الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حديث عن أم ريفيّة ( 2 )

علي فضيل العربي

2022 / 9 / 30
حقوق المراة ومساواتها الكاملة في كافة المجالات


حديث عن أمّ ريفيّة ( 2 )

لم يشأ صديقي الريفي إنهاء حديثه و بوحه عن أمّه الريفيّة " الشهرزاديّة " . بدا لي أنّ ذاكرته تختزن عنها ملحمة عجيبة ، مرصّعة بالبطولة و الشموخ . كانت هبة للريف – و مازالت - هي شمسه المشرقة و بدره المكتمل و غدرانه الفضيّة و جداوله الرقراقة و خمائله الخضراء .
روى لي ، بفخر و اعتزاز ، كيف كانت أمّه سندا حقيقيّا لأبيه في أوقات الشدّة و العسرة ، و كيف كانت له في أوقات المسرّات – رغم قلتها - بردا و سلاما و جُنّة و سكنا . و أردف قائلا :
كانت أمّي - منذ زواجها – خفيفة الظلّ ، باسمة الثغر ، عزيزة النفس ، لا تفوتها صلاة ، متصدّقة ، زاهدة في مأكلها و ملبسها . لم أسمع يوما ، أنّها أرهقت جيب أبي ، أو طلبت منه ، ما هو فوق طاقته المالية . بل كانت تغضب – أحيانا – بلطف ، إذا جلب لها أبي ثوبا أو حذاء ، أو قطعة قماش بواسطة الإقراض . كانت تفضّل أن لا يشتري لها ، فنحن الأبناء أحقّ و أولى . و تسأله : كم دفعت في هذا الثوب أو الحذاء أوالقماش ؟
فيجيبها : لم أدفع فيه فلسا واحدا ؟
كيف ، لم تدفع فلسا واحدا ، هل وجدته على قارعة الطريق ؟
و لحظتها يقول لها أبي مبتسما :
اشتريته ( بالكريدي ) .
لحظتها يرتفع ضغطها ، و تحمّر وجنتاها ، و تتّسع عيناها ، و يغلي مرجلها ، و هي تردّد :
أعده إلى صاحبه ، لن ألبسه ، لن أنتعله . أنا مستورة ، و الحمد لله .

و أضاف صديقي الريقيّ :
و كانت أمّي الريفيّة تحتفظ ، بصندوق من الخشب الأصيل ، على جوانبه منمنمات لأزهار خضراء و أورجوانيّة اللون ، و سنونوات سوداء ، و خطوط حمراء و صفراء و خضراء ، مستطيل الشكل ، لا يزيد ارتفاعه عن المتر ، و عرضه في حدود نصف المتر ، أما طوله فمتر أو يزيد . أخبرتني ، أنّه صندوق عرسها ، وضعت لها أمّها ( جدّتي ) فيه ، عباءة و قطعة صابون و كحلا و عطرا بلديّا و مسكا و خلخالا من الفضّة ، و أشياء أخرى ، لا طائل من ذكرها . لكن ، أغلى ما حملته إلى بيت زوجها - الذي لم تعرفه ، و لم يعرفها ، و لم تره ، و لم يرها - وصيّة نفيسة من أمّها ( جدّتي ) . فقد أوصتها بوجوب القناعة و الطاعة ، و السهر على راحته رجلها ( زوجها ) و خدمته ، و حفظ أسراره و صون ماله و حسن تربيّة عياله .
و وصفت لي أمي الريفيّة – قال صديقي الريفيّ - يوم عرسها . و قالت :
جاء الدفّاعة ( أهل العريس ) عند الضحى ، على الخيل و البغال ، حاملين معهم الزاد ( المهر ) ، على عرف الوليّ الصالح ، سيدنا معمر ، أبومكحلة ( بندقيّة ) . وكان عبارة عن كبش أقرن و قنطار سميد أجود و قدر من الدُّهن ( الزبدة ) البلدي الأصيل ، و محرمة أرجوانيّة اللون ( منديل يوضع على الرأس ) ، و قطعة من الذهب ، قيمتها ربع دينار . أحسن أبي ( جدي ) استقبالهم ، و أكرمهم كرما حاتميّا ، و بعد الغذاء و شرب القهوة و الشاي ، أركبوني حصانا رفقة شيخي ( والد الزوج ) ، و غادروا مساء ، تحت وقع بارود الرجال و زغاريد النساء و غنائهم . ( يا علايتي سيدي معمر يا علايت السادات .. يا علايتي بو مكحلة حرمات حميسيات ) .

و أردف صديق الريفيّ قائلا :

و طوال حياتي ، لم أر أبي يشتري ، كثيرا من مواعين مطبخنا المتواضع و البدائيّ جدّا . فهو عبارة عن جزء من مساحة الكوخ المستطيل ، احتوى في زاوية من زواياه الأربعة ، على كانون بأثافيه الثلاث ، و مائدة خشبيّة دائريّة الشكل ، تكاد تلامس الأرض لقصر قوائمها الأربعة ، و غرابيل معلّقة في الركيزة ، التي تتوسّط الكوخ ، و قليل من المؤونة موضوعة فوق سُدّة ( مرتفع عن الأرض ) ، خوفا من البلل ، و مرفعا خشبيّا معلّقا على الجدار الطينيّ ، و رحى حجريّة يدويّة ، و ملاعق خشبيّة ، و قدور و كساكس من الطين المحلّي .
و كانت يد أمّي ماهرة في تمليس ( صنع ) الأواني الفخاريّة ، مثل الصحون و القدور و الكساكس و القصع . ثم تتفنّن تزيينها بطلاء أرجواني ، تجلبه من الجبل و تدقّه و تعجنه بالماء ، ثم إذا جفّت ، تحميها ( حرقها ) في تنّور ، ناره من ( الوقيد ) ( روث البقر ) . كانت أمّي – رحمها الله - توفّر على أبي ثمن شراء الأواني ( العصريّة ) من السوق أو الدكاكين .
قلت له : كانت أمّك – طيّب الله ثراها - امرأة من طينة النساء العظيمات .
- أجل ، يا صديقي . لم تكن تنتمي إلى عالم ( النصف ) . و لم يكن ينقصها عقل أو دين أو حكمة . كانت هي ( الكلّ ) ، و أبي هو النصف . كانت ركيزة الأسرة ، و سقفها ، و جدرانها ، و شمسها . تعمل عمل النساء و عمل الرجال ، و لا تكلّ أو تملّ ، أو تشكو من عناء أو شقاء .
ثم واصل صديقي الريفيّ حديثه ، بعد هنيهة صمت و تأمّل :
لم يكن أبي قادرا على إشباعنا - نحن دزينة من الأبناء ( اثنا عشر ) - و ردّ شبح الجوع عنّا و حمايتنا من غاراته طوال فصول السنة كلّها ، لولا حكمة أمّي و براعة تدبيرها . كانت بمثابة الرئيسة في الأسرة ، و أبي نائبها ، و نحن معشر الأبناء رعيّتها .
لقد شاركت أمّي الريفيّة في ثورة بلادها ضد المحتل الأجنبي . كان سلاحها إطعام المجاهدين الجوعى ، تخبز لهم و تفتل الكسكسي ، و تعدّ لهم القهوة و الشاي ، و تخفيهم في المطامير و السراديب إذا داهمهم خطر ، و توصل لهم المؤونة في قمة الجبال ، و كانت عينا من عيون الثورة . و لولا أمّي – و مثيلاتها الريفيّات - ، لمات أكثر المجاهدين جوعا .
و العجب العجاب هو خروج علينا بعض المعتوهين ، و فاقدي العقول ، ليمضغوا أقوالا يتّهمون فيها المرأة بالنقص و القصور العقلي و الديني . و يدّعون القوامة ، و هم الخاملون ، الكسالى ، أحلاس المقاهي ، يأكلون و يشربون و يلبسون و يدخنون السجائر من أجرة المرأة ، و من ذمتها الماليّة ، و لا يستحون .
و اختتم صديقي الريفيّ ، ملحمته عن أمّه الريفيّة قائلا :
ألا ، ما أتعس مجتمع يهين كرامة المرأة ، و يهضمها حقوقها الشرعيّة و القانونيّة ..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الأكاديمية والإعلامية الفلسطينية مي أبو عصب


.. الصحفية المغربية نعيمة بومور




.. صحفيات تنددن بالانتهاكات التي يتعرض لها الصحفيينات خلال الحر


.. أقوال المرأة خالدة في ذاكرة التاريخ




.. قصة معاناة امرأة من رحم الأزمة السورية