبرتنا هاته ستظل لا محالة متفاوتة ومتناقضة، وأي تشابه قد نلمسه هو محض صدفة، فالزمان يعيش في ذواتنا، ولا نعيش نحن في ذاته، إذ لا جوهر له أصلا.
لكن هذا لا يعني أن خبرتنا بالزمان لا ترتبط البتة بزمان الكون المادي، أي زمان الأشياء والوقائع كما يدركها الآخرون، ذلك الزمان الذي يتبدَّى كمدة، حيث الأولوية للكم على الكيف، والقياس سابق على التمثُّل. إلا أن تأثير زمان العالم على خبرتنا الزمانية محدود للغاية؛ فبفعل تداخل الحاضر الجاري، بالذاكرة القريبة والبعيدة، وبالمستقبل المتوقع والمجهول، يصير الزمان نوعيا، وقياسه لا يكون كميا، إذ لا يتم إلا نفسيا ومن خلال الاستبطان، حيث تصبح الديمومة إيقاعا متفاوتا، والمدة تظهر كتجريد وترميز للحظة.
5- الفضاء معطى وجودي:
الفضاء بُعْدٌ نسبي، فهو مرتبط بحضور الذات وبتصورها للعالم، وبثقافتها وأيديولوجيتها وأفق انتظارها، هذا إلى جانب أنه غير محدد في ذاته، ولا يتحدد إلا من خلال التجربة التي تقيمها الذات معه، والمعرفة التي تنتجها إزاءه.
لكن لا يجب أن ننسى الوجه الآخر من العملية، فالذات تحدد الفضاء باعتباره "تشييدا" ذهنيا ومعرفيا، لكنها كذلك تَتَحَدَّدُ من خلال الفضاء، وتدرك نفسها بناء على تَمَثُّلاتِها له. هكذا يصبح الفضاء عنصرا وجوديا يدخل في صميم كينونة الإنسان، فهو ليس مجرد وعاء يحتوي جسده والعالم، ولا حاضن لهذه الكينونة، بل قد يصير الوجودَ نفسَه، مادام ليس بالإمكان أن يُدْرَكَ الكونُ والعالم وذاتُه عَيْنُها خارجه.
لكن هذه العلاقة الوجودية مع الفضاء لا تخلو من التباس ومفارقة، لكونها تخضع لمنطق التحكم والتَّمَلُّك. فالإنسان يحاول اقتطاع أجزاء من الفضاء كالمنزل مثلا، ثم يحاول تملكها عبر تحويزها وجعلها محاطة بحدود، لكن الحيز المكاني المرغوب في تملكه ليس بالإمكان عزله وفصله عن الفضاء، لأنه (أي الفضاء) في نفس الوقت مُتَجَاوِرٌ ومُشْتَرَكٌ، متجاور مع أحياز مكانية قريبة أو بعيدة، ومشترَك مع ذوات أخرى. هنا يتحول التملك إلى تمديد مادي ورمزي للذات، وليس انفرادا بالفضاء.
إن الذات الإنسانية في رحلتها الوجودية الطويلة جعلت من الفضاء مرادفا للهوية الفردية ثم الجماعية، وما كان بمقدورها فعل ذلك لولا خروجها من قوقعة الجسد (الفضاء الأحادي/الذاتي) إلى رحابة الوطن الذي لا يمكن نعته هنا إلا بـــــ "الفضاء المركب/الجامع". فقد صارت الذات فضاءً، لِكَوْنِ وجود الذات لا يتم إلا بالتَّعْيِين والتَّجَاور كحال الفضاء. وصار الفضاء ذاتا، عندما تحول إلى علامة أنثروبولوجية مُمَيَّزة، وبالتالي أصبح ذاتا تحمل وجودا ومعنى خارج ماديتها.
الفضاء نعيم لذات الإنسان وجحيم لها في نفس الوقت، فهو يمكنها كما قلنا سالفا من التمدد ماديا ورمزيا، لكنه قد يخنقها ويعرقل وجودها، ذلك أن البشر ظلوا يسعون لتوسيع مجالهم الحيوي مكانيا، كما عملوا جاهدين على حمايته. فعندما يوسعونه يكون ذلك لا محالة على حساب مجال حيوي لبشر آخرين، وعندما يخسرونه فيكون لفائدة هؤلاء أيضا.
هكذا تَحَوَّل الفضاء إلى رصيد وجودي لا ينقص عند فرد أو جماعة إلا ويزيد عند أخرى، وكلما زاد كان ذلك دليلا على العظمة والتفوق، وكلما نقص كان ذلك علامة على الدونية والانكسار. لذلك لا غرابة إن كان الفضاء وما زال رأسمالا أسطوريا للجماعات البشرية، فبقدر ما تمتلكه وتحافظ عليه تسمو وتتقوى، وفي سبيل ذلك كما يحدثنا التاريخ، اخترع الإنسان الحرب، وأضفى عليها طابع القدسية - بدعاوى دينية أو قومية- سواء عند الغزو أو حين مواجهة الغازي.
6- هل هناك فعلا زمنان؟
عادة ما يتم التمييز بين الزمان الفيزيائي والزمان النفسي، حيث الأول زمان موضوعي مرتبط بعقارب الساعة، له وحدات ثابتة للقياس، والثاني زمان ذاتي مرتبط بالوعي، لا مقاييس كميَّة يمكن أن تَسِمَهُ.
الزمان الفيزيائي لا علاقة له بإدراكنا الذاتي، وينظر إليه عادة أنه معطى طبيعي، تتم تجزئة وحداته بشكل محايد بناء على تواطؤات متفق عليها، وليست كلها اعتباطية، إذ أن وحدة مثل السنة هي المدة التي تقطعها الأرض للدوران حول الشمس، والشهر هو ما يتطلبه القمر للدوران حول الأرض. إنه زمان يُمَكِّن من تنظيم الوقائع والأحداث بشكل تَعَاقُبِـيٍّ، وبفضله يمكن تحقيق التَّوَاقُت، وإلا صار من الصعب القيام بأي نشاط بشكل متزامن كحضور موعد ما مثلا.
أما الزمان النفسي فهو زمان داخلي لا صلة له بظواهر الخارج، هو زمان كيفي لا كمي مستقل عن المكان، إضافة إلى أنه غير تعاقبي، إذ لحظاته تتداخل مع بعضها لدرجة يستحيل الفصل بينها، فالماضي يتمدد ليصل للحاضر، والذي بدوره تتضخم أحداثه ليصير المستقبل.
الجميع يشعر أن الزمان يمر بسرعة عندما يكون ذهننا منشغلا بشيء ما، أو نكون في خضم لحظات لا نشعر فيها بالملل، والعكس صحيح، ولعل مَرَدَّ ذلك أن الذي يعمل في تلك اللحظة ليس جسدنا بل ذهننا، هذا الأخير يشتغل وفق سُلَّمٍ خاص، أي وفق مرجعية زمنية مختلفة، وبالتالي يستطيع الذهن تغيير الزمان وإعادة تشكيله كَمًّا وكَيْفًا.
لكن الوعي الظاهراتي يحيلنا على وجود أكثر من نوعين من الزمان، فهناك الزمان الواقعي وهو ذلك الزمان الخطي والتعاقبي؛ والزمان الحميمي حيث الزمان تركيب للذكريات الشخصية؛ ثم زمان الحلم واللاوعي ذو المنطق المقلوب حيث يتم الانتقال من الآثار والنتائج للمسببات والدواعي؛ وكذلك زمان الذاكرة الذي يتم فيه تحيين لحظات الماضي في الحاضر؛ إلى جانب الزمان المقدس المتصل والمتكرر بدون انقطاع والمتجاوز للمكان؛ كما أن هناك ما يمكن تسميته بالزمان الافتراضي وهو الزمان الذي تُنْتِجُهُ مختلف أشكال التعبير الفني. فليس هناك إذن زمان واحد مُوَحَّد، بل هناك بالضرورة أزمنة متعددة ومختلفة، فالزمان ليس ظاهرة مستقلة عن ذواتنا، إنه محاولة لتنظيم وجودنا في هذا العالم.
7- الفضاء المعيش:
الفضاء المعيش ليس فقط هو هذا العالم المشترك الذي ندركه عبر جسدنا وحواسنا، بل هو تجربة أصيلة وفريدة تتجاوز الصيغ المعتادة للإدراك المكاني والزماني للعالم، إنه إعادة بناء رؤية خاصة للعالم ما تلبث أن تتغير وتتحول.
ميزة الفضاء المعيش تكمن أساسا في كونه تجربة وجدانية متفردة لا علاقة لها بالتجربة الحسية، فالتجربة الوجدانية للفضاء هي تجاوز للفضاء المؤسِّس والمشترَك، مما يخلق عند الإنسان نوعا من الهوس بالأماكن التي يفتقدها، ويقوده إلى الغربة والشعور بالحنين الدائم إليها. هذا الشعور الأخير يدفعه غالبا للبحث الدائم والنشيط عن "الفضاء الأول" أو يمكن تسميته تجاوزا بـ "الفضاء الأمومي"، والتنقيب في ذاكرته عن كل الفضاءات الحميمية.
الفضاء هنا جوَّانيٌّ أكثر منه برَّانيًّا، إذ يَسْكُن الذات حتى وهي خارجه، تعيش فيه كما يعيش فيها. وهنا تصبح معايشة الفضاء أكبر من أن تُشترط بالتفاعل الحسي والإدراك المادي الصرف. فالتجربة الوجدانية للفضاء هي في عمقها محاولة لإعادة الوجود لما لم يعد موجودًا، والعمل على تحيين ذلك الذي نفتقده، هكذا يقفز "المتخيَّل" على السطح كَظِلٍّ وتجسيد لهذا المفقود، لأن "الواقعي" وحده ليس بمقدوره تحقيق الإشباع الناتج عن الافتقار لهذا الفضاء.
إن الفضاء الحميمي حسب غاستون باشلار بحمولاته الرمزية يستطيع ترجمة ظواهر الداخل عبر تفاعل مضطرب ومتذبذب مع الخارج. وعند التعبير عن هذا الفضاء نجد أن هذه الحميمية، ومعها التجربة الوجدانية المُغْرِقَة في الذاتية، تحاول أن تتخفى في ثوب التجربة المشتركة، لذلك تعمل على التَّمَدُّدِ على مستويين: مستوى الخارج أي كل ما يقع خارج الذات، ثم مستوى السالف أي كل ما يقع في حيز الماضي ويندرج في نطاق الذاكرة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مصطفى البرغوثي: الهجوم البري الإسرائيلي -المرتقب- على رفح -ق


.. وفد مصري إلى إسرائيل.. تطورات في ملفي الحرب والرهائن في غزة




.. العراق.. تحرش تحت قبة البرلمان؟ • فرانس 24 / FRANCE 24


.. إصابة 11 عسكريا في معارك قطاع غزة خلال الـ24 ساعة الماضية




.. ا?لهان عمر تزور مخيم الاحتجاج الداعم لغزة في كولومبيا