الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تحكيم أم تحجيم العقل في مسألة صراع الأديان

جوزيف بشارة

2006 / 10 / 1
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


ما أن يخرج علينا أحد المؤيدين للنظرية المثيرة للجدل، التي تدور حول انتشار الإسلام عبر الغزوات والحروب التي قام بها المسلمون الأوائل، بتصريح يعبر فيه عن رأيه حتى تستعر نيران الغضب في قلوب المسلمين من المشرق إلى المغرب ومن الشمال إلى الجنوب. تكرر هذا المشهد كثيراً وكثيراً عبر القرون الأربعة عشر الماضية، وها هو المشهد يتكرر مجدداً ولكنه هذه المرة يجيء مصاحباً للتصريحات التي أدلى بها البابا بينيدكت السادس عشر بابا الفاتيكان ورئيس الكنيسة الكاثوليكية في محاضرته بجامعة ريجينسبرج الألمانية في الثاني عشر من سبتمبر الحالي والتي نقل فيها عن كتاب للباحث ثيودور خوري جدالاً دار بين الإمبراطور البيزنطي مانويل الثاني باليولوجوس وأحد المثقفين الفرس حول بنية العقيدة في الإسلام والمسيحية، والذي أعلن خلاله باليولوجوس أن الحرب المقدسة التي هي جزء أساسي من العقيدة الإسلامية ساهمت في انتشار الإسلام، في الوقت الذي كان من المفترض أن يكون القبول بالأديان مرتبطاً بالمنطق ومنطلقاً من العقل.

بعيدأ عن ردود الأفعال الهيستيرية التي عبرت عن الغضب الإسلامي تجاه رجل الدين الكاثوليكي الأول في العالم، وبعيداً عن محاولات البعض اتهام البابا بقيادة حملة صليبية جديدة تنال من الإسلام وتسيء إليه، وبعيداً عن التهديدات التي صدرت عن جماعات إسلامية متطرفة بحق البابا والمسيحيين، وبعيداً عن قيام البعض بالهجوم على البابا بدعوى عدم جواز التعبير صراحة عن رأي قد يصدم الرأي العام الإسلامي، وبعيداً عن الاتهامات الموجهة للبابا بالتسبب في انهيار محاولات الحوار بين الأديان، وأيضاً بعيداً عن رغبات البعض بالتماس الأعذار للبابا أو الدفاع عنه، دعونا نتفق على أن محاضرة البابا ربما لا تكون إلا قطرة في محيط الاختلافات العقائدية والتناقضات الفكرية والفروق الحضارية بين الديانتين المسيحية والإسلام، ودعونا نتفق أيضاً على أن الهوة العقائدية بين أتباع الأديان كانت ومازالت وستظل واسعة ومن المستحيل تقريبها، وأن المسافة الفكرية بين الأديان كانت ومازالت وستظل عميقة ولا يمكن بحال من الأحوال جسرها، وأن الفروق الحضارية، التي لا تعني بالتأكيد تميز طرف على الأخر، كانت ومازالت وستظل كبيرة ويتعذر التغلب عليها.

تبقى الهوة العقائدية بين الديانتين الأكثر جماهيرية في العالم بمثابة العائق الأهم في طريق التواصل بين المسيحية والإسلام وبين المسلمين والمسيحيين. فمن المؤكد أن نفي المسيحية لشرعية الإسلام وإنكار الإسلام لحقيقة المسيحية يجدان مساندة نصية كاملة في الكتاب المقدس للمسيحيين وقرآن المسلمين، وهو ما يعني أن ما اقتبسه البابا بينيدكت السادس عشر في محاضرته التي أقلقت مضاجع العالم الإسلامي من عبارات تعكس عدم الاعتراف المسيحي برسول الإسلام، رغم القسوة التي تغلف بها، ربما لم يكن إلا إعراباً عن رأي عقائدي مسيحي صادف أن ساندته بعض الحقائق التاريخية المتعلقة بانتشار الإسلام من خلال الحروب والغزوات. هذا الرأي العقائدي المسيحي المعارض للإسلام له بالطبع نظيره في العقيدة الإسلامية التي ترى أن المسيحية جرى اختطافها من عقيدتها السليمة، وأن المسيحيين الحاليين كفرة ومشركون بالله. وكما نقل البابا في محاضرته رأي أحد الباحثين المسيحيين بشأن الإسلام، فإن كبار رجال الدين المسلمين لا يملون في كل المناسبات من الإفصاح عن الرأي المقابل للإسلام بشأن المسيحية. بمعنى أخر فإنه كما أن الإسلام يصف المسيحيين المؤمنين بيسوع المسيح على أنه الله الظاهر في الجسد على أنهم مفسدون في الأرض يجب الخلاص منهم، فإن البابا في المقابل اعتبر أن انتشار الإسلام من خلال الحروب لم يأت للبشرية بشيء حسن.

لست أظن أن عدم اعتراف أي من الديانتين المسيحية والإسلامية بالديانة الأخرى بشيء غريب عن أتباع الديانتين وبخاصة المتدينين منهم، ولا أعتقد أن أياً من الطرفين يخفي عقيدته عن الطرف الأخر، ومن ثم فإن الأراء المتبادلة حول عقائد الدينين والتي قد تمتد لتشمل هجمات فردية وربما حملات منظمة من طرف ضد الأخر كان من المفترض أن تصبح مسألة طبيعية في علاقة الدينين اللدودين. وفي كثير من الأحيان يقوم الملحدون واللاأدريون بمهاجمة الأديان بضراوة تفوق هجمات أتباع الأديان ضد بعضهم البعض. وبكن الأمر يختلف في الغرب عنه في العالم الإسلامي. ففي الغرب كثيراً ما تنتقد الأديان وبخاصة المسيحية ولعل فيلم "ذا دافينشي كود" كان أخر سلسلة طويلة من الروايات والأفلام التي تطعن في أسس العقيدة المسيحية. ولكن الأمر يختلف اختلافاً جذرياً في العالم الإسلامي حيث كثيراً ما تنتقد كافة الأديان باستثناء الإسلام، وغالباً ما لا تخلو خطبة من هجوم مباشر أو غير مباشر يطعن في صحة وشرعية المسيحية واليهودية، بل ويصف المسيحيين واليهود بالكفرة والمشركين. ولكن الإسلام ونبيه بقيا مصونين وبعيدين عن المساس بهما، واصبح الاقتراب منهما أو تناولهما بالنقد مسألة نادرة تتطلب شجاعة لا يقوى عليها إلا معدودين غالباً ما ينالوا جزاءهم بالعقاب الذي يتراوح بين النفي والقتل.

لقد اشتعل غضب الجموع المسلمة في شتى أنحاء العالم بعد إلقاء البابا بيندكت السادس عشر لمحاضرته في جامعة ريجينسبرج الألمانية، وكان الغضب - كما اعتدنا في السنوات الأخيرة - عاطفياً وانفعالياً ومبالغاً فيه، ولكن لعل ما ساهم في إستعاره هو دور بعض المؤسسات الدينية ورجال الدين المتطرفين وحتى الرسميين المحسوبين على النظم الإسلامية الحاكمة والساعين وراء اكتساب الشعبية المرغوبة والشرعية المفقودة في الشارع الإسلامي. لقد اعتاد العالم الإسلامي على أن تكون مزايدة المؤسسات الدينية ورجال الدين من خلال محاولة الدفاع عن العقيدة الإسلامية في مواجهة ما يصفونه بالحملات الصليبية، أو من خلال تحجيم العقل الإسلامي من التفكير عبر مصادرة الرأي والرأي الأخر ومحاربة الحريات العامة. ولكن المزايدة امتدت هذه المرة لتشمل قراراً صدر من الأزهر بوقف الحوار بين ممثليه وممثلي الفاتيكان الذي عرف بحوار الأديان.

تعليق الأزهر للحوار بين ممثلي الإسلام والمسيحية الذي اتخذ ضمن ردود الأفعال العنترية على محاضرة بابا الفاتيكان جاء ليعكس المسافة الفكرية الشاسعة بين الجانبين المسيحي والإسلامي، كما انه جاء ليتعارض مع مبدأ تحكيم العقل في الأمور الخلافية الفكرية والعقائدية. لقد كان حرياً بالأزهر أن يعمل على استمرار الحوار مع ممثلي الكنيسة الكاثوليكية لتفويت الفرصة على المتطرفين والإرهابيين على اعتبار أن الحوار هو السبيل الأمثل للرد على أية أفكار تتعارض مع العقيدة الإسلامية ربما كان البابا بينيدكت تفوه بها في محاضرته. ولكن يبدو أن الأزهر استسهل استخدام وسائل أخرى بدلاً من الحوار للضغط على الفاتيكان لاستصدار اعتذار يلغي ما ورد بمحاضرة البابا. لقد أثبت الأزهر عملاً وقولاً الفكرة التي تناولها البابا في محاضرته والتي تتعلق بالعلاقة بين العقل والإيمان، فكان تعليق الأزهر للحوار مع الفاتيكان ليدعم بما لا يدع مجالاً للشك الأقاويل السائدة بأن القائمين على شئون الإسلام والمسلمين يتبنون مبدأ تحجيم العقل في الدفاع عن عقيدتهم. فالفاتيكان يعي تماماً أن شخصية المسيح كما جاءت في المسيحية والمسيحيين وعقيدتهم هم محل اعتداءات فكرية تصل في كثير من الأحيان إلى استخدام العنف في العالم الإسلامي، تلك الاعتداءات ومع ذلك فإنه لم يعلق أبداً الحوار مع الجانب المسلم.

كان اقتباس البابا لفكرة تحجيم المسلمين لدور العقل عملاً فكريا بالمقام الأول يتطلب رداً فكرياً عبر كتاب أو مقال أو محاضرة دعماً للحوار القائم الذي يبتغي بالمقام الأول الوصول إلى قيم فكرية مشتركة بين أتباع الديانتين الأكثر جماهيرية في العالم. ولكن الأزهر أبى أن ينتهز الفرصة لدحض منتقدي الإسلام بالعقل والمنطق مفضلاً اللجوء إلى تشجيع التظاهرات الصاخبة والصمت حيال الاعتداءات التي طالت المسيحيين ومنها قتل الراهبة الإيطالية بالصومال وحرق الكنائس بالعراق والأراضي الفلسطينية وباكستان واندونيسيا وغيرها. ولا شك في أن قادة الأزهر يعون تماماً أن تغليب لغة العنف والقوة في مواجهة لغة العقل والمنطق لا تؤتي بثمارها الحسنة وإنما ستعود حتماً بالسلب على المحاولات المضنية التي يبذلونها لإزالة الأفكار التي تربط بين الإسلام والعنف وكذا الأفكار القائلة بانتشار الإسلام عبر الحروب والغزوات. لكن من المؤكد أن قرار رجال الأزهر وأصحاب القرار به بتعطيل الحوار بين رجال دين مسلمين وممثلي الكنيسة الكاثوليكية يعكس بشكل كبير عدم مقدرتهم على فهم مغزى وأهمية الحوار في إيجاد نقاط اتفاق أخلاقية مشتركة في مواجهة نقاط الاختلاف الحادة بين أتباع المسيحية والإسلام والتي تصل إلى إلغاء أحدهما للأخر.

لقد كان من الممكن تفهم موقف الأزهر من توقيف الحوار إذا ما كان الغرض منه (الحوار) التقريب بين الموقف العقائدي الإسلامي ونظيره المسيحي على أساس أن تصريح البابا بينيدكت من الإسلام ونبيه يعتبر ردة عن موقف ديني سابق أو ابتعاداً عن نقطة تلاقي عقائدية. ولكن الحوار بين الجانبين لم يكن مطلقاً ولن يكون أبداً بغرض جسر الهوة العقائدية الهائلة بين الديانتين. فالمسيحية التي تؤمن بتجسد الله في شخص يسوع المسيح الإنسان تؤكد على أن لا حاجة لأنبياء بعد مجيء المسيح الأول، في حين أن الإسلام - الذي تبنى مفاهيم المذهب النسطوري - المنشق عن المسيحية - الذي تواجد في الجزيرة العربية وقت حياة نبيه لا مفاهيم المسيحية التي اتبعتها الكنيسة الأولى - يؤمن بأن رسوله هو خاتم الأنبياء والمرسلين وينفي تماماً مسالة تجسد الله ويؤكد على أن يسوع المسيح لم سوى مجرد نبي.

المثير أن طرفي المجابهة الحالية وهما المؤسسات الإسلامية والفاتيكان لهما باع طويل في العديد من الصراعات السياسية التي ارتدت رداء الدين، حيث غزا المسلمون العشرات من البلدان في القرون الاولى من تاريخ الإسلام وتمكنوا من نشر دينهم في معظم هذه البلدان، في حين ارتبطت الكنيسة الكاثوليكية بالعديد من قصص الفساد السياسي في أوروبا وبالحملات التي أطلق عليها لقب "الصليبية" التي رمت لاسترداد المناطق المسيحية المقدسة من أيدي المسلمين. ولكن التشابه في التاريخ لا يقابله تشابه في الحاضر، حيث ابتعدت الكنيسة الكاثوليكية عن لعب أي دور سياسي، كما اعتذر الفاتيكان عن الحقبة المظلمة في تاريخه الطويل، في حين لا تزال المؤسسات الإسلامية تلعب ادواراً سياسية كبيرة، فضلاً عن أن المسلمون لم يعتذروا أبداً عن أي من حروبهم الطويلة ضد البلدان التي غزوها.

لا شك في أن الهوات العقائدية والفكرية والحضارية تلعب دوراً خطيراً في صراع الأديان الحالي. ولا شك في أن التواصل بين الأديان يبدو عسيراً بسبب التصرفات الشوفينية التي يقوم بها طرف ينتقد الأخر ولا يقبل بانتقاد الأخر له. ومن هنا فإن حوار الأديان يبدو كحوار الطرشان لأن طرفاً لا يزال يحجم دور العقل ويرفض المنطق والبرهان. لقد كان من الأجدى بالمؤسسات الإسلامية أن تعترف بوجود نقاط سوداء في التاريخ الإسلامي وتعتذر عنها بدلاً من محاولات مواراة التاريخ خجلاً وإنكاراً. ولقد كان من الأفضل لمؤسسة الأزهر أن تستمر في الحوار مع الفاتيكان للاستفادة من تجربة المسيحية في العديد من الأمور التي أسهمت في التقدم المذهل الذي حققه الغرب في القرون الأخيرة ومنها تحكيم لا تحجيم العقل، والتسامح مع الأخر، وتعميق الحريات العامة وبصفة خاصة حرية العقيدة، وفصل الدين عن السياسة، والاعتراف بالأخطاء التاريخية والاعتذار عنها. فهذه كلها العوامل الأساسية التي ستساعد في نزع فتيل صراع الأديان المستعر حالياً.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. 34 حارساً سويسرياً يؤدون قسم حماية بابا الفاتيكان


.. حديث السوشال | فتوى فتح هاتف الميت تثير جدلاً بالكويت.. وحشر




.. حديث السوشال | فتوى تثير الجدل في الكويت حول استخدام إصبع أو


.. عادات وشعوب | مجرية في عقدها التاسع تحفاظ على تقليد قرع أجرا




.. القبض على شاب حاول إطلاق النار على قس أثناء بث مباشر بالكنيس